قالت له
قالت له: أحببتك حتى تسامحت بأنانيتي وذاتي ومشاعري، وتقبلت أن أراك مع سواي معجباً ومفتوناً مراراً، وتغاضيت لأنها مراهقة لما يتنزه عنها أحد، لكنها مشاغبات عارضة طالما أن الأصل في إحساسي يقول بصدق مشاعرك نحوي. فقال لها: وأنا أدّعي تقبّل ما لا تظنين أنه فضل منّي لصون حبّنا، لأنك تعتبرين أنّني وحدي موضوع محاكمة ومساءلة، وأن حرصك على الحب فوق النقاش لسبب بسيط، أنّه حبك أنت. ولأنني أشاركك الرأي في حبك وصدقه، عليّ أن ألهث ليلاً ونهاراً وصبحاً ومساءً لأسهر على الرضا والقبول بأنك لا تجدين عندي ما يستدعي الجلب إلى كرسي الاعتراف أو قفص الاتهام. فكلمة تودّد ونظرة إعجاب منك لأحد أو اهتمام بالتقرب، مجرّد تصرّفات منفتحة بلا عقد عليّ تقبّل أنها فوق قدرتي كرجل شرقيّ على تقبلها. أما ما دون ما تقدمين من المشاعر لغيري وأقدمه أو أتشاركه مع غيرك، ولو كان مضحكاً وطفولياً، جريمة تسامحت بغفرانها. ولو كانت مرة يتيمة وكانت خروقاتك لهدنة المشاغبة سلوكاً مستمراً. فقالت: فلنتفق إذاً على عنوان احترام الخصوصية إن كنت تقبل.
فقال لها: الخصوصية إعلان وفاة الحبّ بتعابير منمّقة وحضارية. والحبّ من دون احتكار وأنانية، صداقة. فلنكن أصدقاء ولنتوقف عن ادّعاء أهليتنا لما هو لعنة الحبّ وحلاوة عذاباته.
فقالت: كن صديقي. ربما أكون بانتظار حالة حبّ أخرى لم تولد بعد، وأريد الصداقة بيننا بعد حبّ عاجز عن الحياة.
فتساءل معها: هل ينجح فاشلان في الحبّ باختبار الصداقة وقرّرا المغامرة أفضل من تقبّل الخسارة؟
قالت له: ألا تذكر كم كنّا نتحدث عن جمالية الاحتفال التي كنّا نتحدث عنها لوداعنا، لأننا قررنا أننا سنحفظ الحبّ في الافتراق برفعة تليق به، فلا أشعر بحنان صدرك وأنت تضمّني ولا بنبرة صوتك وأنت تحدّثني، على رغم أننا توقّعنا معاً أن تحلّ هذه اللحظة علينا بفعل ظروفي وظروفك وحساباتي وحساباتك وخططي وخططك. فكنّا نعلم قدومها ونستعدّ لملاقاتها بورود تليق بما جمعنا.
فقال لها: ما يجعلها بهذا الجفاف أنك ترينها احتفالاً بحدث مفرح لا تأبيناً لائقاً لسنوات غالية نودّعها كما نودّع فقيداً غالياً، لكن بكبرياء كان يلازمه في الحياة. فتوقّع الحدوث لا يلغي رَقْب العيون وبريقها كما هو ترقّب خبر الموت الذي يقع علينا أو نقع عليه، كما يقع الحبّ علينا أو نقع عليه. وعلى رغم كلّ ما نحشد من ذكائنا وواقعيتنا لملاقاة الموت، يفرض علينا هيبته ونراقب عيون التفاعل معه ولا نشعر بكبر مَن يحاضر في الجنازة بالواقعية، كما لا نستسيغ مَن يتصرّف كأنها نهاية الدنيا. كان الخطاب جللاً وأنا كنت أعددت كلاماً للمناسبة يتجمد الآن في حلقي لأنني رسمت له مشهداً في مخيّلتي أننا نمسك أيدي بعضنا، بينما يداك مشغولتان بإمساك بطاقة السفر كلعبة جديدة لطفل يلهو فرحاً، وكلماتي للعزاء وأنت لست في حال عزاء، فسقطت اللغة وعندما تنتحر الكلمات بالمفاجأة تستعصي الحروف في الحنجرة كحبّات حصى وشوك. ليس ما تغير أن المفاجأة في خلاف توقع الحدث، إنما المفاجأة في النفس التي تتفاعل مع الحدث. فكيف يلتقي فرِح وحزين للحظة واحدة ويقرآن فيها القصيدة ذاتها.
فقالت: أنا أستقوي بما علّمتني لأواجه صعوبة الموقف، فلا تحوّل لحظتنا الجميلة الأخيرة إلى حائط مبكى، ودعنا نحتفل كما لا يحتفل سوانا من العشاق.
فقال لها: لأنني أحبّ لا أريد إفساد لحظاتك الآتية بكلام كثير يتململ في أحشائي، واستيقاظ متعب للغة كانت زوّادة أعددتها لك لمثل هذه اللحظة، لكنها زوادة فلاح في حقل، وأنت ذاهبة إلى المدينة. فاسمحي لي أن أبقيها سرّاً من أسرار خصوصياتي، أعود إليها وحيداً كلّما اشتقت إليك.
فقالت: أحب حنانك وعطفك فلا تتركني، وذرفت دمعتها على طرف كفّه… ومضت.
قالت له: حقيقةٌ ما تفعله أو رِياء؟ كلّما سألتُك هل تحبّني؟ أجبتَ «نعم» دونما تفكير. وإذا أرفقتُ نظرتي بابتسامةٍ، جئتَ مسرعاً كأنك تطير!
أيُعقل أنّ حبّك ما زال فتيّاً في زواجٍٍ عمره فوق العشرين؟
قال لها: لِم الشكوك وكثرة الظنون؟ قلبي مخلصٌ وأنا حنون. تقعين دائماً في شرك الذاكرة وتحكمين على المواضيع منفصلةً مجزّأة.
كيف تلمسين حبّي وسرعة إجاباتي، وتنسين بشاشة وجهك في أحلك الأوقات، لهفة لقائك في كلّ المناسبات، وكل ما تغدقين عليّ من مشاعر احترام وحنان؟ أليس من الأخلاق مبادلة الإحسان بإحسان؟
قالت: بلى، لكنّني أخاف أن يكون ما أعيشُه حلماً في حضن بركان يأتي بعده يومٌ لا بدّ فيه من حقيقة ، ينهار عالمي وأقع في الحزن مريضة.
قال لها: فشلَتْ معك جميع محاولاتي، ما زلتِ تحتجّين أنّني لا أحبك. وأنت فرسي الجامحة عالية الصهيل، فضيحتي التي لا أستطيع إخفاءها ولا أريد. يا شريكة عمرٍ، لا عيب في زوجين للحبّ يواصلان، لا يشتكيان، لا يسأمان، ولا يتخاصمان. هو آدم وهي له حوّاء.
ابتسمت له وتمتمت: أحقيقة أو رياء؟
رانيا الصوص