القرار الدولي 425 بين الهزيمة والنصر
عصام الحسيني
لقد عرفت المجتمعات الإنسانية عبر تاريخها، حالات متعددة من الاعتداءات والحروب الدائمة، لأسباب مختلفة، وانْ كان السبب الأساسي هو سبب اقتصادي بامتياز، لتليها أسباب أخرى، أكانت دينية أو عرقية أو قومية.
وتطوّرت هذه الحروب وتنوّعت أشكالها، من حروب فردية بسيطة، إلى حروب جماعية مركبة، لتأخذ مع التاريخ المعاصر، منحى الحروب الجماعية العالمية، والتي جرى التعبير عنها بالحربين العالميتين الأولى والثانية، واللتين أدخلتا العالم في مأساة إنسانية عميقة، لا نزال نعاني من أثارها وتداعياتها السلبية حتى الأن.
وأمام هذا الواقع المحزن، ومن أجل إنقاذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب، أكدت شعوب الأمم المتحدة، إيمانها بالحقوق الأساسية للإنسان، في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة، وفي الكثير من موادها، التي تدعو إلى حفظ السلم والأمن الدوليين.
في مقاصد الأمم المتحدة ذات الصلة، تقول المادة الأولى ـ الفقرة 1: حفظ السلم والأمن الدوليين، وتحقيقاً لهذه الغاية، تتخذ الهيئة التدابير المشتركة الفعّالة لمنع الأسباب التي تهدّد السلم ولإزالتها، وتقمع أعمال العدوان وغيرها من وجوه الإخلال بالسلم، وتتذرّع بالوسائل السلمية، وفقاً لمبادئ العدل والقانون الدولي، لحلّ المنازعات الدولية التي قد تؤدّي إلى الإخلال بالسلم أو لتسويتها.
ولأهمية الموضوع، ومن أجل أن يكون تدخل الأمم المتحدة سريعاً وفاعلاً، لإرساء السلم والأمن الدولي، أوضحت المادة 24 ـ الفقرة 1: رغبة في أن يكون العمل الذي تقوم به الأمم المتحدة سريعاً وفعّالاً، يعهد أعضاء تلك الهيئة إلى مجلس الأمن بالتبعيات الرئيسية في أمر حفظ السلم والأمن الدوليين، ويوافقون على أنّ هذا المجلس يعمل نائباً عنهم في قيامه بواجباته التي تفرض عليه هذه التبعات.
وأوضح الميثاق، أنّ مجلس الأمن يحدّد ويقرّر الحالات التي من شأنها أن تهدّد الأمن والسلم الدوليين، عبر المادة رقم 39 والتي تندرج تحت الفصل السابع، بالقول: يقرّر مجلس الأمن ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان، ويقدّم في ذلك توصيات أو يقرّر ما يجب اتخاذه من التدابير طبقاً لأحكام المادتين 41 و42 لحفظ السلم والأمن الدوليين أو إعادته إلى نصابه.
ويقرّر مجلس الأمن عبر المادة 41 ما يجب اتخاذه من تدابير غير عسكرية لتنفيذ قراراته في حفظ السلم والأمن الدوليين، من العقوبات الاقتصادية وقطع العلاقات الديبلوماسية.
ويجيز الميثاق لمجلس الأمن، عبر المادة 42 استخدام القوة العسكرية لحفظ السلم والأمن الدوليين أو لإعادة الأمور إلى نصابها عبر القوات التابعة لأعضاء الأمم المتحدة.
إنّ القرارات الصادرة تحت الفصل السابع، هي قرارت ملزمة، لكنها لا تأخذ بالضرورة منحى استعمال القوة، إلا تلك القرارات الصادرة بموجب المادة 42.
وفي حالة القرار الدولي رقم 425 الصادر عام 1978 عن مجلس الأمن، والذي جاء بعيد اجتياح العدو الصهيوني لجنوب لبنان، بحجة إزالة قواعد منظمة التحرير الفلسطينية، بعد تنفيذ عملية فدائية في فلسطين المحتلة بقيادة الشهيدة دلال المغربي، نلاحظ الأمور التالية:
أ صيغة القرار:
في الديباجة يعبّر مجلس الأمن عن قلقه الشديد من تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط، مما قد يكون لذلك من عواقب على الحفاظ على السلام الدولي.
وفي البنود، يدعو إلى الاحترام التام لسلامة لبنان الإقليمية واستقلاله السياسي، ويدعو «إسرائيل» إلى أن توقف عملها العسكري ضدّ السلامة الإقليمية للبنان، وأن تسحب على الفور قواتها من جميع الأراضي اللبنانية.
كما يقرّر في ضوء طلب الحكومة اللبنانية، تشكيل قوة موقتة تابعة للأمم المتحدة في الحال، تخضع لسيطرتها، لتعمل في جنوب لبنان بقصد التحقق من انسحاب القوات «الإسرائيلية»، وإعادة السلم والأمن الدوليين.
كما يطلب المجلس من السكرتير العام، أن يقدّم تقريراً إلى المجلس خلال 48 ساعة حول تطبيق هذا القرار.
ب تطبيق القرار:
اعتبرت حكومة الكيان الصهيوني، أنها انسحبت من لبنان في أيار عام 2000 تنفيذاً للقرار 425 بعد مرور اثنين وعشرين سنة من صدوره وبذلك تكون قد امتثلت لقرارات الشرعية الدولية.
وفي دراسة قانونية لحيثيات القرار المذكور، نستنتج التالي:
أولاً: من حيث شكل إصدار القرار، لم يصدر تحت الفصل السابع الملزم، علماً أنّ ما ورد فيه من إشارات، حول خرق السيادة الوطنية لدولة لبنان من كيان العدو واضحة، حينما ورد عن «مناشدة إسرائيل إلى وقف للأعمال العسكرية ضدّ السلامة الإقليمية للبنان».
والمناشدة كما وردت في هذا القرار، تشبه إلى حدّ كبير، منطق المغازلة السياسية، أكثر مما تشبه المخاطبة القانونية الفاعلة، والصادرة عن أهمّ مرجعية دولية.
ثانيا: من حيث مضمون القرار، ولما تأكد لمجلس الأمن خطورة العدوان، لجهة تهديده للسلم والأمن الدوليين، كان واجباً عليه أن يدرج القرار بداية تحت مفاعيل المادة 41 الملزمة في الاقتصاد والسياسة إحساساً بالمسؤولية، وانْ لم تستجيب الدولة المعتدية لبنود هذه المادة، وجب على مجلس الأمن الذهاب إلى بنود المادة 42 التي تمتلك قوة زاجرة ملزمة في التنفيذ، والتعامل بمنطق المحافظ على المقصد الأساسي للأمم المتحدة.
ثم كان لزاماً على مجلس الأمن، أن يتابع معالجة هذه الأزمة بشكل فاعل، والسهر على تطبيق بنوده، نظراً لأهمية وخطورة التهديد القائم.
لكن مجلس الأمن اكتفى بالمناشدة والتمني، وترك الأزمة تتفاعل بغير مسؤولية، وهو ما يترك علامة استفهام عن كيفية مقاربة الأزمات الدولية وعن كيفية معالجتها؟
وبالعودة إلى ما ورد عن تطبيق العدو الصهيوني للقرار، وانْ كان من حيث الواقع قرار لم ينفذ بالكامل، من إشكالية مزارع شبعا، إلى الغجر، إلى المنطقة المحتلة بالألغام، نسأل عن الأسباب الحقيقية الموجبة لهذا الانسحاب، هل هو لتطبيق القرار الدولي رقم 425، أم هو هروب من جحيم لبنان؟
الواقع أنّ العدو الصهيوني، من خلال احتلاله للأرض العربية، وممارسته فعل الإرهاب الموصوف بإرهاب الدولة، لم يمتثل للإرادة الدولية القانونية في تاريخه، وإنْ اضطره الأمر فيعود ويتنكّر لهذا الامتثال بطرق خارج إطار القانون الدولي، وبحماية غربية.
مثال ذلك، ما تمّ توقيعه بتاريخ 12 أيار 1948 بين الفريقين العربي و«الإسرائيلي» في لوزان، على بروتوكول يقضي بانسحاب «الإسرائيليين» من الأراضي التي احتلوها خارج حدود التقسيم. وكذلك «استعداد إسرائيل للسماح لأهل فلسطين بالعودة إلى ديارهم». وتبيّن بعد ذلك أن توقيع «الإسرائيليين» على البروتوكول كان مناورة خادعة لإيهام الدول الأعضاء في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، بأنّ «إسرائيل» ستلتزم بالتسوية. وكان الهدف منها إقناع الجمعية العمومية بقبول «إسرائيل» عضواً في الأمم المتحدة. وبعد قبولها في عضوية المنظمة الدولية أعلنت في نفس العام 1949 عن عزمها عدم تنفيذ ما التزمت به في لوزان بالقول «إنّ الساعة لا يمكن أن ترجع إلى الوراء. إن عودة أيّ لاجئ إلى مكان إقامته الأصلية هو شيء مستحيل».
إذاً… العدو الصهيوني لم ينفذ القرار الدولي طوعاً، بدليل أنه تأخر في تنفيذه لأكثر من عقدين من الزمن، مارس خلالها أبشع صور الإرهاب الدولي، ولم تسلم منه حتى مراكز القوة الدولية في قانا، ودون المتابعة الفاعلة من مجلس الأمن الدولي، أو مواكبة لتدرّج العقوبات الزاجرة، التي تضع حداً لهذا الاحتلال والإرهاب.
لكن السبب الحقيقي لانسحاب العدو من الأراضي اللبنانية، يعود إلى المقاومة الباسلة، التي شنّت حرب استنزاف عليه، مستعملة لأساليب ولنظريات عسكرية جديدة ومبتكرة، جعلت من استمرار احتلاله محنة حقيقية لجنوده، وحرب استنزاف لا تنتهي، ففضل الخروج مكتفياً بما وقع عليه من خسائر، ومتحمّلاً عواقب هذا الانسحاب النفسي والمادي.
لقد انتصرت مقاومة الشعب على احتلال العدو، انتصرت إرادة الوطن على رصاص العدوان.
لكن النصر الذي حصل عام 2000 المعمّد بدماء الشهداء، كان نصراً مزدوجاً:
الأول: لأنه أعطي للوطن العزة والكرامة بحريته، التي ضمنها القانون الدولي، والشرائع، والمواثيق، والعهود، والحقوق الطبيعية.
والثاني: لأنه جاء دون أيّ اتفاق مع العدو، ينظم هذا الانسحاب، وما يوجب من اعتراف ضمني بوجوده، وهذا ما تسعى الدولة الصهيونية إلى تحقيقه، من خلال احتلالاتها للأراضي العربية، والمساومة على الاعتراف بها، أيّ الأرض مقابل الاعتراف.
ومثال ذلك أنّ الدولة الصهيونية، أعادت سيناء إلى السيادة المصرية، عبر اتفاقية «كامب ديفيد»، التي فكت العزلة السياسية عنها، وأدّت إلى اعتراف عربي بها، كأهمّ نصر سياسي، ليكمل النصر العسكري.
وأتى بعدها الاعتراف الفلسطيني عبر مأساة «أوسلو»، والاعتراف الأردني بعد مسرحية «وادي عربة».
لقد مارس العدو الصهيوني، كلّ أنواع الإرهاب المادي والمعنوي بحق الشعوب والأنظمة العربية، ليستلب منها الاعتراف بعد أن استلب منها الأرض.
لكنه في حالة لبنان، فشل في صياغة اعتراف، مبني على مقايضة انسحابه بالأرض، لأنّ المقاومة في لبنان كانت وفية لدماء شهدائها، وعلى قدر من المسؤولية في إدارة الصراع، مما ولد نصر عام 2000 ليكون زهرة بأريج الحرية.
تطبيق القرار الدولي رقم 425 عام 2000 هو هزيمة للعدوان، ونصر للوطن.