معرض استعاديّ في باريس لمارسيال راييس … عالم تشكيليّ جديد يلهمه اليوميّ وأدواته
كتب أبو بكر العيادي: من النادر أن نجد فناناً انقلب على ماضيه وأدار ظهره لمنجز كان سبباً في شهرته. من هذه الندرة رونيه ماغريت، مبتدع فن اللغز المصور الذي انتقل إلى التلطيخ أو ما سماه «المرحلة العنيفة»، وجورجو دي شيريكو مبتكر الفن الميتافيزيقي الذي تحول إلى رسوم رديئة التلوين، والفرنسي مرسيال راييس أحد أعلام فن «البوب آرت» في الستينات الذي يقام له معرض استعادي يستمرّ إلى 22 سبتمبر 2014 في مركز بومبيدو في باريس.
يعتبر مارسيال راييس المولود عام 1936 من أهم الرسامين الفرنسيين الأحياء، الذين تركوا بصمة واضحة في متاحفها ومعالمها وساحات مدنها. كان ميالاً منذ صغره إلى الرسم والشعر وألعاب القوى ومارسها جميعاً باقتدار قبل أن يهجر الأدب والرياضة ويحصر اهتمامه في الفن التشكيلي، ولم تمض أعوام حتى ساهم في معرض مشترك بحضور جان كوكتو الذي أثنى عليه، قبل أن يحتل موقعاً مهماً ضمن قائمة أفضل الفنانين التجريديين في الساحل اللازوردي.
انجذب راييس منذ البداية إلى البلاستيك وجماله الخام، بحسب قوله، ليشكل من مصنوعاته المعروضة في المحلات التجارية أعمالاً فنية وفق تصور أسماه «القواعد الصحية للرؤية»، لاقت الاستحسان في فرنسا وإيطاليا وهولندا والولايات المتحدة، وانضم إثرها إلى حركة الواقعيين الجدد، إلى جانب أرمان وبرنار هانس وإيف كلاين.
هذا الانتماء كان نابعاً من قناعة تمجد مجتمع الاستهلاك، وعبر راييس عن ذلك في مطلع الستينات قائلاً: «أردت عالماً جديداً، عالماً معقماً، نقياً وفي مستوى التقنيات التي نستعملها في حياتنا اليومية، أي أدوات البلاستيك، الألوان المشعة، وجوه الإشهار النمطية. فأنا رسام يستعمل التقنيات الحديثة للتعبير عن عالم حديث».
في تلك المرحلة، أي مطلع الستينات، كان راييس يستعمل مختلف المواد مثل البلاستيك والطلاء والمرايا والأشياء والصور والنسخ المصورة والتقنيات، كالقص والطبع والتجميع والتركيب والتكبير.
ويتجلى ذلك خاصة في سلسلة «لوحات أشياء» التي تُمشهد صورة مغرية ومصطنعة، ناعمة وباردة، محايدة ووجدانية في الوقت نفسه، هي صورة مجتمع الاستهلاك، وصورة عارضة الأزياء المنمطة.
ذلك كله بألوان فاقعة، ترشّ بالبخّارة على أوجه الحسان، تتراوح بين الأحمر القرمزي والأخضر الداكن والبنفسجي والأزرق، مثلما يتجلى في سلسلة «صُنع باليابان» التي تتألف من خمس عشرة لوحة يحاور من خلالها راييس آثار آنغر 1780 /1867 أحد أقطاب الكلاسيكية الجديدة، لوحة «جارية الحريم الكبرى» بخاصة. ثم كان اكتشافه النيون، فصار يؤطر به الوجوه، لا يستثني منها الأفواه والعيون، ويستغني شيئاً فشيئاً عن البلاستيك، مستعيضاً عنه بالصور الشمسية والطبع على الحرير. ولما اندلعت حوادث أيار 1968 التي أرادها الفرنسيون ثورة مجتمعية، راجع راييس فهمه لطبيعة العمل الفني وندد بتهاويه إلى مستوى البضاعة، فأحدث في مساره ثورة جمالية لم يسبق لها مثيل في تاريخ الفن إلاّ ما ندر، إذ اتجه في البداية إلى الفن السينمائي فأخرج أفلاماً تجريبية مثل «كاممبير لذيذ» و»الانطلاقة الكبرى». ثم أقبل على رسم المناظر الطبيعية والطبيعة الميتة ومشاهد من الحياة اليومية على منوال القدامى، إلى جانب النحت باستعمال المواد البسيطة مثل الورق المدعوك وعجين الحجر وورق الكرافت أو البرونز المذوّب.
هذه القطيعة كانت صدمة لعشاق فنه. أما النقاد فتساءلوا كيف يمكن الربط بين سنواته الأولى المتسمة بأعمال ساطعة جعلت منه نجماً من نجوم الفن المعاصر، وأعوامه التالية التي دخل فيها الفن مثلما يدخل الناس الكنائس، أي في صمت وخشوع؟ هل هو نفسه الذي كان صرح أن «متاجر البريزونيك هي المتاحف الجديدة للفن المعاصر» ويصرح اليوم «أعمالي بالنيون ثانوية في علاقتها بعمق رسومي الفنية وأصالتها».
بعد أفلام تجريبية وحياة ماجنة بين النساء والمخدرات، قرر راييس الانسحاب من الواجهة والاعتكاف في بيته، ما دفع النقاد والمعارض إلى هجره ونسيانه، ولولا رجل الأعمال الفرنسي فرنسوا بينو صاحب «متحف بينو» في مدينة البندقية، الذي ساند توجهه الجديد، لما وجد راييس من يهتم بأعماله. ورغم ذلك، لم يتراجع عما اختاره. بل إنه متشبث برأيه، لا يهمّه أن تلقى تجد أعماله الجديدة صدى لدى نقاد الفن، ويؤكد أنه يتفهم السلم الترتيبي الذي أقرته أكاديمية الفنون في القرن السابع عشر. سلم يضع الرسوم التاريخية في المقام الأول، ويتساءل ما إذا كان الفن المعاصر في نهاية الأمر عملية بالغة السهولة لا تحتاج إلى جهد كبير. وفي رأيه أن سيزان وماتيس لا يستحقان الصيت الذي بلغاه. أما هو فكل ما يتمناه أن يعود إلى الفن الفرنسي الأصيل. أن يكون الابن الروحي لنيكولا بوسّان 1594 /1665 وأن يبلغ مستوى يطاول رافاييل، وأن يكون رمز الهجمة المضادة. وفي هذا الصدد يقول: «عندما يشاهد الفنانون الشبان أعمالي، سيفهمون أنه يوجد شيء آخر غير الدوكسا أي جماع الأفكار المهيمنة التي تساهم في خلق ما يشبه الديانة وتكريسه ، والمقصود بها هنا المؤسسة». ويضيف: «حسبي أن أحظى باحترام خمسة عشر شخصاً».