حافظ الأسد… الكبير في ذكراه
رانيا مشوِّح
بمدية الحكمة فصد عروق السياسة وبسخاء الذكاء اللا متناهي أحكم قبضته على شرايينها، أربك القادة الكبار وجعلهم يُقِرّون بأنه الأبرز والأقوى، أثار رعبهم وإعجابهم بحنكته، امتلك مفاتيح الأسرار في عالم السياسة العميق، فغاصوا لمجاراته، لكن سرعان ما ضاقت بهم الأنفاس مما جعلهم يبصمون له أصدقاء وأعداء بأنه القائد الحكيم وأنّ لحكمته مرارة مستساغة.
القائد الخالد حافظ الأسد قالوا عنه الكثير، حاولوا سبر غوره، حلموا بلقائه حتى ينهلوا قبساً من ضياء عقله فانتهوا إلى تصريحات عديدة عن هذا الرجل القوي الشجاع والمستحق للقب القائد. حيث قال عنه بيل كلينتون الرئيس الأميركي الأسبق عقب زيارته إلى دمشق: «هذه هي المرة الأولى في حياتي التي أحسّ أنني وضعت يدي بيد رئيس، لقد أحسست بشعور لا يوصف عندما سلّمت عليه، وعندما نظرت إلى وجهه، رأيت التاريخ كله والعنفوان كله في تلك اللحظات بالذات، حمدت الله على أنه ليس رئيساً لدولة كبيرة لأنه عند ذلك كان ليحكم العالم بدون منازع».
ويأتي ما قاله جيمي كارتر الرئيس الأميركي الأسبق في كتابه عن السلام في الشرق الأوسط موضحاً شدة حذر الساسة الغربيين لعقل القائد حافظ الأسد وحنكته السياسية المبهرة، حيث قال كارتر: عندما توليت الرئاسة كان أحد أهدافي الرئيسية هو إقناع الرئيس السوري حافظ الأسد بتغيير سياسته السلبية والتعاون معي في جهود شاملة من أجل السلام، ولم يكن هناك الكثير الذي نعرفه عن حياته الشخصية أو العائلية، لكن وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر وآخرين ممن عرفوا الأسد وصفوه بأنه شديد الذكاء وبليغ وصريح حتى خلال مناقشته لأشدّ القضايا حساسية، فقمت بدعوة القائد السوري لزيارتي في واشنطن، لكنه رفض معبّراً عن رفضه التامّ لزيارة الولايات المتحدة في أيّ وقت، بالرغم من هذا الرفض الحاسم المؤدّب فقد درست كلّ ما أستطيع تعلّمه عنه وعن سورية قبل أن أقابله. كان الأسد شديد الحماس في حمايته للمنطقة من التدخل الخارجي، كما أنه كان يعمل على توسيع دور سورية كقوة مؤثرة في الشرق الأوسط، لقد كان مستعداً للدخول في مواجهات سياسية وعسكرية خطيرة إذا ما تطلب الثبات على مبادئه. وأضاف في جزء آخر من الكتاب: بعد أحد هذه الاجتماعات الطويلة، وقف الأسد في مكتبه بجوار لوحة ضخمة مرسومة لوصف «معركة حطين» التي وقعت في عام 1187، في تلك الموقعة التاريخية تمكن القائد صلاح الدين الأيوبي من هزيمة الغزاة الصليبيين وسقطت مملكة القدس الصليبية، لقد تمكن العرب من الانتصار على الغرب، بينما كان الأسد يتكلم على الأراضي المقدّسة بدا لي وكأنه صلاح الدين الحديث، وكأنه أصبح من واجبه أن يخلص المنطقة من الوجود الأجنبي، بينما يحافظ على دمشق كالمحور الذي تدور من حوله وحدة العرب.
كما وصف الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان الرئيس الأسد بقوله: لدى الرئيس حافظ الأسد تجربة كبيرة، وهو قائد ثابت الرأي يتميّز بذكاء خارق ويتمتع بمعرفة جيدة في القضايا المطروحة، وهو مُطّلع جداً على عملية السلام ومراحلها المختلفة، ولديه نظرة واضحة حول كيف يريد أن يرى عملية السلام تتطور، إنّ السلام بالنسبة للرئيس الأسد يجب أن يرتكز على مبادئ الأرض مقابل السلام، وقرارات مجلس الأمن».
وبدوره قال روبرت بيللترو مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق: «الرئيس حافظ الأسد شخصية عملاقة على مسرح الأحداث، جعل سورية لاعباً هاماً في الشرق الأوسط، وبشكل خاص في محادثات السلام الخاصة بالشرق الأوسط، وفي عملية البحث عن سلام شامل. كان مفاوضاً صلباً ومحاوراً صلباً لحظة اجتماعك به فأول انطباع يرد إلى مخيلتك، هو انك تقف أمام قائد يمتلك وقتاً لا حدود له للاجتماع بك ولسماع كلّ ما تقوله، يعدّ العدّة للمناقشة كلها، ولا يبدو عليه متعجلاً.
أما وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر فيعبّر عن رأيه بالرئيس الأسد قائلاً: التقيت الرئيس الأسد مباشرة بعد حرب تشرين 1973، والتقيته مرات عديدة خلال المفاوضات حول تحرير مرتفعات الجولان، وهو لم يكن يوافق على كثير مما فعلنا، فقد كان سورياً وطنياً مقتنعاً بأنّ عليه حماية المصالح السورية والعربية، وقد كان مفاوضاً صلباً جداً. ولقد اعتبر نفسه مسؤولاً عن القومية العربية، الأسد مفاوض صلب وعنيد ويتمتع بخبرة ودراية كبيرتين، وكنت دائماً أجد أهمية خاصة عند التفاوض مع الأسد والتحادث والجلوس معه لساعات طويلة، وقد أثبتت الظروف والأحداث أنّ أحداً لا يستطيع انتزاع شيء من السوريين دون مقابل وبلا ثمن، الرئيس الأسد هو المدافع بقوة عن المصالح الوطنية والقومية، والرئيس الأسد يحترم كلمته دائماً، كان الرئيس الأسد رجلاً ذا ذكاء استثنائي، وقومي إلى حدّ الشغف. وفي آخر تصريح له اعترف كيسنجر قائلاً: لقد هزمني حافظ الأسد في الماضي.
كذلك تحدّث وزير الخارجية الأميركي الأسبق وارن كريستوفر عن مفاوضاته مع الرئيس الأسد وكيفية لزوم تحضير كلّ من أراد لقاءه للكلام المناسب وعدم العبث بالمفردات التي كان الرئيس الأسد يمتلك القدرة العظيمة على قراءة ألغازها وتحليلها بدقة قائلاً: إنّ اجتماعاتي مع الرئيس الأسد، التي تستغرق أربع ساعات كحدّ أدنى، ممتعة لأنّ الرئيس الأسد متقد الذكاء ومتحدث لبق، إنّ السيد الرئيس حافظ الأسد مصمّم على منح فرصة للسلام، ولذلك فانه يفاوض بدقة بالغة، وهو من أكثر المفاوضين خبرة في العالم. إنّ الرئيس الأسد رجل حادّ الذكاء ومتلك قدرة أشبه بأشعة الليزر على النفاذ إلى موضوع الجدل، وهو جاد جداً بشأن عملية السلام ويتصف بعقلية متميّزة، بلا شك أنّ الرئيس الأسد على صواب عندما يؤكد على شمولية الحلّ، ففي كلّ مرة كنت أطرح فيها نقطة ما، كان الرئيس الأسد يتناول العبارة أو الفكرة ويدقق فيها من زوايا مختلفة. ويسأل بالتالي عن معنى كلمة محدّدة فيها، وبتقديري أنّ كلّ من يحاور الأسد، يتعيّن عليه إعداد نفسه بشكل جيد، لأنّ الرئيس الأسد يفحص بدقة متناهية كلّ ما سيقوله المفاوض، لكي يتأكد من عدم وجود أمر ما مختلف داخل معنى هامّ، الرئيس الأسد من أذكى المفاوضين في العالم ومتمسك بمواقفه الحاسمة وجدي.
كما تحدث الرئيس الكوبي فيدل كاسترو عن مناعة وذكاء الرئيس الأسد، وقال: لم يستسلم الرئيس الأسد طيلة حياته، وقد عرف كيف يرقى بقضيته إلى قمة المجد، وكيف يبني لسورية مجدها، فهو واحد من أكثر الرجال شجاعة في العالم، ولقد فاق الأسد الجميع في الثبات والكبرياء والكرامة، الرئيس حافظ الأسد هو القدوة الحقيقية والتاريخية، وهو الوحيد المتمتع بالأفكار الصائبة والرؤى المستقبلية حول عملية السلام.
هذا غيض من فيض الحيرة التي بعثها الرئيس الراحل حافظ الأسد في نفوس كبار قادة العالم، فكان الكبير في عالم الكبار، وأدار الدفة لصالح بلاده في كلّ محاولات الدول العظمى فرض قيادتها على العالم، أتعبهم وأثار فضولهم، فهو مَن بنى سورية حجراً فوق حجر، وأسس لمستقبلها وقوتها، ولم يغره شيء ولم يقلل من قيمة شيء، فهدوؤه المفعم بالقوة جعل خصومه يغوصون في وحل أخطائهم، كان ابن هذه الأرض وأخذ جلّ صفاته منها فكان الشجاع الحكيم والبسيط الجزل، لم يساوم يوماً وهذا ما جعل اسمه يعلو في كلّ مرة رفض فيها التنازل، هذا الرجل لا يتسع وصفاً لغنى ما يمتلكه من مواصفات ولعلّ الوصف الوحيد الذي يناسبه والذي يوحي بكلّ مقوماته هو أنه القائد حافظ الأسد.