«من أجل نعم من أجل لا» مسرحيّة الشكّ والمواجهة على الخشبة الدمشقيّة

نسخة مطورة من عرض «من أجل نعم من أجل لا» قدمها المخرج مجد فضة على مسرح القاعة متعددة الاستعمال في الأوبرا السورية، فبعد تقديم العرض ضمن الأيام الثقافية للمعهد العالي للفنون المسرحية في آذار الفائت عن نص للكاتبة الفرنسية ناتالي ساروت، قدم مجد فضة أداء لافتاً مع كامل نجمة ولمى الحكيم، بجهد فني جماعي وتعاون مع الدراما تورج وسيم الشرقي، فكان الجمهور أمام نسخة جديدة للعرض الذي يتناول فكرة «الأنا… الآخر» عبر علاقة صداقة بين كل من «عبود» و»سلام» شخصيتي المسرحية.

اللغة في العرض وسيلة عاجزة من وسائل التواصل مع الآخر، لغة مشوشة غير مفهومة تشكل حاجزاً بين الشخوص وحقيقة ما يريدون قوله، فالجدال الصريح والمفتوح بين الصديقين القديمين والمعاتبات العديدة تنتقل من الهدوء، لتتحول الكلمة في كثير من الأحيان قطرة سم تتفشى بينهما، بل تتحول إلى مجابهة مفتوحة بين الصديقين مفعمة بالتشكيك ومحاولة كل منهما مقاربة نفسية الآخر من خلال تشريح لغته. مثلاً كلمة «والله… برافو» التي قالها الصديق الزائر لمضيفه بلكنة تقترب من الفوقية في زمن ماض كانت قادرة على إشعال نيران لا تنطفىء.

تسعى المسرحية التي تواصل عرضها اليوم على مسرح القاعة متعددة الاستعمال إلى إنجاز نوع خاص من مسرح الكلام أو مسرح الحكي، بعيداً عن «أكروبات» الحركة والحضور الجسدي للممثل، فما يزيد حدة التوتر في المواقف أن الحوار بين الصديقين كان أقرب إلى المونولوج الداخلي لكل منهما، فضلاً عن كونه مبتوراً وغامضاً كأنه دليل عجز وفشل في التواصل الإنساني، أو كما وصف المسرحي البلغاري يونسكو اللغة على الخشبة بأنها كراسي في عرض الطريق، إذ تبدو هذه اللغة مشلولة وعاجزة عن كشف لواعج الشخصية وغير قادرة إلاّ على تأجيج نار الصراع وخلق حالة من سوء الفهم لتصير البديهيات، فخاً قاتلاً لناحية إعادة إخضاعها من قبل العقل للتفسير والتمحيص في دقة الأقوال وقوتها من عدمه.

ساهمت اللغة في عرض «من أجل نعم من أجل لا» في تكرار الموقف الواحد مرات عديدة، ما أدى إلى تراكم مشاعر وأحاسيس غامضة لدى الشخصو أعطى مدلولات عن الخوف وعدم الطمأنينة والقلق الدائم لدى كل صديق حيال الآخر، فضلاً عن عدم ثقة الشخوص ببعضها وغياب إمكان إيجاد حل لتلك المشاكل المثارة، خاصة في ظل قدرة تلك اللغة على خلق حيرة مستمرة وقلق متواصل وخوف متجدد. ورغم محاولة تحكيم جارة الصديق المضيف الشخصية التي أدتها الفنانة لمى الحكيم، إلاّ أنها اصطفت إلى جانب الجمهور واستطاعت أن تكون شاهداً آخر على عبثية تلك المجابهة وأعلنت أنها غير قادرة أيضاً على الوصول إلى حل تلك المعضلة.

الحدوتة البسيطة في ظاهرها والعميقة في بنيتها الاجتماعية والنفسية والثقافية، استطاعت رفع تلك اللغة التقليدية المحملة عبر الحوار بين الشخوص من كونها وسيلة تواصل غير مجدية إلى محرك أساس للصراع، وبالتالي تمكنوا من مفصلة سلوكياتهم وضبط انفعالاتهم بحيث توازي التوتر الداخلي لنص «ساروت» ليكون نابضاً بالحياة، خاصة بعد استخدام العامية كخيار صحيح لملامسة الواقع بطريقة مناسبة من خلال مقاربة محلية للشخوص وتكثيفها في الزمان الآني.

يوضح العرض أن ما شاهدناه من مشاحنات بين الصديق السعيد في حياته الاجتماعية والاقتصادية والآخر الفنان الحساس كان على السكة الصحيحة زماناً ومكاناً من خلال تحقق ذلك عبر رؤية دراماتورجية موفقة لوسيم الشرقي، ما عزز آنية العرض وقدرته على إدهاش الجمهور، رغم ما تفرضه اللغة من غموض وحيرة، فالصديق المنزعج من فوقية الآخر وتعاليه وسعادته أحياناً، كان يلف سجائر «التبغ العربي» ويحضرها لوليمة من الأحاديث والذكريات. أما الآخر فهدوؤه واتزانه مبنيان على رغبة في الفهم وإعادة التواصل القديم لكن عدم الجدوى كانت المنتصرة الأولى والأخيرة.

كما أن اللغة الملغّزة وحمّالة الأوجه التي تغلغلت في الحوار تؤكد عزلة الصديقين كل في البرج الذي أراده، فالأول في برج اللامبالاة وعدم الاكتراث بجمع الثروة والاستقلال عن الرائج والسائد، والثاني في برج الاستقرار المادي مع زوجة وأطفال قادرين على جلب السعادة لنكون أمام ثنائية الواقع والخيال وما بينهما من عبث لا ينتهي تابعه الجمهور باهتمام بالغ.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى