صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

وهي إذ تتسع لمثل هذه الدراسات تبقى مجالاً مفتوحاً للحوار وطرح الإشكاليات الفكرية والسياسية وغيرها، تنشيطاً لدور الثقافة في الصيرورة الاجتماعية. علماً أن الآراء التي ترد على مساحة الصفحة تعبر عن أصحابها وليست بالضرورة مطابقة لقناعات الصحيفة.

إلا أنه انطلاقاً من القناعة الراسخة بضرورة خلق حوار فكري حول القضايا والإشكاليات كافة وما أكثرها، والتي تفرض نفسها على صاحب القرار والمثقف وقادة الرأي والمواطن في أي موقع كان، كانت صفحة الدراسات في «البناء» هي الترجمة العملية لهذه القناعة آملين أن تشكل هذه الصفحة مساحة فكرية ـ سياسية تعنى بهموم الوطن والمواطن، تدرس الحاضر لترسم المستقبل.

الوهّابية نشأةً ومساراً: جاسوس يحظّر إماماً 2/1

د. نسيب بوضرغم

من هو محمد بن عبد الوهّاب؟

هو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان القرقوزي 1 المولود عام 1703م والمتوفى عام 1791. كان من أتباع المذهب الحنبلي، ولكنه خرج عليه في كثير من قواعده تحت اسم دعوة التجديد. دعا المسلمين للتخلّص من البدع والخرافات ، ولسوف نوضح في ما يلي ماذا كان يقصد بالبدع والخرافات.

ولكن قبل الوصول إلى مرحلة بث الدعوة الوهابية، لا بدّ من الوقوع على حقيقة محمد بن عبد الوهاب وظروف تكوّنه الفكري، إذ أورد الجاسوس الإنكليزي مستر همفري في مذكراته2 تفاصيل عن هذا التكوّن سوف نعرضها مفصّلة.

لا بدّ من الإشارة سريعاً إلى حقيقة هذا الجاسوس، الذي لم يُقدّر، بنظري، لجاسوس آخر أن يُحدث ويؤثر مثلما أحدث وأثّر هذا الجاسوس، الأثر المتمادي في تاريخنا والذي لم يزل يحفر عميقاً ويمزّق نسيج منظومتنا الوطنية والقومية والدينية، الأثر الذي سبب أنهاراً من الدماء، سالت على الأرض العربية.

من هو همفري؟

يقول همفري: «أوفدتني وزارة المستعمرات عام 1710 إلى كل من مصر والعراق وطهران والحجاز والأستانة، لأجمع المعلومات الكافية التي تعزّز سبل تمزيقنا للمسلمين، ونشر السيطرة على بلاد الإسلام. وبُعث في الوقت نفسه تسعة آخرين من خيرة الموظفين لدى الوزارة ممن تكتمل فيهم الحيوية والنشاط والحماسة لسيطرة الحكومة على سائر أجزاء الإمبراطورية، وسائر بلاد المسلمين، وقد زوّدتنا الوزارة بالمال الكافي، والمعلومات اللازمة، والخرائط الممكنة، وأسماء الحكّام والعلماء ورؤساء القبائل، ولم أنسَ كلمة السكرتير حين ودّعنا باسم المسيح وقال: «إن على نجاحكم يتوقف مستقبل بلادنا فابدوا ما عندكم من طاقات للنجاح» ص 33 .

ويورد همفري كيف وصل إلى الأستانة وتعلّم اللغة التركية، وكيف أعلن أنه مسلم واسمه محمد وكيف أخذ أصول الدين والعبادات من خلال درسه القرآن الكريم على يد الشيخ أحمد أفندم وكيف عانى حتى تعلّم عادات المسلمين.

مكث هذا الجاسوس مدة سنتين في الأستانة، وكان يعدّ تقريراً شهرياً لوزارة المستعمرات، وبعدها عاد إلى لندن بطلب من وزارة المستعمرات، هو والآخرون الذين أُرسلوا معه إلى بلدان الشرق.

كُلّف همفر من قِبل سكرتير المستعمرات بمهمة ذات شقّين، قائلاً له عليك:

«أن تجد نقطة الضعف عند المسلمين، والتي تتمكن بها من أن ندخل جسمهم ونبدّد أوصالهم، فإن أساس النجاح على العدو هو هذا.

«أن تكون أنت المباشر لهذا العمل إذا ما وجدت نقطة الضعف، فإنْ قَدِرتَ على المهمة فسوف أطمئن إلى أنك أنجح العملاء، وستستحق وسام الوزارة. المرجع السابق ص 45 .

يقول همفري: «وبعد ستة أشهر وجدت نفسي في البصرة. ص- 46 .

وقد تعرّف جيداً إلى تكوينها الإتني والديني، فتذكّر ما قاله له سكرتير وزارة المستعمرات: «اعلم يا همفر أن هناك نزاعات طبيعية بين البشر منذ أن خلق الله هابيل وقابيل، وستبقى هذه النزاعات إلى أن يعود المسيح. مهمتك في هذه السفرة أن تتعرّف إلى هذه النزاعات بين المسلمين، وتعرف البركان المستعد للانفجار فيها، وتزوّد الوزارة بالمعلومات الدقيقة حول ذلك، وإنْ تمكّنت من تفجير النزاع كنت في قمة الخدمة لبريطانيا العظمى. المرجع السابق- ص 50-51 .

ويكمل همفري: «لما وصلت إلى البصرة ذهبت لتوّي إلى أحد المساجد، وكان المسجد لعالِمٍ من أهل السنة، عربي الأصل واسمه الشيخ عمر الطائي» ص- 53 . ولكن إمام المسجد شكّ بأمره بسبب لونه ولهجته. وقام يتنقل من مكان إلى آخر خوفاً من انكشاف أمره حتى وصل إلى محل نجّار وتعاقد معه بأجر زهيد وكان مالكه شيعياً يدعى عبد الرضا من خراسان.

انتهز الجاسوس همفري الفرصة وتعلّم اللغة الفارسية، وأخذ يشارك من يأتي إلى الدكان في الجدل والمناقشة، والهجوم اللاذع على حكومتهم وعلى السلطان العثماني.

يقول همفري: «في هذا الوقت راح شاب يتردّد إلى الدكان، ويعرف اللغات الثلاث التركية والفارسية والعربية – وكان في زيّ طلبة العلوم الدينية وكان يدعى محمد بن عبد الوهاب». ص57 . ويتابع: «كان شاباً طموحاً للغاية، عصبيّ المزاج، ناقماً على الحكومة العثمانية، أما حكومة فارس فلم يكن له شأن بها. كان سبب صداقته مع مالك المحل عبد الرضا أن الاثنين كانا ناقمين على الخليفة. وإني لا أعلم من أين كان هذا الشاب يعرف اللغة الفارسية، مع أنه كان من أهل السنة». ص- 57 .

ويكمل الجاسوس همفري: «كان محمد بن عبد الوهاب شاباً متحرراً بكل معنى الكلمة، لا يتعصّب ضد الشيعة كما كانت الحال عند غالب أهل السنة، حيث يتعصّبون ضد الشيعة، ويقولون إنهم ليسوا مسلمين، كما أنه لم يكن يرى أي وزن لأتباع المذاهب الأربعة المتداولة بين أهل السنة ويقول: «إنها ما أنزل الله بها من سلطان»».

ويتابع الجاسوس همفري قائلاً: «وكان الشاب الطموح محمد يقلد فهم نفسه في فهم القرآن والسنة، ويضرب بآراء المشايخ، لا مشايخ زمانه والمذاهب الأربعة فحسب، بل آراء أبي بكر وعمر أيضاً بعرض الحائط، إذ فهِم هو من الكتاب على خلاف ما فهموه». ص- 59 .

ويكمل همفري على لسان محمد بن عبد الوهاب أنه يقول: «إن الرسول قال إني مختلفٌ فيكم الكتاب والسنة، ولم يقل إني مختلف فيكم الكتاب والسنة والصحابة والمذاهب». المرجع السابق- ص 59 .

يورد همفري حواراً جرى في منزل عبد الرضا، صاحب دكان النجارة، بين محمد بن عبد الوهاب وعالم شيعي هو جواد القمي وكان الجاسوس، إضافة إلى بعض المدعوين، يستمع إلى الحوار.

ويقول همفري: «أنا لم أحفظ الحوار العنيف الذي جرى بين محمد بن عبد الوهاب والشيخ، إنما حفظت مقتطفات منه. قال له القمي: إذا كنت متحرراً ومجتهداً كما تدّعي فلماذا لا تتبع علياً كالشيعة؟ قال محمد: لأن علياً كان مثل عمر وغيره، ليس قوله حجة، وإنما الحجة الكتاب والسنة فقط. فقال القمي: ألمْ يَقُل الرسول أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها، إذاً ففرِّق بين علي وباقي الصحابة. قال محمد: إذا كان قول علي حجة، فلماذا لم يقل الرسول «كتاب الله وعلي بن أبي طالب». قال القمي: بل قال، حيث قال ص : «كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، وعلي سيد العترة. فأنكر محمد بن عبد الوهاب أن يكون الرسول قد قال ذلك، لكن الشيخ القمي جاء التيه بأدلة مقنعة حتى سكت محمد ولم يجر جواباً. لكن محمداً اعترض عليه وقال: «إذا قال الرسول «كتاب الله وعترتي» فأين سنّة الرسول؟ قال القمي: سُنّة الرسول هي شرح لكتاب الله، فلماذا قال الرسول «كتاب الله وعترتي»، أراد «كتاب الله بشرحه الذي هو السنّة. قال محمد: أليس كلام العترة أيضاً شرحاً لكتاب الله؟ فما الحاجة إليهم؟ قال القمي: لما مات الرسول احتاجت الأمة إلى شرحٍ للقرآن يطابق حاجات الزمن، لذا أرجع الرسول الأمة إلى الكتاب كأصل، وإلى العترة كشرّاح له، في ما يتحدد من حاجات الزمن». المرجع السابق- ص 60-61

لقد خلق هذا الحوار سروراً كبيراً في نفس الجاسوس، لأنه رأى فيه الصيد المطلوب.

لنسمع الجاسوس همفري يقول: «لقد أعجبت بهذا البحث أيما إعجاب ورأيت أن محمداً الشاب أمام القمي، الشيخ الطاعن في السن، كالعصفور في يد الصياد لا يتمكن حراكاً».

ويكمل همفري: «لقد وجدت في محمد بن عبد الوهاب ضالتي المنشودة، فإن تحرره وطموحه وتبرّمه من مشايخ عصره، ورأيه المستقل الذي لا يهتم حتى بالخلفاء الأربعة، أمام ما يفهمه هو من القرآن والسنّة، كان أكبر نقاط الضعف التي كنت أتمكن من أن أتسلّل منها إلى نفسه. وأين هذا الشاب المغرور من ذلك الشيخ التركي الذي درست عنده في تركيا، فإنه كان مثال السلف، كالجبل، لا يحرّكه شيء، إنه كان إذا أراد أن يأتي باسم أبي حنيفة قام وتوضّأ. أما الشيخ محمد بن عبد الوهاب فكان يزدري بأبي حنيفة أيما ازدراء، وكان يقول عن نفسه: «إنني أكثر فهماً من أبي حنيفة». وكان يقول «إن نصف كتاب البخاري باطل»». المرجع نفسه ص 62 .

لقد وجد الجاسوس ضالته، وربما نقطة الضعف الكبرى التي نبّهه إليها رئيسه، سكريتير وزارة المستعمرات.

يقول همفري: «لقد عقدت بيني وبين محمد أقوى الصلات والروابط، وكنت أنفخ فيه باستمرار وأبيّن له أنه أكثر موهبة من علي عمر ، وأن الرسول لو كان حاضراً، لاختارك خليفةً له دونهما. وكنت أقول له دائماً: آمل تجديد الإسلام على يدك، فإنك المنقذ الوحيد الذي يرجى به انتشال الإسلام من هذه السقطة». المرجع السابق ص 62

ويتابع الجاسوس: «وقد قرّرت مع محمد أن نناقش في تفسير القرآن على ضوء أفكارنا الخاصة، لا على ضوء فهم الصحابة والمذاهب والمشايخ. كنا نقرأ القرآن ونتكلّم عن نقاط فيه كنت أقصد من ورائها إيقاع محمد في الفخ وكان هو يسترسل في قبول آرائي ليظهر نفسه بمظهر المتحرر وليجلب ثقتي أكثر فأكثر». المرجع السابق- ص 62-63

عندما اقتنع الجاسوس همفري بأن رأيه صار مقبولاً عند محمد بن عبد الوهاب، أخذ يحاول تغيير قناعات دينية لديه، وكل ذلك توطئة للسيطرة عليه نهائياً.

يقول الجاسوس همفري: «قلت له ذات مرة: الجهاد ليس واجباً، قال: وكيف؟ وقد قال الله جاهد الكفار. قلت الله يقول: جاهد الكفار والمنافقين، فإذا كان الجهاد واجباً لماذا لم يجاهد الرسول بلسانه. قلت فجهاد الكفار إذاً واجب باللسان. قال: لكن الرسول حارب الكفار. قلت: حرب الرسول على الكفار كانت دفاعاً عن النفس، حيث أن الكفار أرادوا قتل الرسول فدفعهم، فهزّ محمد رأسه علامة الرضا». المرجع السابق- ص 63

عندما تأكد همفري من تأثير رأيه في محمد بن عبد الوهاب قرّر أن يدخل إلى دائرة حساسة وهي النساء.

يقول: «قلت له ذات مرة، «متعة النساء جائزة» قال: كلا، قلت: الله يقول: «فما استمتعتم به منهن فأتوهن أجورهن». قال: عمر حرّم المتعة قائلاً: «متعتان كانتا على عهد رسول الله، وأنا أحرّمهما وأعاقب عليهما». قلت: أنت تقول، أنا محمد أعلم من عمر، فلماذا تتبع عمراً، ثم إذا قال عمر إنه حرّمها وإن الرسول حلّلها، فلماذا تترك رأي الرسول وتأخذ برأي عمر؟ فسكت، ولما وجدت سكوته دليل الاقتناع، وقد أثّرت فيه الغريزة الجنسية ولم تكن له إذاك زوجة. قلت له: ألا نتحرّر أنا وأنت ونتخذ «متعة» نستمتع بها؟ فهزّ رأسه علامة الرضا. وقد اغتنمت أنا هذا الرضا أكبر اغتنام، وقرّرت موعداً لآتي إليه بامرأة ليتمتع بها، وكان همي أن أكسر خوفه من مخالفة الناس، لكنه اشترط عليّ أن يكون الأمر سراً بيني وبينه، وأن لا أخبر المرأة باسمه. فذهبت فوراً إلى بعض النساء المسيحيات اللواتي كنَّ مجنّدات من قبل وزارة المستعمرات لإفساد الشباب المسلم، ونقلت لها كامل القصة، وجعلت لها اسم صفية. في يوم الموعد، ذهبت بالشيخ «محمد» إلى دارها، وكانت الدار خالية إلا منها، فقرأنا أنا والشيخ صيغة العقد لمدة أسبوع، وأمهرها الشيخ نقداً ذهبياً، فأخذت أنا من الخارج وصفية من الداخل نتراوح على توجيه الشيخ محمد بن عبد الوهاب». المرجع السابق- ص64 .

ويتابع: «وبعد أن أخذت صفية من محمد كل مأخذ، وتذوّق محمد حلاوة مخالفة أوامر الشريعة تحت غطاء الاجتهاد والاستقلال في الرأي والحرية، قمت بعد اليوم الثالث من المتعة وأجريت حواراً مع محمد عن «عدم تحريم الخمر». كان كلما استدلّ بالآيات القرآنية والأحاديث زيّفتها وقلت له أخيراً: «لقد صح أن معاوية ويزيد وخلفاء بني أمية وخلفاء بني العباس كانوا يتعاطون الخمر، فهل من الممكن أن يكون كل أولئك على ضلال وأنت على صواب. إنهم لا شك كانوا أفهم بكتاب الله وسنّة الرسول، مما يد على أنهم لم يفهموا التحريم وإنما فهموا الكراهة والإعافة. أخذ محمد يسمعني بكل قلبه، ثم تنهّد وقال: بل حرام، لا، إذا لم تكن تُسكر، ثم أردف الشيخ قائلاً: وكان عمر صحيح الفهم في ذلك، لأن القرآن يقول: «إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة»، فإذا لم تسكر الخمر، لم تفعل هذه الأمور التي ذكرت في الآية، وعليه فلا تنهي عن الخمر إذا لم تكن مسكرة». المرجع السابق- ص 65 .

لم يتوقف الجاسوس عند ذلك، بل حاول أن يهزّ قناعاته بضرورة الصوم والصلاة، ولكنه يرفض حيناً ويوافق أحياناً، تماماً كما حصل بموضوع الصوم. ولقد حاول همفري أن يناقشه مرة في الرسول، ولكنه صمد في وجهه وقال: «إن تكلّمت بعد ذلك حول هذا الموضوع قطعت علاقتي بك. وخشيت أن ينهار كل ما بنيته، من أجل ذلك أحجمت عن الكلام حول الرسول». المرجع السابق- ص 68

يقول الجاسوس همفري: «أخذت في إذكاء روحه، في أن يكون لنفسه طريقاً ثالثاً غير السنّة والشيعة، وكان يستجيب لهذا الإيحاء كل استجابة لأنه كان يملأ غروره وتحرّره». المرجع السابق- ص 68 .

وحتي يكون الجاسوس همفري قريباً منه أكثر سأل محمداً مرة: «هل صحيح أن النبي آخى بين أصحابه؟ قال نعم. قلت: هل أحكام الإسلام وقتيّة أم دائمة، قال: بل دائمة، لأن الرسول يقول: «حلالُ محمد حلالٌ إلى يوم القيامة، وحرام محمد حرامٌ إلى يوم القيامة». قلت: إذن لنتآخى أنا وأنت، فتآخينا. ومنذ ذلك الحين كنت أتبعه في كل سفرٍ وحضر، وكنت أهتم لأن تؤتي الشجرة ثمارها التي صرفت لأجلها أثمن أوقات شبابي». المرجع السابق- ص 68 .

كان الجاسوس يراسل وزارة المستعمرات شهرياً، ويضعها في تفاصيل مشروعه مع محمد بن عبد الوهاب، وكان يأتيه الجواب بالتشجيع.

يقول همفري في هذا الصدد: «كنت أكتب بالنتائج إلى الوزارة كل شهر مرة، كما كانت عادتي منذ أن خرجت من لندن، وكان الجواب يأتيني بالتشجيع الكافي، فكنت أنا ومحمد نسير في الطريق الذي رسمناه بخطى سريعة، ولم أكن أفارقه، لا في السفر ولا في الحضر، وكانت مهمتي أن أربي فيه روح الاستقلال والحرية وحالة التشكيك، وكنت أبشّره دائماً بمستقبل زاهر وأمدح فيه روحه الوقّادة ونفسه النقّادة». المرجع السابق- ص 69

لقد لعب الجاسوس همفري على غرور محمد بن عبد الوهاب إلى أبعد الحدود، فهاكم ما يقول في هذا الصدد: «لفّقت لمحمد ذات مرة حلماً، وقلت له: «إني رأيت البارحة في المنام رسول الله ووصفته بما كنت سمعته من خطباء المنابر- جالساً على كرسي وحوله جماعة من العلماء، لم أعرف أحداً منهم، وإذا بي أراك قد دخلت ووجهك يشرق نوراً، فلما وصلت إلى الرسول قام الرسول إجلالاً لك، وقبّل بين عينيك وقال لك يا محمد أنت سميّي ووارث علمي والقائم مقامي في إدارة شؤون الدين والدنيا، فقلتَ أنتَ: يا رسول الله إني أخاف أن أُظهِر علمي على الناس. قال رسول الله لك: «لا تخف، إنك أنت الأعلى»».

«فلما سمع محمد المنام كاد أن يطير فرحاً، وسألني مكرّراً، هل أنت صادق في رؤياك، وكلما سأل أجبته بالإيجاب حتى اطمأن، وأظن أنه صمم منذ ذلك اليوم على إظهار أمره». المرجع السابق- ص 70 .

بعد عودة الجاسوس همفري إلى لندن أبدى وزير المستعمرات ارتياحه الكبير من قدرة همفري على السيطرة على محمد بن عبد الوهاب.

يقول همفري عن لقائه وزير المستعمرات: «حيث أبديت قلقي على مصير محمد بن عبد الوهاب بعدي، قال الوزير: اطمئن بأن الشيخ محمد بن عبد الوهاب لا يزال على ما فارقته أنت من الآراء والأفكار. وقال الوزير: إن عملاء الوزارة يؤكدون أن الشيخ على ما كان. لكن سررت بنفسي: كيف أباح الشيخ محمد بدخيلة سرّه إليهم؟ وتهيّبت أن أسأل الوزير عن ذلك، ثم تبيّن لي في ما بعد حين التقيت الشيخ أن شخصاً يدعى عبد الكريم اتصل به في أصفهان وأنه أخ للشيخ محمد، يقصد أنا، أخبره عن تفاصيل أسراره، عن الشيخ محمد، وبذلك استطاع النفاذ إلى داخل قلبه. وقال محمد بن عبد الوهاب إن صفية لحقته إلى أصفهان وتنعم بمتعة أخرى لمدة شهرين، وأن عبد الكريم رافقَه إلى شيراز حيث هيّأ لمحمد بن عبد الوهاب متعة أخرى اسمها آسية، أجمل وأكثر أنوثة من صفية وأنه قضى معها أسعد ساعات العمر».

ويكمل الجاسوس: «وتبيّن لي في ما بعد أن عبد الكريم، اسم مستعار لأحد المسيحيين من جلفاء من نواحي أصفهان، كان من عملاء الوزارة، وأن آسية من يهود شيراز. كانت أيضاً هي الأخرى من عملاء الوزارة. كان نتيجة سيطرتنا، نحن الأربعة، على محمد بن عبد الوهاب أنه طُبخ كأفضل ما يمكن لما يُرجى منه في المستقبل». المرجع السابق- ص 84-85 .

بعد أن زوّدت وزارة المستعمرات الجاسوس همفري بوثيقة تتضمّن الخطوط الأساسية لمشروع بريطانيا في الشرق أمرت الوزارة الجاسوس همفري بالتوجّه إلى العراق ليكمل الشوط مع محمد بن عبد الوهاب، وقد قال له سكرتير الوزارة: «إنه حصل من مختلف التقارير الواردة إليه من العملاء، أن الشيخ محمد أفضل شخص يمكنه الاعتماد عليه ليكون مطية لمآرب الوزارة». المرجع السابق- ص 121 .

تابع سكرتير الوزارة يقول للجاسوس همفري إن الشيخ قد قبل العرض المقدَّم إليه من بريطانيا، شرط «أن تحفظه من الحكومات والعملاء الذين لا بد من أن يهاجموه بالسبل كافة حينما يبدي آراءه وأفكاره، وأن يزوّده بالمال الكافي والسلاح إذا اقتضى الأمر ذلك، وأن نجعل له إمارة، وإن تكن صغيرة، في أطراف بلاده نجد وقد قبلت الوزارة ذلك». وأضاف السكرتير أن الوزارة وزارة المستعمرات قد وضعت خطة دقيقة لينفّذها الشيخ محمد بن عبد الوهاب. المرجع السابق- ص 122 .

وما الخطة الموضوعة من قبل وزارة المستعمرات البريطانية لينفّذها محمد بن عبد الوهاب سوى مبادئ ستة قامت عليها الحركة الوهّابية في الجزيرة العربية. فتكون هذه الحركة نتاجاً للسياسة البريطانية الهادفة إلى تمزيق المنطقة وزرع الفتن فيها.

أما هذه المبادئ فهي:

«تكفير كل المسلمين، وإباحة قتلهم، وسلب أموالهم، وهتك أعراضهم، وبيعهم في أسواق النخاسة، وجعلهم عبيداً ونساؤهم جواري».

«هدم الكعبة، هدم الكعبة باسم أنها آثار وثنية إن أمكن، ومنع الناس عن الحج، وإغراء القبائل بسلب الحجاج وقتلهم».

السعي لخلع طاعة الخليفة، والإغراء لمحاربته، وتجهيز الجيوش لذلك، ومن اللازم أيضاً محاربة «أشراف الحجاز» بكل الوسائل الممكنة والتقليل من نفوذهم».

هدم القبب والأضرحة والأماكن المقدّسة عند المسلمين في مكة والمدينة وسائر البلاد التي يمكن ذلك فيها، باسم أنها وثنية وشرك، والاستهانة بشخصية النبي محمد وخلفائه ورجال الإسلام بما تيسّر».

«نشر الفوضى والإرهاب في البلاد بحسب ما يمكن ذلك».

«نشر قرآن فيه التعديل الذي ثبت في الأحاديث من زيادة ونقيصة».

يكمل الجاسوس همفري قائلاً:

«لا يهولنك هذا البرنامج الضخم، فإن الواجب علينا أن نبذر البذرة وستأتي الأجيال الآتية لتكمل المسيرة، وقد اعتادت حكومة بريطانيا العظمى على النفس الطويل، والسير خطوة خطوة، وهل النبي محمد إلا رجل واحد، تمكن من ذلك الانقلاب المذهل؟ فليكن محمد بن عبد الوهاب مثل نبيّه محمد ليتمكن من هذا الانقلاب المنشود». المرجع السابق- ص 123

ويقول الجاسوس همفري: «خرجت قاصداً نحو البصرة، وبعد سفرة مضنية وصلت إليها ليلاً، وذهبت إلى دار عبد الرضا وكان نائماً، ولما رآني رحّب بي واستقبلني استقبالاً حاراً. نمت هناك حتى الصباح، وقال لي: «إن الشيخ محمد رجع إلى البصرة وسبق أن أشرنا إلى أنه ذهب إلى أصفهان وأودع عنده كتاباً موجهاً إليك»، وفي الصباح قرأت الكتاب، وإذا به يخبرني فيه أنه سافر إلى نجد. وقد ذكر عنوان محلّه في نجد. سافرت في الصباح ميمماً وجهة نجد، ووصلتها بعد مشقةٍ بالغة. وجدت الشيخ محمد في داره وقد صار القرار أن أجعل نفسي عبداً له قد اشتراه من السوق، وأن العبد الآن قد جاء من السفر، وهكذا كان. فشهر عند أصدقائه أني عبدٌ اشتراه من البصرة، وأنه جاء الآن، وتلقاني الناس بهذا الاسم، وبقيت عنده سنتين، وهيّأنا الترتيب اللازم لإظهار الدعوة».

ويكمل همفري: «في سنة 1143 هـ قويت عزيمته، وقد جمع أنصاراً لا بأس بهم. فأظهر الدعوة بكلمات مبهمة، وألفاظ مجملة لأخص خواصه، ثم جعل يوسّع رقعة الدعوة». ويتابع: «ألفت أنا حوله عصابة شديدة المراس، زوّدناهم بالمال، وكنت أشدُّ عزيمتهم كلما أصابهم خوف من أجل مهاجمة أعدائه. وهكذا كنا مع الأعداء، بين الكر والفر. وقد وضعت على أعداء الشيخ جواسيس اشتريتهم بالمال». المرجع السابق- ص 124-125 .

مراجع

1. سليمان القرقوزي: لقّب بالقرقوزي لأنه كان يبيع القرقوز وهو البطيخ في مدينة بورصة التركية، وهو يهودي من يهود الدونمة التركية.

2. مذكرات مستر همفري سيطرة الإنكليز ودعمهم لمحمد بن عبد الوهاب الجاسوس البريطاني في البلاد العربية منشورات دار الفنون للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان طبعة أولى 2005.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى