البحث التاريخيّ الخاص يتحوّل إدانةً للحرب ورفضاً للاستعمار الذي دمّر بلدان الحضارة الأعرق
كتبت أمل الجبوري: التاريخ منجم كبير لقراءة سيكولوجية الشعوب، وأداة معرفية للخروج من الأزمات، للإجابة ليس عن أسئلة تتعلق بالماضي فحسب، بل عن أسئلة تبحث عنها أجوبة المستقبل. فإذا فهم التاريخ ضمن السياق المعرفي البحثي النقدي وضمن إطار الأنثروبولوجيا فإنه يكون آلية مهمة لأي بلد يريد الارتقاء الى مرحلة الإنسانية التي يتساوى فيها المواطنون في كل شيء وتسود العدالة، ويكون القانون هو المفصل الذي يصون هيبة الدولة مانحاً إياها ضميراً لا يعرف ثقافة الإقصاء والتمييز أياً يكن نوعه.
التاريخ أيضاً يفتح أرواحنا على مناطق في مواضيع شائكة ومعقدة لا نرى منها سوى لون واحد أو لون ضبابي. لكن العين الأخرى للشاعر الرائي الباحث عن الحقيقة وحدها من دون أن يكون أسير وهم أو أسير نظرية أو موقف تحريضي مسبق، ستجد بالتأكيد في كل قصة مهما كبر أو صغر حجمها مساحة لمراجعة الذات، مراجعة فعل شنيع مثل شن الحرب مثلا على شعب تحت أي غطاء.
إن العقل المحايد سيغير معادلة الإعلام والسياسة ورجال الدين، تلك المعادلة التي تتعكز على جوهر إمساك الجميع بالحقيقة وأي شيء. عدا ذلك فهو إما باطل، أو كذب، أو غير موجود على الإطلاق.
جيني لويس شاعرة بريطانية فقدت والدها ولم يكن عمرها يتجاوز الأشهر، لكنها قبل أعوام قليلة قررت أن تبحث عن أي أثر لوالدها في بلاد الرافدين بعدما وجدت في حاجيات أبيها ألبوماً من صور نادرة كان التقطها بكاميراه بين عامي 1914 و1916 لأماكن عديدة في العراق مثل القرنة والعمارة والبصرة.
رحلة البحث بدأتها في قيد الجيش البريطاني للحروب التي خاضها خارج المملكة المتحدة، ومن خلال سجله العسكري في هذا الأرشيف. واستمرت رحلة البحث لتمتد أعواماً في مبنى دائرة الوثائق البريطانية الذي يحوي متحفاً مهماً يضم ويؤرشف حتى للعملاء من البريطانيين أو غيرهم من الجنسيات، لكي يطلع الرأي العام على حقب التاريخ البريطاني ومراحل تشكل بريطانيا العظمى عبر العصور حتى الوقت الراهن.
كلما وجدت الشاعرة شيئاً فأنه يعزز قناعتها بأن السبب الحقيقي وراء خوض الحروب من قبل الدول الكبرى هي المصالح الاستراتيجية، وتحديداً الاقتصادية، العمود الفقري لأيّ سلطة. ويبدو ذلك جلياً في أحد اعترافات اللورد غري فالدون الذي يشير الى العراق وعملية الاستيلاء على تلك المنطقة آنذاك 1919 بـTaking Mesopotamia.
هذه العبارة استعارتها جيني لتكون عنوان كتابها الذي ضم جزءاً من هذه الشهادات المتقاطعة زمنياً، غذ بدأت بملحمة جلجامش، مروراً بالتدخل العسكري الأول للبريطانيين في بلاد الرافدين، وببعض مذكرات الضباط البريطانيين الذين شاركوا في تلك العمليات العسكرية حتى الوقت الراهن التي تمتزج فيه شهادات بعض العراقيين الذين أجرت معهم الشاعرة لقاءات عديدة بعضها أصبح جزءاً من رحلة البحث الشعرية هذا مثل الشاعر المبدع عدنان الصائغ الذي حرّر بعض الترجمات العربية لهذه النصوص. ثم تطور مشروع جيني إلى ورشة أدبية تعيد رحلة التأمل في حضارات الرافدين ودراسة نصوصها الأدبية وتحديداً نص ملحمة جلجامش المشهورة وهي الآن محور أطروحة دكتوراه للشاعر إذ تعيد صوغ ترجمة جديدة لهذه العمل الإنساني الذي تفرد له شعوب العالم مساحة مهمة في مناهجها التدريسية في حين ينظر إليه أحد وزراء الثقافة في العراق بعد 2003 على أنه عمل فيه استباحة للذوق والأخلاق العامة إذ يشير إلى سيدوري وقصة الحانة. أمر محزن أن يختزل عمل أثار الجدال العالمي بمناظر أصولية في ثنائية الحلال والحرام، ليس لكونه أقدم نص أدبي معروف في تاريخ البشرية فحسب، إنما لكونه نصاً يشير إلى كل فرد منا في هذا العالم.
شارك في هذا الدورة هواة بريطانيون تختلف أعمارهم، وبينهم من لا يتجاوز عمره الأحد عشر عاماً. المفارقة أنني لم أجد أي مشارك من العراقيين المقيمين هنا في لندن.
ولدت هذه الورشة بنصوص بعضها يشكل قراءة وتأمّلاً جديدين الى عشتار أو نجمة اليل، أو إنليل، أو بابل، ليعيد صوغ أحلام سومر بعيون عشاق المتحف البريطاني.
هذا المشروع الذي تبنى نشر كتاب «نهب وادي الرافدين» هكذا أحببت أن أترجم العنوان اشتمل على نصوص تسجيلية شعرية تكشف زيف الحروب كلّها وعدم مشروعية الموت والسياسة التي تغتال الأحلام وتمحو ذاكرة الإنسانية بتناسل حروب أخرى في مكان وزمان مختلفين أو ربما المكان نفسه مثلما حدث في عودة البريطانيين الى وادي الرافدين عام 2003 يساندون حليفهم التاريخي المتمثل بالأميركيين. لكن قصة جيني لويس حينما تجاوزت رحلة البحث الشخصي الى رحلة إدانة الحرب وتسجيل شهادات الناجين منها أو لضحايا ممن اكلتهم هذه الحرب سواء بالتهجير أو المنافي، أو فقدان الأمل بعراق مدني متصالح بهذا النسيج الاجتماعي المتنوع كسجادة كاشان لا تشيخ أبداً، فإنها بدأت تدفع آخرين للبحث عن هذا التاريخ المشترك وإعادة إحيائه ولو بالحوار والحديث بصوت عال عن ذاكرة لا بد من دراستها مجدداً.
أثناء حضوري قراءة أخرى لتلك النصوص وعرضاً تاريخياً لقصة الشاعرة البريطانية في مكتبة الأرشيف البريطاني قبل أيام، إذا باحد الحضور من الجمهور البريطاني عرفت بعد ذلك انه من كبار موظفي وزارة الخارجية ، يعلق قائلاً إن جده أيضاً كان احد الضباط البريطانيين الذين خدموا في وادي الرافدين أثناء فترة الاحتلال البريطاني الأول للعراق، وراح يطلعنا في هاتفه الخليوي على بعض الصور النادرة التي التقطه جده مثلما فعل والد جيني تماماً. علقت قائلة لهما إنها أيضاً قصة العراقيين. فمن خلال العيون الأخرى ثمة قراءة مختلفة للحوادث. ثمة توثيق مصور للحياة في المدن العراقية لا يحويه حتى أرشيف الدولة العراقية اليوم. إذن هي دعوة لفتح حوار حول تلك الفترة لكي يعاد فهم جزء من تاريخ المنطقة والعراق تحديداً، قراءة موضوعية تتجاوز التناول السطحي بعيداً عن ثنائية العدو/المستعمر والصديق /الإمبريالي.
نريد قراءة تاريخ المرحلة الأولى لولادة الدولة العراقية على يد البريطانيين ضمن مقارنة موضوعية نقدية لمرحلة ما بعد 2003 اي دراسة احتلالين أجنبيين لأرض الرافدين، وما تلاهما من تغييرات ديموغرافية وسياسية. ربما نصل الى قراءة مغايرة لكتب التربية الوطنية التي لشأنا على حفظها وهي أن ما يسمى بـ»الثورات» ضد البريطانيين وتحديداً ثورة العشرين ما هي في حقيقة الأمر إلا انتفاضة وعصيان القبائل ممثلة بشيوخها على النظام المدني الدستوري التي أرادت ترسيخه بريطانيا العظمى آنذاك في العراق.
هذا النظام لكان في اعتقاد هؤلاء، لو استقر ونضج، المرجع الوحيد للمواطنة العراقية مشكلاً خطراً كبيراً على نفوذ المرجعيات الدينية والقبيلة والعشائر ونظامها الذي يستند إلى العصبية والقوة والإذعان، لا على منطق المساواة والعدالة وسلطة القانون ودولة مدنية تدين بدين المواطنة في حين تكون جزءاً لا يتجزأ من الإنسانية جمعاء.
قراءة جديدة للاحتلال البريطاني للعراق مطلع القرن العشرين لا تجعلنا نقف فحسب على نيات ومخططات الطامعين بالثروة النفطية، بل نقف أيضاً على منجزات المراحل الأولى لتأسيس الدولة العراقية ومؤسساتها من برلمان، وملك مصون غير مسؤول لا يحكم وبرلمان قوي يطيح الحكومات ورؤساءها وحكومة تكنوقراطية غير طائفية أو قائمة على المحاصصة. أقليات عديدة كانت تمثل النسيج المهم في تكامل العراق اقتصادياً حضارياً ثقافياً اجتماعيا، مدارس وجامعات تفوقت على جميع الموجود في المنطقة بأسرها، حركات فنية تجديدية معاصرة تكمل الثورة الثقافية في الطرف الآخر من العالم، عراق كان ضمن ولادته الأولى عراقاً نظيفاً جميلاً بعاصمة كانت الأولى بانفرادها عن المنطقة العربية بتأسيس أول قناة للتلفزيون والإذاعة، حوت أشهر الأسواق التجارية التي تضاهي آنذاك أهم الماركات العالمية كمحلات ليبرتي المشهورة في لندن وغيرها، بغداد كانت حقاً محور الثقافة والاقتصاد والسياسة، بغداد التي كانت بحسب أحد إحصاءات البريطانيين عام 1916 اختصاراً للموزاييك الديني والإثني، فالسنة كانوا يشكلون نحو 125 ألف نسمة واليهود 80 الف والشيعة نحو 25 الفاً، وهناك أعداد أقل من القوميات والديانات الأخرى.
قراءة نقدية لا يسوقها وازع الغلو الوطني أو الطائفي أو القومي لتاريخ العراق عبر صور نادرة وإحصائيات كانت بعيدة عن التزوير المنظم الذي نعيشه اليوم للضمائر والذاكرة والحوادث التي لم يمض عليها وقت بعيد. قراءة محايدة تلتزم البحث الأكاديمي النقدي الحر الذي يخضع كل مفصل في هذا التاريخ للسؤال والبداية الحقيقية لفهم أوضاعنا وكيف يمكن أن نخرج من مستنقع الطائفية والموت، وأن نبدأ رحلة ومهمة صعبة قبل كل شعوب المنطقة ألا وهي تفكيك «تأميم الدين» التأميم الذي أذل العقل والتاريخ العربي والإسلامي بصورة عامة مذ أخضع السياسيون الانتهازيون ورجال الدين بجميع مذاهبهم الدين الإسلامي كي يحكمونا ويتسلطون علينا باسمه لنساق بعد ذلك مثل قطيع لا أقل ولا أكثر.
إن الشعرية التسجيلية تعيد فهم تشكل العراق كدولة، وتعيد قراءة الشهود في بحث جيني لويس لكي نتعلم من ثنائيات الحب/الكراهية، الخلود/الفناء، الحرب/السلام، والثأر/الغفران:
«إن أبناء بلاد الرافدين الذين ربما انطلقوا،
مع الضياء الأول لقطف أفضله وهم يقولون،
مثلما كنت أقول:أبتاه زرعت هذا لك»
مقطع من قصيدة «ملاحظات من المنفى»، مهداة الى رامز غزول، ترجمة غسان نامق ومراجعة عدنان الصائغ، ص88 .