التشكيليّة الأردنية هبة الصويص… بين الحرّية الافتراضية وقيود الواقع الاجتماعي الصعب!
نصّار إبراهيم
تنويه: شكراً للفنان علاء سهيل قسوس، الذي يرى في الفنّ حياة ومقاومة، فيذهب إليه حيث يكون… ويهمس لي: انظر هنا، بذرة تنمو وشعاع يضئ… فقل شيئاً .
«أنا أردنية من مدينة الفحيص، الفنّ بالنسبة إليّ حرية، فأنا أمارس حرّيتي الفكرية من خلال اللوحة. بينما يعبّر الشاعر عن أحلامه وهواجسه وتطلعاته إلى الحياة بقصيدة شعر، تكون الألوان حروف لوحتي. اللون هو لغتي التي تعكس ما يدور في داخلي. وأنا في أعمالي، فإن حالي كحال أيّ امرأة عربية، لا بل أشبه العواصم العربية في كل حالاتها: اغتراب، قلق، خوف وأمل، فأهرب إلى اللوحة كي أعيش في عالمي المتخيل»… هكذا تقدّم الفنّانة التشكيلية هبة الصويص وتعرّف عن نفسها.
الفنانة هبة الصويص في أعمالها التشكيلية «نساء ووجوه»، تتحرّك أو ترحل ما بين قيد وفضاء، بين ألم وأمل، بين الظاهر والمعلن، بين الحقيقة ونصفها، بين الوضوح والتشوّه، بين وعي الذات والوعي العام… بين أحلام مطفأة وأخرى تتوهّج كجمرة.
تركّز الفنانة هبة الصويص على الخطاب الذي يسرده وجه المرأة المجرّد. هناك، تحشد شعورها ورؤيتها وقدرتها على قراءة الأبعاد الدفينة في داخل المرأة، كما هي حال العواصم العربية المثقلة بالخوف والقلق والأمل على حدّ قولها.
الاشتغال على جزء محدّد من الجسد الوجه يحتاج إلى قدرة خاصة كي يتجاوز العمل الفنّي الجزئي ليصل إلى أعماق الكلّي. بحيث تجبرك تلك الوجوه المجرّدة على الوقوف أمامها والاستماع إلى همسها وألمها وضجيجها، وقراءة خطوطها وظلالها وزواياها المحدّدة وانفعالاتها المضمرة. وهذا ليس أمراً سهلاً لو لم تكن هبة تعي ذاتها كامرأة مسكونة بهموم وأحلام وهواجس وأسئلة وطموحات جمعتها من خلال الملاحظة والذاكرة والمعاناة والعين المرهفة التي تذهب إلى ما وراء الظاهر في الوجوه المشخصّة أو العابرة. بحيث شكّلت من كلّ ذلك رواية تحكيها تلك الوجوه، كلّ بطريقته التعبيرية الخاصة.
يحاول المتلقّي أن يذهب إلى ما وراء الوجوه الصامتة، المطرقة، الراحلة، الغافية، والمحدقة، ليكتشف أنه أمام وجوه، على رغم صمتها، إلا أنها تهمس، ثم تصرخ. وجوه مسكونة بالألم والقهر العميق. حزينة ومربَكة بذاتها. فيها أمل وأمنيات كسيرة. وجوه صاعدة أو قادمة من رحلة المرأة العربية الموغلة في التاريخ. وجوه تحمل قسماتها الأخاديد التي تركها الواقع وكأنها ندوب في وعي المرأة وثقافتها وسلوكها نتيجة «للصليب» الذي علقها عليه الواقع الاجتماعي المثقل بالقهر والاستغلال ولا يزال. وجوه قلقة، تغمض عيونها في محاولة للهروب من واقع يلقي عليها بأثقاله كي تبقى حبيسة أنوثتها والأدوار المرسومة لها اجتماعياً. أحياناً، تفتح عيناً وتغلق أخرى وكأنها توارب وتتمنّى أو تساوم. أو كأنها لا ترغب في الانفصال عن الواقع، أو تخشى المحاولة.
إذن، أعمال الفنّانة هبة الصويص تروي بمجملها حكاية المرأة. تطرح أسئلتها وهمومها، قيودها وأحلامها وآمالها بطريقتها الخاصة. وجوه تعبّر عن حركة التناقض العميقة. التناقض بمعناه الذاتي والجماعي، بمعناه النفسي والجسدي، بمعناه الخاص والعام. ومع حركة التناقضات الفاعلة في العمق يتحرك الموقف والشعور.
في لوحة «أعماق»، يتّكئ الوجه أو العقل على الكف وكأنه يستسلم. أو ربما يحاول البحث عمّا يعطي للوجود المشخص معنى يعوّض عن الخسارات المتراكمة. لهذا، تعود المرأة إلى ذاتها في حالة تأمل عميق. إنها تبحث لتجد روحها المستلبة. هي لا تتخلى عن جمالها وأنوثتها، لكنها تريدهما أن يكونا جزءاً عضوياً ومكوّناً أصيلاً من ذاتها الحرّة والمستقلة.
في لوحة «البعد الآخر»، ولوحة «نصف الحقيقة»، يندمج وجهان ليصبحا وجهاً واحداً. عين مفتوحة على اتساعها وأخرى عائدة إلى ذاتها. هنا يتبدّى التناقض بأشدّ ما يكون، ما يعكس حالة الانفصام النفسي والثقافي والاجتماعي بين داخل المرأة وخارجها، بين المعلن والمضمر، بين الواقع ونقيضه، بين ما يعلنه المجتمع عن نفسه وبين ما هو عليه في حقيقة الأمر.
في هذا السياق التفاعليّ، يتحرّك التناقض من المستوى الفردي إلى المستوى الجماعي، أي التناقض بين وعي المرأة ذاتها الفردية، ووعيها ذاتها الجمعية، إذ تتفاعل التناقضات وتتحرك بصورة أشد قسوة وتعقيداً. في لوحة «نحن ذاتنا» يتكاثف الألم ويتقاطع والقلق والحزن وحالة الانكسار الجمعي في تكوين ذي دلالة مؤثرة. بحيث تأخذ الوجوه الملامح ذاتها، والتفاصيل ذاتها، والتعابير ذاتها. وكأنها تطلق نداءً عميقاً: متى يفهمنا هذا الواقع؟ ولكن حتى يتحقق ذلك، على المرأة كذات جماعية، أن تعي ذاتها وقدراتها لذاتها من أجل انتزاع حريتها وهذا شرط بديهي.
في سياق هذا النداء أو الصرخة، تؤكد المرأة أنها الواقع ذاته، إنها ليست هوامشه أو ظلاله الملحقة، أي تحاول أن تتجاوز حالة المفعول إلى الفاعل. إنها تحاول أن تعي روحها الجمعية بما يؤكد مكانها الحاسم في الواقع. ولهذا، كان عليها بالضرورة أن تتوحّد وتتساند لتقول. ولكن، هل سيكون هذا التوحّد مجرد توحّد سلبيّ للصمت والاستلاب والخوف؟ أم سيكون مقدّمة وعي للفعل والمبادرة والمقاومة الفاعلة التي تستهدف هزّ قيود الواقع أو تحطيمها ولو جزئياً كي ينهمر الضوء حين تصبح حرية المرأة هي ذاتها حرية المجتمع؟ بحيث ينهض الجميع إلى المقاومة في مواجهة قيود التخلّف والقهر والاستغلال بمختلف أشكاله.
تعلن هبة أن اللون وسيلتها للتعبير عن اغترابها، قلقها، خوفها… وأملها. وتضيف: أمام كل ذلك، فإنني أهرب إلى اللوحة كي أعيش في عالمي المتخيّل…».
ولكن، ماذا بعد هذا الهروب الكبير؟ ماذا بعد أن تبني المرأة عالمها الافتراضي في خيالها…؟
بعد رحلة الهروب تلك، ستعود المرأة من رحيلها الافتراضي إلى الواقع ذاته الذي شكّل دافعاً لهربوها الافتراضي. ستهبط مرة أخرى من علياء أحلامها إلى أرض الواقع من جديد. لتجد أنه لا يزال ذاته. فما دامت المرأة تمارس افتراضياً الهروب من المواجهة، فإنها ستعود من جديد إلى دوائر الاغتراب والقلق والخوف، وهي بالتأكيد ليست دوائر افتراضية، إنما واقع مُعاش.
إذاً، هناك خطوة حاسمة يجب أن ترافق الوعي أو تستتبعه، وتتمثل في إدراك قيمة الفعل من أجل التغيير. فوعي الذات ووعي الواقع يشكّلان خطوة ضرورية. كما أن تخّيل الحرّية والأحلام وتمثّل الطموحات، هو أيضاً شرط أو خطوة حاسمة. ولكن يبقى السؤال: وماذا بعد؟ وإلى متى ستمارس المرأة هواية الهروب من ذاتها ومن واقعها كنوع من حلّ؟ وإلى متى ستمارس طقوس حرّيتها في خيالها فقط؟
إذاً، لا بدّ من كسر المعادلة في لحظة ما. فما دام القلق والاستلاب والخوف والاغتراب واقعاً، يجب العمل لتحويل نقيض كل ذلك، أيّ الحرية من مشروع افتراضي ليصبح مشروعاً واقعياً. وغير ذلك، مواصلة الدروان في متاهة لا نهاية لها.
تستحضر الفنانة هبة الصويص في أعمالها أعماقها كامرأة. لهذا، هي تستشعر بألوانها وخطوطها وظلالها تعقيدات المشهد. وبالتالي، بقدر ما تعي الواقع، بقدر ما تبحث عن نافذة أو فسحة للأمل. في لوحتها «دعوني أحلم»، تذهب في حالة استغراق وتركيز وتأمّل صوفيّ عميق، وكأنّها تحضّرنا للحظة فعل ما، لحظة انفجار واندفاع أنيق وقوي بما يشبه رقصة صوفية حرّة. ومن خلال الفعل تنطلق الأحلام والطموحات كفراشات ملوّنة تراقص الطموح والأحلام المتخيّلة. حينئذٍ، يشرق الوجه كما في لوحة «صعود»، فترحل العيون نحو قمر، أو شمس تضيء في الأعالي، إذ تتخطّى المرأة ذاتها المقيّدة. إنها تكسر قيودها، وتطلق روحها فتعطي لجمالها الطبيعي القوة والوضوح.
نتمنّى أن تواصل الفنانة هبة الصويص رحلتها في الكشف، بحيث تتخطّى وصف الواقع وتشخيص الألم والقلق والخوف وصولاً إلى الوجوه المتمرّدة والثائرة بكلّ جمالها وأنوثتها وقوّتها وحرّيتها.