صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

صفحة الدراسات في «البناء»، أنشئت لتكون مساحة للأبحاث العلمية المتعلقة بشتى المواضيع ذات الصلة في قضايا الأمة والعالم العربي.

وهي إذ تتسع لمثل هذه الدراسات تبقى مجالاً مفتوحاً للحوار وطرح الإشكاليات الفكرية والسياسية وغيرها، تنشيطاً لدور الثقافة في الصيرورة الاجتماعية. علماً أن الآراء التي ترد على مساحة الصفحة تعبر عن رأي أصحابها وليست بالضرورة مطابقة لقناعات الصحيفة.

إلا أنه انطلاقاً من القناعة الراسخة بضرورة خلق حوار فكري حول القضايا والإشكاليات كافة وما أكثرها، والتي تفرض نفسها على صاحب القرار والمثقف وقادة الرأي والمواطن في أي موقع كان، كانت صفحة الدراسات في «البناء» هي الترجمة العملية لهذه القناعة. آملين أن تشكل هذه الصفحة مساحة فكرية ـ سياسية تعنى بهموم الوطن والمواطن، تدرس الحاضر لترسم المستقبل.

الديمقراطية التعبيرية: القومية الاجتماعية والمدارس الأخرى 2/2

لقد احتل مصطلح الديمقراطية حيّزاً واسعاً في الفكر السياسي والاجتماعي، إلاّ أنه لم يرسُ على تحديد موحّد، ذلك أن الديمقراطية، من حيث هي نتاج للفكر، فهي مرتبطة بشروط الواقع ومضامينه الثقافية التاريخية. من هنا جاءت المدارس المتعددة في الديمقراطية.

والديمقراطية التعبيرية هي إبداع القومية الاجتماعية التي أرسى قواعدها الزعيم سعاده.

الدكتور علي حمية قارب موضوع الديمقراطية التعبيرية ببعد موضوعي مقارن. وكانت مقاربته تصبّ في الحاجة إلى إرساء قواعد ديمقراطية تحمي المجتمعات والأفراد في عصر الطغيان الأحادي للعولمة.

د. علي حمية

ثانياً ـ لزوم الدولة للمجتمع ودورها

هل الدولة لازمة للمجتمع؟ وهل وجودها مرتبط بحادثة اجتماعية معيّنة لا تلبث أن تزول بزوالها كما ذهب ماركس؟ أم أنها شأن ثابت من شؤون المجتمع الإنساني، ملازمة له كما اعتقد سعاده؟

بين ماركس وسعاده

لقد وضع سعاده تحديده للدولة، لجهة دورها ووظيفتها وأهميتها للمجتمع، بعد أن أصبحت لديه مبادئه السياسية المرتكزة إلى فلسفته الاجتماعية 1 ومنهجه في التفكير في مجمل التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم وفي بلاده طبعاً.

ففي تعليله لنشوء الدولة كما مر معنا سابقاً، اعتبر سعاده أن الدولة ظهرت «بعامل الحياة الإنسانية» 2 . وهذا يعني أن وجودها وتطوّرها، تاريخياً، ارتبطا بوجود الجماعة البشرية وتطورها، وهي ملازمة للمجتمع الإنساني، منذ أيام الاستعباد، حيث ظهرت «الفوارق الاجتماعية» وتستمر في الحاضر وكذلك في المستقبل! وعليه، فالدولة، غير مرتبطة في نشوئها وتطورها، بظاهرة عابرة من ظواهر الاجتماع الإنساني لا تلبث أن تزول بزوالها، لأن وجودها مرتبط بوجود الحياة الإنسانية على هذه الأرض. ولذلك فهي لازمة للمجتمع، ودورها مضطرد في الحياة المعاصرة، وفي المستقبل.

عندما ربط ماركس مصير الدولة بالطبقة البرجوازية واعتبرها معبّرة عن مصالحها الطبقية لذلك في تزول بزوالها، ارتكز في تحليله إلى متغيّر هو الطبقة البرجوازية، في حين ارتكز سعاده عندما اعتبر الدولة شأناً ثابتاً سابقاً على ظهور البرجوازية، إلى ثابت، لا متغيّر، هو وحدة الحياة!

وفي حين اعتبر ماركس وجود الطبقة واقعاً موضوعياً، يمكن التأسيس عليه، اعتبره سعاده وضعاً راهناً لا متغيراً لا يمكن الارتكاز إليه، وهذا الاختلاف في نظرة كل من الرجلين إلى الدولة، مردّه إلى منهج كل من ماركس وسعاده في النظر إلى قضايا الحياة والوجود والمصير. فبينما يتمركز ماركس، وفق منهجه، في الوقائع المتغيرة، يتمركز سعاده وفق منهجه، أيضاً، في الحقائق الثابتة الكامنة في وحدة الحياة!

لقد تطوّرت دور الدولة تاريخياً طبقاً لتطوّر الحياة الاجتماعية، من مجتمع إلى آخر، ومن عصر إلى عصر. ففي المجتمعات الأوروبية، بخاصة في المرحلة الانتقالية من عهد الإقطاع إلى البرجوازية، كانت الدولة دولة الأمن L, Etat- gendarme لأن دورها اقتصر على حفظ الأمن وتطبيق القانون، غير أنه بعد الاضطرابات الاجتماعية التي شهدتها أوروبا إثر الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر أخذت الدولة على عاتقها دوراً آخر ألا وهو دور الخدمات L, Etat de services . فقد أوجبت الانقلابات الاجتماعية الجديدة في البلدان الصناعية، فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تدخلاً من قبل الدولة لتحسين ظروف الحياة والخدمات الاجتماعية لملايين السواعد العاملة، خصوصاً في الصناعة، وتأخذ الدولة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، دوراً ثالثاً ألا وهو دور الحكم L, Etat-arbiter في النزاعات بين الأفرقاء، أرباب العمل والعمال، في محاولة لمواجهة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن صراع مصالح الفئات والطبقات.

إن نظام الطبقات الرأسمالي الذي صنّف المجتمع إلى طبقة عليا هي الرأسمالية، وطبقة وسطى هي المهنية الحرة، وطبقة سفلى هي العاملة، لم يكن نظاماً صالحاً للبقاء، لأن المشاكل الاقتصادية الاجتماعية التي نتجت منه، أحدثت ولا تزال تحدث، حيثما بقي هذا النظام فاعلاً، تشنجات واضطرابات شديدة تحفّز العقول على ابتغاء نظام جديد للمجتمع الإنساني، يزيل تلك التشنجات والاضطرابات، ويفسح المجال لتفاعل ينمّي الحياة ويقويها، ويجعلها صالحة للإنسان ومصالحه النفسية والمادية 3 .

لقد اضطرت الدولة في الأنظمة الديمقراطية الغربية، اضطراراً لا اختياراً، إلى أن تلعب دور الحكم، فقبل تنكبها لهذا الدور كانت دولة الطبقة البرجوازية المالكة للثورة ووسائل الإنتاج، والمشرّعة لنظام الطبقات الرأسمالي، وهذا ما ضلّل ماركس إذ اعتبر الدولة دولة الطبقة البرجوازية وهي لذلك دولة استغلال وتراكم رأسمال وفائض القيمة في الداخل ودولة الاستعمار والهيمنة في الخارج. ولذلك فهي زائلة بزوالها، فضلاً عن أن لا لزوم لها، لأن دورها يعاكس دور الطبقات الجديدة الصاعدة.

لقد اضطر مالكو الإنتاج، بعد المعاناة الطويلة في مسيرة النظام الرأسمالي، إلى التنازل للدولة عن السلطة، وأن يقبلوا بها حكماً بينهم وبين القوى الأخرى العاملة في المجتمع. ولكنهم لم يتنبهوا إلى أن تنازلهم عن هذا الدور للدولة كان اعترافاً منهم باستقلالية الدولة عن سلطتهم، وهذا ما مكّنها من شق طريقها في أن تصبح المظهر السياسي الحقوقي للأمة.

هذا التطور في مفهوم الدولة الدولة الديمقراطية في الغرب، أي الاستقلال عن الطبقات وتحولها إلى جمعية الشعب الكبرى، انتهى بها لأن تصبح الممثلة للإرادة العامة.

ففي هذا المفهوم الجديد للدولة تصبح المصالح القومية، مصالح المجتمع القومي، أساساً للنظر في المنازعات الداخلية التي أسسها تناقض المنافع الفئوية… وشيئاً فشيئاً سيرسو مفهوم المنفعة على مفهوم المصلحة، وعبثاً تسعى كل فئة إلى تحقيق منافعها الطبقية على حساب الأخرى.

بين سعاده والليبراليين

وكما افترق سعاده عن ماركس والماركسيين في تصوّره للدولة وتطورها، افترق أيضاً عن ريكاردو والليبراليين، بخاصة في مسألتي العدالة والمصلحة.

ففي حين تكلم الديمقراطيون والليبراليون عن العدالة، تكلم سعاده عن التقدم، لأنه اعتبر العدالة مفهوماً ناقصاً، ولذلك اهتم في نظريته الاقتصادية بتوسيع عملية الإنتاج وتحقيق التقدم الاجتماعي لأنه اعتبر أن لا قيمة للعدالة من دون تقدم. وأن دور الدولة ليس في تأمين العدالة للناس بل في تطوير المصالح القومية.

إن المفهوم الليبرالي لا يلحظ في المجتمع إلا الطبقات ومصالح الطبقات، وعبثاً يهتم بوجود المجتمع والمصالح العامة. ولذلك لا يمكن الكلام عن مصلحة اجتماعية عامة في النظام الليبرالي، فالمصالح كلها طبقية. كما أن المفهوم الليبرالي للحرية يتيح للطبقة المالكة وسائل لتطوير الإنتاج، وأن تدفعه إلى الأمام، في مناخ المساومة الحرة، «إن نظام الطبقات الرأسمالي لم تكن له نتيجة اجتماعية غير الحفز على نظام حرب الطبقات. فإن الرأسمال الفردي كوّن طبقة رأسمالية مرهقة ساحقة، وطبقتين مضغوطتين مسحوقتين … والحرب بين الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة ليست حلاً لمشكلة الاجتماع الإنساني الاقتصادية ولا تحقيقاً لمصالحه النفسية واتجاهاته الروحية ومقاصده المثلية». إن دور الدولة في هذا النظام يكمن في الأمن، أي في قمع كل المطالبات الاجتماعية التي «تسيء» إلى حرية الإنتاج وفق مفهوم الطبقة الحاكمة للحرية، وبواسطة قوى مستفيدة من هذا المفهوم للحرية.

فالدولة الليبرالية لا تشاهد إلا مصلحة طبقة، وهي لا تشاهد مصلحة المجموع إلا من خلال تأمين حرية الإنتاج الفردي الكبير وهي في أعلى وظائفها وأحسنها وأفضلها لا تقدر على أن تكون إلا دولة الحكم بين مصلحتين أو فئتين: مصلحة إنتاج ومصلحة عمال!

في المقابل، مع سعاده، نجد المجتمع، المتحد القومي الأتم، والمصالح القومية العامة، وعبثاً نجد الأفراد أو الفئات أو الطبقات أو المنافع الفئوية! فالمجتمع هو أساس نظرته الجديدة وهو مصدرها وهو غايتها.

إن الدور الذي رسمه سعاده للدولة يفترق كلياً عن الدور الذي رسمه الليبراليون. فالدولة، في نظره، هي دولة المصالح القومية. إنها معنية بكل مصالح الإنتاج الفكري والمادي، على الإطلاق! مصالح التربية، والصحة، والزراعة، والأمن والخدمات، والأبحاث والحرب:

«إن ثروة الأمة، يجب أن تخضع لمصلحة الأمة العامة وضبط الدولة القومية. لا يمكن تنمية موارد القوة والتقدم في الدولة إلى الحد الأعلى إلا بهذا المبدأ وهذه الطريقة» 4 .

فالدولة القومية الاجتماعية، إذن، ليست طرفاً ثالثاً وليست حكماً في اصطراع الفئات والطبقات على الثروة والإنتاج، ومصيرها غير مرتبط بطبقة أو بمنفعة، وسعاده لا يرى في الدولة منافع أطراف، ويرفض كلياً دور الحكم. لقد ربط الدولة بالمجتمع، وجعل السياسة أمراً اجتماعياً.

دولة سعاده ليست دولة الأمن، إنها دولة السيادة القومية خارجياً، ودولة النظام العام داخلياً. ليست دولة الخدمات، إنها دولة المصالح القومية. ليست دولة الحكم، إنها شخصية المجتمع، والمظهر السياسي الحقوقي للأمة.

لزوم الدولة في عمليات الإنتاج المتطور

لماذا أعطى سعاده، خلافاً للماركسيين والليبراليين، دوراً رائداً للدولة؟

في نظرته الاجتماعية، إن الإنتاج يتغيّر حجمه، من طور إلى آخر، وإن عمليات الإنتاج الكبير، في العصر الحديث، لا يستطيع أن يقوم بها فرد أو عائلة أو طبقة أو رأسمال بمفرده، لأنها عمليات من التعقيد والضخامة بحيث أنها ترتبط مباشرة، ارتباطاً عضوياً، بكل مصالح المجتمع تقريباً. فلا يمكن بحسب نظرته أن نتصوّر إنتاجاً بهذا التعقيد إلا في مجتمع ارتقت فيه مصالح التخطيط والإدارة والأبحاث. إن كل مصالح المجتمع تشترك في إنتاج كل مصلحة على حدة. وهذا يعني أن كل عملية إنتاج عصرية، وفي مجتمع المستقبل، هي عملية لا تقوم إلا تحت مظلة نظام ينظم علاقاتها بالعمليات الأخرى. فكل عمليات الإنتاج تحتاج إلى نظام قومي عام جامع يشملها ويشمل كل المصالح الأخرى. والدولة القومية هي هذا النظام العام!

بكلام آخر، إن العملية الإنتاجية الحديثة التي وصفناها بالتعقيد والضخامة، تقتضي، في ذاتها، حجماً هائلاً من المعارف والتقنيات، وكذلك في علاقتها بعملية الإنتاج الأخرى ومجموع الإنتاج القومي العام، وبأسواق المساومة الخارجية والمزاحمة الدولية.

كل هذا يقتضي دوراً رائداً للدولة في ميادين المعارف والتجارب والأبحاث والتنظيم الدقيق، لا يقدر أن يقوم به الأفراد ولا المؤسسات العادية. وكل هذا يقتضي حكماً تنظيمياً قومياً دقيقاً ومؤسسات قومية قادرة.

فكلما تطوّر الإنتاج وزاد حجمه كلما تطورت مصالح المجتمع الحيوية. الأمر الذي يقتضي حضوراً كثيفاً ومتميزاً للدولة. وكلما ازدادت عمليات الإنتاج الكبرى احتاجت إلى مزيد من التخطيط والبحث والتنظيم السياسي والتنظيم الاجتماعي.

وحتى تستطيع الدولة القيام بهذا الدور الخطير، وجب إيجاد نظام جديد ومؤسسات جديدة، وأشكال تنظيمية جديدة لا تكتفي بالعمل على تسوية الأوضاع الاجتماعية الراهنة ولعب دور الحكم بين القوى المتنازعة على الثروة والرأسمال ووسائل الإنتاج، بل تكون قادرة على سد حاجيات الإنتاج الحديث المتطور. لذلك لا يمكن الركون، مستقبلاً، إلى نظم «تمثيلية» بليدة لا تأخذ في الاعتبار مقتضيات الحاجيات المتزايدة يوماً بعد يوم.

ثالثاً ـ بين الديمقراطية التمثيلية والديمقراطية التعبيرية

بعد الحرب العالمية الثانية نشأت ديمقراطية إقطاعية في بلدان العالم الثالث هي تركات الاستعمار الأوروبي المنحسر، ولم يطُل الزمن قبل أن يظهر عجز هذه الديمقراطيات عن تأمين استقرارها السياسي واستقرار مجتمعاتها.

وتحت مظلة الصراع الدولي على مناطق نفوذ العالم حصلت اضطرابات في هذه الدول أخذت شكل انقلابات عسكرية، وانتفاضات شعبية: الشرق الاشتراكي يغذي هذه الانتفاضات انسجاماً مع ايديولوجيته الثورية الأممية في محاولة لمحاصرة الغرب الرأسمالي بزعامة الولايات المتحدة الأميركية الذي يتوسّل بدوره الانقلابات العسكرية من أجل تأمين الاستقرار السياسي لهذه الدول المضطربة ضمن استراتيجيته الاستعمارية، لإدراكه أن هذه المؤسسات المسماة بالديمقراطية غير قادرة لوحدها على تأمين استقرارها السياسي المنشود.

هكذا نشأت أنظمة اشتراكية متجهة في سياستها نحو الكتلة الشرقية سابقاً، وأنظمة عسكرية متجهة نحو الغرب، وأنظمة اشتراكية/عسكرية راوحت بين الشرق والغرب في ما دُعي بالحياد الإيجابي.

نقد النظام الديمقراطي الليبرالي:

لم يتمكن النظام الديمقراطي التمثيلي، في البلدان التي تبنّته من تكييف أحوالها ولا من استيعاب التطورات السياسية والاقتصادية المتلاحقة، بل أثبت عجزه حتى في البلدان الأكثر ديمقراطية والأكثر تطوراً في العالم. يقول سعاده عام 1938:

«إن هذه الحالة التي تتخبط فيها الأمة السورية اليوم لا تنفع في إنقاذها منها النظم البرلمانية التي تزيد على سوئها سوءاً، وعلى تفككها تفككاً، وعلى اتجاهاتها اللاقومية المتباينة اتجاهاً قومياً متبايناً» 5 .

ففي هذا النظام تكون السلطة السياسية، أي الدولة، ممثلة للإرادات الشعبية المحكومة بقوى اجتماعية واقتصادية وعسكرية حاضرة في المجتمع، هي قوى الإقطاع المالي والطائفي والقَبَلي، وقوى الإرادات الأجنبية النافذة إلى هذا النظام من خلالها. وقد رأى المفكر القومي هنري حاماتي أن هذا النظام يقوم على مبدأ «تمثيل» الحالات الراهنة، لا تطويرها، بحيث تكون السلطة السياسية «الانعكاس» الأنقى والأمثل لأحوال المجتمع وأوضاعه ومتاعبه. وما قيام العدالة والحرية التي يغري الناس بها سوى «عدالة» هذا التمثيل و»حرية» هذا التمثيل… إنه نظام التعاقد بين السلطة السياسية العليا في الدولة، وبين مراكز القوى الوضعية المتمركزة في أوضاع المجتمع. وبفضل هذا التعاقد تكون السلطة السياسية تابعة لمراكز القوى الوضعية بل مجسدة لمصالحها ومعززة لوجودها 6 .

ثم إن هذا النظام يسهّل للإقطاعيين والرأسماليين، في الشرق كما في الغرب، على حد سواء، جني ثرواتهم الفاحشة من أسهل الطرق وأقصرها، ويفتح الباب واسعاً أمام الديماغوجيين والانتهازيين الذين يستغلون الشعب، السليم الطوية، بخطاباته البليغة ومناوراتهم السياسية وآلاعيبهم الدونكشوتية.

ولذلك ميّز سعاده بين الديمقراطية والبرلمانية، مستغرباً هذا الدمج بينهما إلى درجة أن أصبح النظام البرلماني مرادفاً للديمقراطية.

فالبرلمانية، برأيه، هي شكل من أشكال الديمقراطية ولكنها ليست الديمقراطية بعينها لأن الحكم القائم على الثقة المطلقة هو أيضاً حكم ديمقراطي وإن لم يكن برلمانياً. فالثقة المطلقة هي أساس ديمقراطي إذ تتجلى فيها إرادة الشعب أو إرادة المبادئ العامة العائدة لخير الأمة مع وجود الثقة التامة بمن يمثلها. «فقد يعطي الشعب حكومة واحدة معيّنة انتداباً مطلقاً يسلّم فيه إليها حق فعل ما تراه مناسباً لخير الأمة وارتقائها، لأنه يثق بها ثقة مطلقة. إذ لا يجوز أن يقوم الحكم المطلق إلا على أساس الثقة المطلقة» 7 .

نستنتج مما تقدّم ضعف النظام الديمقراطي التمثيلي وعدم صلاحه للمجتمع السوري ولمجتمعات العالم الثالث، وعجزه من جهة ثانية عن مواكبة التطور الهائل الذي يشهده العالم على جميع الأصعدة وعدم قدرته على تفعيل قوى التغيير والتقدم والتجديد في المجتمع، واقتصاره على تمثيل القوى الوضعية المتمركزة في بؤر الإنتاج: «إن الديمقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة حتى اليوم لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية الاقتصادية التي نشأت مع تقدّم عهد الآلة وارتقاء التخصص في الأعمال وتحديدها» 8 .

فانطلاقاً من حاجة مجتمعنا والمجتمعات الإنسانية لنظام حكم جديد، يحصّن العامل السياسي، أي الدولة، ضد طغيان القوى المستبدة بالرأسمال والإنتاج والعقار، وتنظيم قوى الإنتاج، المادية والروحية، ويواكب التطور الهائل في العلوم والمعارف والتقنيات، فإن الديمقراطية التعبيرية هي شكل الحكم الموافق لأوضاع مجتمعنا، والمجتمعات البشرية المشابهة له: «إن الديمقراطية الحاضرة قد استغنت بالشكل عن الأساس فتحوّلت إلى نوع من الفوضى لدرجة أن الشعب ذاته أخذ يئن من شلل الأشكال التي أخذت على نفسها «تمثيل» الإرادة العامة، وصار ينتظر انقلاباً جديداً. وهذا الانقلاب الجديد هو ما تجيء به الفلسفة السورية القومية الاجتماعية القائلة بالعودة إلى الأساس والتعويل على «التعبير عن الإرادة العامة». فالتفكير السوري القومي الاجتماعي الجديد هو إيجاد طريقة جديدة اسمه «التعبير عن إرادة الشعب». وقد يكون هذا التعبير بواسطة الفرد أو بواسطة الجماعة بحسب ما يتفق أن يوجد. فهذه الفكرة الجديدة أي «التعبير عن إرادة الشعب» هي الاكتشاف السوري الجديد الذي ستمشي البشرية بموجبه في ما بعد، وهو دستورنا في سورية الذي نعمل به لنجعل البلاد دائماً كما تريد الأمة. إن الأمم كلها تريد الخير والفلاح، ولكن المشكل هو في إيجاد التعبير الصالح عن هذه الإرادة. فالإرادة العامة إذا لم تجد «التعبير» الصحيح في فكرة واضحة وقيادة صالحة تصبح عرضة لأن تقع فريسة للمطامع والمآرب «التمثيلية» 9 .

لهذا لم يراهن سعاده مطلقاً على النظام الديمقراطي التمثيلي البرلماني لتطوير الحياة القومية في المجتمع السوري الذي يحتضن مشاكل اجتماعية ونفسية واقتصادية لا حصر لها، لأنه نظام انشلّت فيه ذراع الدولة، بعوامل التمزق الاجتماعي والتخلف الاقتصادي والتقهقر السياسي.

في ضرورات النظام الديمقراطي التعبيري:

لم يكتفِ سعاده بنقد النظام الليبرالي وتبيان عجزه، بل وضع هو أيضاً قواعد نظام جديد قام على مجموعة مبادئ سياسية حقوقية هي نتاج مذهبه الاجتماعي ونظرته إلى الدولة والمجتمع: «إننا نشق في الحياة طريقاً جديداً نختاره لأنفسنا ونعتمد عليه في تفكيرنا الخاص، وسوف يكون هذا الطريق في جملة الإنتاج الذي يأخذه الناس عنا. إن التفكير الحاضر دخل في طور الشيخوخة في العالم كله، والبشرية بأسرها تنتظر تفكيراً جديداً تنتظر به سعادتها وراحتها وحريتها. وهذه البضاعة الجديدة سيخرج أكثرها وأفضلها من سورية، بلاد العبقرية والنبوغ» 10 .

وقد وصف أحد المفكرين القوميين هذا النظام «بالنور الجديد» وقال: «إن سورية تستطيع أن تكون مطلع النور الجديد للعالم مرة أخرة بإنشائها النظام المثلي للحكم الذي يصبح أنموذجاً للأمم تنسج على منواله وتبني على مثاله» 11 .

تاريخياً، لقد مرّ كل مجتمع تقريباً في مراحل عدة، من المشاع إلى الاستعباد إلى النبالة إلى الإقطاع إلى البرجوازية.

غير أن لكل مجتمع عوامل تطوّره التي تتشابه أو تختلف مع عوامل تطوّر أي مجتمع آخر.

والفكر السياسي، كل فكر سياسي، إما يوافق عوامل تطور هذا المجتمع أو يعارضها، فإذا كان يوافقها يكون عامل قوة وتطوير لهذا المجتمع، وفي الحالة الثانية، فإنه يقمع عوامل التطور. والقدرات الحاكمة في بعض المجتمعات كانت جيدة النظام، وفي بعضها الآخر فاسدة النظام.

ففي أوروبا القرون الوسطى مثلاً، كانت الأنظمة السياسية تمنع التطور، لقد كانت أنظمة فاسدة، فلم تنتج تطوراً اجتماعياً سياسياً اقتصادياً يُذكر.

فالأنظمة، تطوراً أو تخلفاً، تكون على نسبة مبادئها السياسية. والمبادئ السياسية لهذا النظام أو ذاك تكون صالحة أو فاسدة. فنظام الحكم يرتبط إذن بمبادئ. ونظام الحكم الجيد يعني أن مبادئه جيدة.

نخلص مما تقدَّم إلى تقرير ما يلي:

إن النظام الديمقراطي التمثيلي يقوم على مبدأ تمثيل أحوال المجتمع بحيث تكون السلطات السياسية انعكاساً مباشراً لأحوال المجتمع وأوضاعه ومتاعبه. وهو نظام تتعاقد فيه السلطات السياسية مع مراكز القوى الوضعية المتمركزة في أوضاع المجتمع على قاعدة تبادل المنافع والخدمات.

هو نظام تَعطل فيه الفعل السياسي الحر وانشلّت يد الدولة فلم يتمكن من تكييف أحوال المجتمع ولا من تحرير الدولة من ضغوطات القوى الوضيعة المتمركزة في بؤر الإنتاج.

إن الفارق الأساسي بين النظام الديمقراطي التعبيري والنظام الديمقراطي التمثيلي يتمثل في مبدأين أساسين:

الأول: إبقاء الفرق واضحاً بين السياسة والاجتماع. «إنّه لخيال بديع، في نظر غيري، وخيال سخيف في رأيي أن يكون كلّ فرد من أفراد المدينة الأمة المعترف بهم شريكاً فعليّاً في إدارة الدّولة. إنّ المدينة السّورية ظلّت محافظة على الفرق بين السيّاسة والاجتماع واضحاً. وهذا الفرق هو ما مكّن الدّولة من اطّراد تقدّمها» 12 . لذلك فإن العقل السوري الذي وصفه سعاده بالبراغماتية «اكتفى من التجربة الإغريقية للحكم الشعبي، بواسطة الشعب أجمع، بالمشاهدة» 13 .

الفارق الثاني: إرساء البناء الأعلى للدولة على قاعدة التعبير عن الإرادة العامة لا على قاعدة تمثيل الإرادات العامة.

أما الوصف العلمي والقانوني لهذا النظام كما حدّده المفكر هنري حاماتي فهو نظام ديمقراطي تعبيري رئاسي. ويقصد سعاده بالسياسة الدولة ومؤسساتها القومية العليا، بوصفها المعبّرة عن الإرادة القومية العامة، والمظهر السياسي الحقوقي للأمة.

وبالاجتماع: الشعب في متحداته المحلية، الصغرى والوسطى، في القرى والمدن والأرياف. فإذا كانت المؤسسات القومية العليا تعنى بمصالح الإرادة والسياسة والتخطيط والتنظيم على المستوى القومي العام، فإن لجان المديريات ومجالس المنفذيات في المناطق تعنى بقضايا التنمية المحلّية، في البلدات والمدن ومراكز التجمع البشري والإنتاجي.

فالديمقراطية التعبيرية تستطيع أولاً، أن تؤمن حضور الدولة، في عمليات الإنتاج المستقبلية. وذلك باستيعابها للتطورات المستجدة على صعيد الإنتاج الكبير ومواكبتها للتغيرات الدولية، على صعيد المنافسة الاقتصادية وفتح الأسواق الخارجية.

والديمقراطية التعبيرية تستطيع ثانياً أن تحرر آلة الحكم، أي الدولة، من أحوال المجتمع الضاغطة. فيصير العامل السياسي عاملاً قائداً وموجّهاً في المجتمع، وتستطيع أيضاً أن تعيد تنظيم المجتمع على أساس قواه المنتجة، وأن تنمّي إنتاجية هذه القوى.

والديمقراطية التعبيرية تستطيع ثالثاً تأمين الاستقرار السياسي المتمثل في قيادة الفئة المؤهلة، التي انشقت وتحرّرت كلياً من القوى الوضعية المتمركزة في المجتمع، وتسلّحت بقوى المعرفة والإيمان والبطولة والمناقب.

مراجع

1. لم أشأ هنا عرض القواعد الفكرية للفلسفة القومية الاجتماعية حتى لا نخرج عن موضوعنا الأساسي المتمحور حول فلسفة نشوء الدولة بعامة والقواعد السياسية للنظام القومي الاجتماعي بخاصة، على أن أعود إلى هذا الموضوع في مناسبة أخرى.

2. نشوء الأمم، ص 104.

3. سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 155، الطبعة الأولى، بيروت 1989 ص 170.

4. المصدر نفسه ص 170.

5. كتاب التعاليم، بيروت 1978، ص 70.

6. سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 4، بيروت 1980، ص 120-121.

7. هنري حاماتي، بيان الرئاسة، أول آذار 1987.

8. سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 4، ص 95.

9. سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 7، ص 26.

10. سعاده، الآثار الكاملة، الجزء 7، ص 26.

11. فخري معلوف، «رسالة سورية الجديدة، إلى العالم» جريدة «السمير»، بروكلن، 1940.

المصدر السابق ص 29.

نشوء الأمم، ص 114.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى