غايات أميركا الراهنة… وخياراتها
محمد شريف الجيوسي
ما الذي تريد الولايات المتحدة الأميركية تحقيقه في المنطقة العربية وجوارها، قبل التوصل أو العبور إلى أي تسوية أو حل أو انفراج أو حرب أو تعويم أو تثبيت للواقع أو تغييره؟
علينا أن نتذكر أن الكيان الصهيوني هو هدف واشنطن الأول، مهما تهيأ لنا غير ذلك أو لغيرنا، ومهما حاولت الولايات المتحدة الإيحاء بغيره أو توصيله، وحتى في حال حدوث تباينات في الرؤية أو المواقف، فليس لأن لواشنطن غاية غير أمن واستقرار واستمرار تفوق الكيان الصهيوني، وإنما لأنها أحرص من الكيان الصهيوني من شوية عيال يوشكون على أن يتورطوا ويورطوا معهم كيانهم في ألعاب صغيرة أو كبيرة ليس وقتها، ولا تلك أدواتها.
وتعلم واشنطن جيداً أن وراء تلك التباينات إن صدقت مزايدات ودوافع استهلاك داخلي انتهازي صهيوني، لغايات الحكم، يغذيه ضعف العرب، وهو ضعف يغذيه أيضاً تطرف الصهاينة وتشددهم ورفضهم تحقيق أي حلول للقضية الفلسطينية حتى في حال كانت تلك الحلول وهي غالباً كذلك حلول تصفوية ، ما دفع لظهور عصابات إرهابية تكفيرية جهالية وهابية وإخوانية في جملة أسباب أخرى خَلقَتْها واشنطن وباريس ولندن وبون وحلفائها من العرب ودعمتها ومولتها ودربتها وسلحتها ومدتها بما يلزم من معلومات وإعلام نشط وفكر تضليلي وضلالي.
بهذا المعنى فالتباين «الإسرائيلي» ـ الأميركي، على قدر من الضرورة، على أميركا ومن يتبع تنميته ودعمه، بما يكرس من تطرف ظاهرٍ مقابلٍ، من منشأ عربي وإسلامي مفترض، وعلى أميركا المبالغة في تصوير حجم تناقضها ومخاطر هذا التناقض على مستقبل العلاقة الأميركية ـ «الإسرائيلية» استراتيجياً، بما يبرر لهؤلاء العرب داخلياً وضع كل بيوضهم في سلة واشنطن، وبما تَعِدُ الأخيرة هذه العصابات منذ الأيام الأولى للفوضى الأميركية الخلاقة في المنطقة أواخر عام 2010 بتسلم الحكم في تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية والأردن، واستمرار إمارة حماس في غزة، وعلى أن تمتد بعد حين يسير إلى الضفة أيضاً.
ذلك في مقابل الانشغال عن الكيان الصهيوني باتجاه إيران، وتحويل بوصلة الصراع كلياً من عربي صهيوني إلى عربي إيراني، سني وشيعي.
أما بالنسبة لدولٍ عربية بعينها، تدعم هذه العصابات، فإنها تجد لنفسها مبرراً مضحكاً، انطلاقاً من أن أميركا تخلت بحسبها عنها وعن «إسرائيل» لمصلحة اتفاق نووي مع إيران، ما يستدعي عدم الركون لتبعيتها المطلقة لواشنطن، الظاهر طبعاً بمواجهة خطر طهران، وما يقولون إنها أطماع إيرانية فارسية صفوية تشيّعية، وبالتالي التحالف مع «إسرائيل» «المُتَخَلّى» عنها أميركياً، لأجل إقامة توازن استراتيجي إقليمي.
وبالطبع، فإن توزع الأدوار هذا، يعجب الأميركيين ومن يليهم جداً، طالما أن الدماء والأموال التي تهدر في ساحات الصراع هي ساحات عربية وبعض الدماء إسلامية ابتداءً من ماليزيا وأندونيسيا حتى المغرب مروراً بالشيشان والجمهوريات السوفياتية السابقة، فضلاً عن الجماعات الإسلامية في قارات الأرض الـ 6، وهو التغيير الذي وعد به أوباما الأميركيين، والذي خرجت ملايينهم في عهد بوش الابن رافضة المزيد من إهراق دماء أبنائهم وأموالهم في العراق، فوفر أوباما عليهم ذلك، مبقياً على حروب واشنطن في المنطقة ولكن بالوكالة، بل ضاعف ساحاتها بدماء وأموال العرب والمسلمين.
وها هو ذاك الذي خطب في بداية ولايته الأولى في جامعة القاهرة، مطمئناً العرب والمسلمين بسمرته وبعض جذوره الإسلامية المنسية، يدخل أخيراً مدخلاً ذكياً جديداً، بتحالف بعض العرب مباشرة مع الكيان الصهيوني، وبتلقي بعض العصابات الإرهابية الدعم من أطراف عربية دون أخرى، فيما تحارَبُ من أطراف أخرى… في تمهيد خبيث لاقتتال هذه الدول أيضاً في ما بينها بعد حسمها الصراع في ساحاته الراهنة على خلفية تبنيها أجنحة إرهابية دون أخرى، بل وحظرها، وعلى قاعدة اقتسام الغنائم، المتوهمة، فيما هي باقتتالها المقبل، وتحولها إلى دول فاشلة، هي التي ستنتهي كـ دول منتهية الصلاحية .
ومن المرجّح أن الولايات المتحدة الأميركية، لن تقبل تطوراً آخر جديداً، قبل أن تتجذر علاقة بعض دول العرب بالكيان الصهيوني، وبعد أن تتجذر العصابات الإرهابية في المنطقة العربية أو أن تندحر، فواشنطن لم تحقق موضوعياً أهدافاً استراتيجية من أي نوع بإطلاقها الفوضى الخلاقة في المنطقة العربية وجوارها، أما الدماء والأموال والبنى التحتية المدمرة كل ذلك يمكن تعويضه، وحلفاء واشنطن والغرب خسروا حتى اللحظة أغلب آمالهم بمجيء أنظمة خالصة لهم. فعلى جبهات القتال في سورية والعراق واليمن وليبيا، تتحق إنجازات مضطردة غالباً لا تخدم بحال مصالح الغرب عموماً، على رغم بعض الانتكاسات، كما تتفاقم كراهية الأمة ضدهم والوعي الوطني والقومي والإيماني والإنساني الرافض لهم.
لقد باتت أميركا أمام أحد خيارين مقبلين قد لا يكونان وشيكين، أما الانسحاب من ساحات الصراع في المنطقة، بخاصة بعد فشل حزب التنمية والعدالة التركي في الإمساك مجدداً بالحكم بكل تداعيات ذلك التراجع غير المبشر من وجهة واشنطن، والتي قد تنقل تركيا إلى ساحة صراع محتدم جديد بما فتح النظام السياسي على ذاته من أبواب واحتمالات غبية صعبة ـ وإما الانتقال إلى مرحلة تدخل بري مباشر، بعد فشل سياسات الحرب بالوكالة، وفي هذه الحالة ستواجه واشنطن، بتعارض مصالحها مع حلفاء الأمس على الأرض.
في هذه الأثناء، يتوقع أن تستمر واشنطن في المماطلة بتوقيع اتفاق نهائي حول الملف النووي، فاستمرار المفاوضات والتلويح بقرب تحقيق اتفاق، ليس هدفه الحقيقي حتى في حال التوصل إليه الاتفاق بذاته، وإنما تعميق حالة ومشاعر الخطر الإيراني الموهم عند بعض العرب، وتكريس التحالف مع «إسرائيل» وما يستتبع من تحولات وإهراق دماء وهدر أموال وتعميق التورط أكثر في اليمن الخ.
كما أن امتداد المفاوضات مع إيران، سيجعل طهران في ظن الغرب، تتريث في اتخاذ قرارات أكثر جرأة تجاه ساحات الصراع المفتوحة، على رغم أن هذا الظن الغربي ليس دقيقاً.
وفي هذه الأثناء أيضاً، ستزداد الضغوط العربية والأجنبية التابعة على السلطة الفلسطينية، لاستئناف مفاوضاتها العبثية مع الحكومة الصهيونية، ليس لغرض التوصل إلى حلول عادلة، أو أقل من عادلة بكثير، ولكن استباقاً لأي تحولات درامية في المنطقة على الصعيد الشعبي والمقاوم، ولتضليل الشارع الفلسطيني والعربي وامتصاص مشاعر الاحتقان الوطني ولإسقاط أو تأجيل أي انفجارات يرجح حصولها بالتزامن مع ما تحققه الجيوش الوطنية العربية والمقاومات الشعبية من إنجازات مشرفة على غير ساحة.
m.sh.jayousi hotmail.co.uk