دولة رخوة وحدود فالتة ونواة صلبة لماذا السويداء والدروز؟
ناصر قنديل
– منذ عام 1948 لم يخفِ «الإسرائيليون» قناعتهم بأنّ مشروعيتهم التاريخية ككيان ترتبط بولادة مجموعة من الكيانات المشابهة على أساس طائفي ومذهبي وعرقي، وسعوا إلى تحقيق مثل هذه الأحلام مراراً، ودفعها إلى حيّز التنفيذ، سواء مع قادة مسيحيّين، كما تكشف مراسلات موشي شاريت مع قادة لبنانيين مسيحيين على مستوى الرئيس الراحل كميل شمعون والشيخ بيار الجميّل، ومع قادة الأكراد في شمال العراق، كما لم يعد خافياً من كلام رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني مراراً عن العلاقة التي ربطت والده الملا مصطفى البرزاني بـ«إسرائيل»، ويكفي التذكير بالإعلان «الإسرائيلي» على لسان رئيس حكومة الاحتلال مؤخراً بنيامين نتنياهو عن دعم مشروع قيام دولة كردية.
– السعي الحثيث للقادة «الإسرائيليين» تركز على مشروع دولة درزية، كما تقول الوثائق التاريخية، وأهمّها ما تضمّنه كتاب سدر النحاس الذي صدر حديثاً للمؤرخ «الإسرائيلي» شمعون أفيف، ويلقي فيه الضوء بالوثائق والصور عن خطة «إسرائيل» في أواخر سنوات الستينات إقامة «دويلة درزية» عازلة بين سورية و«إسرائيل»، ومحاولة «إسرائيل» لبث الفتن والمؤامرات في جبل العرب الذي تسكنه الغالبية من طائفة الموحدين «الدروز» من أجل تهيئة الأجواء لـ«إسرائيل» بإعلان الدولة المقترحة، ويستذكر مؤلف الكتاب «مراسلات وزير العمل «الإسرائيلي» يغال ألون مع رئيس الحكومة «الاسرائيلية» ليفي اشكول بعد شهرين من حرب حزيران 1967»، وقد قال ألون في حينه إلى رئيس الوزراء «انّ خصوصية الطائفة الدرزية وعددها والمكان الجغرافي الذي تعيش فيه تجعلها قادرة على إعلان التمرّد من أجل إقامة دولة درزية تضمّ الجبل والجولان والجليل وأجزاء من جنوب الليطاني في لبنان، وأقترح أن نقدم لهم المساعدة العسكرية والمالية والسياسية، وهذه الدولة نجعلها تعترف بوجود دولة «إسرائيل» وشرعيتها». وقد أرسل ليفي اشكول رسالة جوابية إلى ألون بعد ثلاثة أيام أبلغه فيها «أنّ هذا الموضوع قيد الدراسة الجدية، وأنّ الفكرة تطرح الآن من قبل قادة وضباط الجيش مع بعض الوجهاء المحليين في القرى التي بقيت في الجولان بعد الحرب».
– يستعرض شمعون أفيف انّ قسم الشرق الأوسط في الخارجية «الاسرائيلية» أبدى تخوّفات وشكوكاً في قدرة الجيش «الإسرائيلي» الحديث في التغلب على الجيوش العربية، ولهذا يجب ان نجد شركاء وحلفاء محليّين داخل تلك الدول لاستبدال وخلخلة النظم الحاكمة، ويضيف في رسالة وجهت إلى رئيس قسم الشرق الأوسط الياهو ساسون في شهر 11/1948 كُتب فيها «انّ تمرّداً كهذا سيكون بمثابة سكين سامّ يوجّه في ظهر الدول العربية التي تحاربنا، إضافة الى انّ ضعضعة النظام في سورية ستخفف من الضغط العسكري على إسرائيل»، وإذا كان وزير الخارجية «الإسرائيلي» آنذاك موشيه شتريت قد رفض الفكرة، فالسبب هو كما قال في ردّه تكاليف هذه التجهيزات، وقدم اقتراحاً موقتاً إلى رئيس الوزراء بن غوريون في آب 1948 بأن «تعمل إسرائيل على تدريب سكان محليين داخل «إسرائيل» قبل البدء بأيّ تحرك»، ومن هنا نشأت فكرة التشكيلات العسكرية الخاصة بتطويع الدروز في الجليل ومنحهم وضعاً خاصاً.
– سقطت المخططات «الإسرائيلية» السابقة لسببين رئيسيين، الأول هو قوة الدولة المركزية السورية، وروح التماسك الوطني العالية بين مواطنيها، وما أسّس لذلك في زمن الصعود القومي والتمسك بالهوية العربية وحضور خيار العداء لـ«إسرائيل» من جهة، وفي المقابل وجود شخصيات وطنية عالية الشجاعة وروح الفروسية وقع بين يديها المشروع، وتمكنت من تضليل الاستخبارات «الإسرائيلية» ونقلت وقائع التخطيط إلى قادة مثل كمال جنبلاط وجمال عبد الناصر وحافظ الأسد الذي كان وزيراً للدفاع حينها في سورية، ما أتاح إحباط المخطط، والتحسّب له، وعلى رأس هؤلاء كان القيادي في الحزب السوري القومي الاجتماعي كمال كنج أبو صالح الذي خدع «الإسرائيليين» وأوهمهم بتبنّيه المشروع وقام بتعطيله مغامراً بحياته لينتهي به الأمر، في السجون «الإسرائيلية» بأحكام لثلاثمئة عام سجناً، بعد مداهمة منزله في 8 – 10 1970.
– على مسار موازٍ كان الأميركيون يدرسون مشاريع لهندسة الجغرافيا السياسية للمنطقة، ويعيدون النظر بخريطة سايكس ـ بيكو، وكانت بين أيديهم، نظريات المؤرخ برنادر لويس وخرائطه لتقسيم دول المنطقة، واعتماد حدود بديلة للكيانات والدول التي نعرفها، لتكون ما سماه خطوط الديمغرافيا، أيّ الطوائف والمذاهب والأعراق، وما يتضمّنه اعتمادها من دعوة إلى حروب أهلية طويلة ودامية، وعمليات تهجير ودمار وخراب وتطهير عرقي متبادل، وهذه كلها أسباب مشجعة للسير بالمشروع، لولا أنه سيؤدّي بقوة الفالق الديمغرافي الناشئ عن الحروب لتقسيم السعودية وتركيا ومنح الساحل المتوسطي كله من اليونان إلى فلسطين لدويلات شيعية وعلوية، مقابل قيام دويلات شيعية على ضفة الخليج المقابلة لإيران، تختزن النفط والموقع المطلّ على المياه التي تصير السيادة عليها تحت اليد الإيرانية، ويصير نفط المتوسط مثلها طالما ستكون هذه الدويلات تابعة أو ملحقة أو تحتمي بإيران وتقيم معها علاقات مميّزة.
– هنري كيسينجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأسبق وأحد العقول التي استدعاها حلف الأطلسي بعد قمة فرانكفورت عام 2010 للانضمام إلى لجنة الحكماء التي تولتها وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت، اعترض على خرائط لويس واعتبرها حماقة كبرى، في ظلّ موقع إيران الراهن والمرشح للاستمرار لزمن غير قصير، لكنه اقترح بديلاً وسطاً يقوم على زعزعة وحدة وتماسك الكيانات الوطنية وحدودها في ما بينها من جهة أخرى، والدفع باتجاه بقاء هياكل الدولة قائمة وفارغة من القدرة والطاقة، لحساب نشوء سلطات أمر واقع تستند كلّ منها إلى نواة طائفية صلبة، تحكمها عصبية منفلتة، واستخدام هذا الأمر الواقع المديد، لاختبار أشكال الخرائط الممكنة والتحكم بتبريدها وتسخينها، بالإفادة من الخبرة التي وفرتها الحرب الأهلية في لبنان.
– تتلاقى «إسرائيل» في تعاملها مع الملف الدرزي مع رؤية كيسينجر، فهي لا تملك مقدرات سياسية وعسكرية واستراتيجية لوضع مشروع قيادم دولة درزية موضع التنفيذ، لكنها وهي تملك نفوذاً واسعاً على «جبهة النصرة» كفرع لتنظيم «القاعدة»، التي تشكل القوة المنظمة للجسم المسلح المناوئ للدولة السورية في جبهتي الجولان وحدود الأردن، وتملك تأثيراً يسمح لها بالتلاعب بمواقف ومواقع قيادية درزية تجاهر بالعداء للدولة في سورية على رأسها رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي في لبنان وليد جنبلاط، تقدّم للدروز في سورية ولبنان وفلسطين، حيث التشارك مع أبناء الطائفة السنية صيغة التساكن في حزام أمني يتشارك الأمن مع «إسرائيل»، فبعض الحركات الإسلامية في الأراضي المحتلة العام 1948، يقع تحت تأثير فكر «القاعدة»، ويتشاطر مع الدروز جغرافيا واحدة ولا مانع «إسرائيلياً» من منح هذه الجغرافيا نوعاً من الإدارة الذاتية، لجعلها تملك قيادة سياسية تتيح التعاقد مع مثيلاتها في السويداء والجولان والقنيطرة ودرعا، من جهة، وفي البقاع الغربي وراشيا وصولاً إلى الشوف، من جهة مقابلة.
– النواة الصلبة مهمتها الدعوة للحياد في الصراع الذي يخوضه تحالف سورية وحزب الله في وجه «جبهة النصرة» و«داعش»، وانطلاقاً من أن من سيخسر هذه الجغرافيا الحساسة هي سورية والمقاومة، سيكون بمستطاع «إسرائيل» أن تستند إلى هذا التغيير لإقامة علاقات أمر واقع، وتعزيز الأمر الواقع في الدول الرخوة لتنمو النواة الصلبة، من دون الإصرار على وضع مشروع نهائي محدّد لهذا المسار.
– تحتاج المواجهة عدم الاستخفاف بما يدبّر أولاً، وحشد طاقات أهلية غير حكومية في مواجهته، واستنهاض الناس الذين تلوّح لهم «جبهة النصرة» و«داعش» بحدّ السكين، كما جرى في قلب لوزة في ريف إدلب.