بين شهادتين… حبر الروح ونجيعها

عبير حمدان

يحمل سنيه على كفه وفي القلب صور الأبناء، والعيون شاخصة حيث تتكئ البندقية. في الحرب لا نختار مواقعنا، إنما نسعى لنرتقي كي تبقى أشجارنا واقفة على أرض خضراء.

في الحرب، يصبح النبض شعلة متقدة والدعاء يخترق غبار السماء، ولا يكفي الدعاء، وحدهم يعبرون بين مواويل القصب يحملون الرعد والريح ويرتدون تراب القرى بين أشيائهم الصغيرة تفاصيل يومية لضحكات الأهل والأولاد وللدفاتر المدرسية وقصص التاريخ والجغرافيا.

لم يختر الغياب، حضن وليده وأوصاه أن الحياة وقفة عزّ وإباء، والمقاومة ثقافة للحياة بها نكسر القيد ونحقق النصر، أوصاه أن الشهادة درب القداسة، وما بين شهادة الدم وشهادة الحياة، حكاية فخر.

بالأمس، ارتفع عرفات حسن طالب شهيداً في جرود عرسال، واليوم حُمل على الأكتاف لتضمّه ثرى برج رحال بلدته الجنوبية التي أزهرت كما كل قرى الجنوب نصراً تلو الآخر. عرفات طالب الشهيد المعمّد بكحل الدمع والحبر، نلمحه في بريق عينَي نجله كاظم الذي أدّى امتحاناته الرسمية في الشهادة المتوسطة، وكأنه يرنو إلى لحظة اللقاء ليخبر والده أنه لم يخذله ولم ينحنِ. حمل قلمه وسار على جمر الفراق ليكتب مستقبله بحروف من نور ونار.

إنها ثقافة الحياة، وأبناء الشهداء أكثر من يدركها، لأنهم مجبولون بوجع الغياب. وحدهم امتداد لهذا النبض، لعلهم يعلمون ما تقوله الأرض للرجال قبيل انغماسهم في ثناياها، لا بل هم يعملون على تكريس الأقوال بالأفعال. وحين نكتب التاريخ بحبر النجاح ونرسم حدود الوطن بدماء الشهداء نملك الجغرافيا بالقلم المعلق على فوهة البندقية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى