الميدان السوريّ في رسائل جديدة… ما طبيعتها ودلالاتها؟
د. أمين محمد حطيط
حفلت الأيام الأخيرة في سورية بسلسلة من الإنجازات العسكرية على أكثر من صعيد، أهمها ما شهدته جبهة الجنوب من مواجهات، وما حققه الجيش العربي السوري فيها من تقدم ترافق مع عمليات مؤثرة في الشمال، خاصة في حلب ومحيطها وسجنها المركزي. عمليات كان من شأنها أن تغيّر الكثير من خطوط المشهد، حتى بات ممكناً القول إنّ خطة عدوانية كبرى كانت أعدت وشرع بتنفيذها في الجنوب فاسقطتها سورية بعملية عسكرية يمكن اعتبارها ذات طبيعة استباقية نفذت بعمل ميداني جمع الى الاتقان وحرفية التنفيذ المفاجأة ذات الوجهين، العملاني والاستراتيجي. فما هي الخطة وما هي النتائج المواجهة ودلالاتها؟
الحديث عن جبهة الجنوب والتدخل «الإسرائيلي» المباشر فيها ليس بالأمر الجديد، غير أن التدخل والخطة اللذين أُعدّا لتنفيذه اكتسبا أهمية بالغة إذ حذر من أخطارها أكثر من طرف معني بالشأن السوري، سواء كان في موقع عسكري أو سياسي، خاصة بعد فشل الخطة التي نفذتها تركيا في الشمال عبر منطقة كسب والتي انتهت الى إفراغ يد المعتدي من أوراق كان يحرص عليها ويهدّد بها، وبالتالي انتهت عملية الشمال الغربي الى عكس ما اشتهى المعتدي هناك، وألحقت به خسائر ذات طبيعتين عملانية واستراتيجية أعقبت أو ترافقت مع الخسارة البالغة الأهمية التي نزلت بقوى العدوان على سورية من بوابة القلمون إذ أقفلت إحدى الجبهات الرئيسية الخمس في سورية، وهي الجبهة الأخطر على الثقل النوعي الاستراتيجي للدولة المتمثل في دمشق ومحيطها.
اختارت قيادة العدوان الصهيوأميركي جبهة الجنوب لتكون طريقها الآمن لادارة «حرب استنزاف» اعتمدتها بعد خسارتها «حرب الإسقاط والتغيير»، ووضعت للتنفيذ هناك خطة محكمة اختارت أميركا عناصرها وتوقيتها بعناية بالغة، وأمِلت من خلالها في أن تنجح في بناء شريط حزام أمني في الجولان يبعد الجيش العربي السوري عن المنطقة المحتلة فيه، ويسلم قيادها شكلياً الى جيش من العملاء والدمى التي تحركها اليد «الإسرائيلية» تحقيقاً لمطامع «إسرائيل»، خاصة بعدما أفصح علانية ممثلو تلك الدمى بأن «إسرائيل» لم تبقَ عدوّاً وأنهم على استعداد للتنازل لها عن الجولان المحتل والعمل معها بعلاقة ودية حميمة لإسقاط الحكومة الشرعية في دمشق.
اختارت جبهة العدوان توقيتاً مهماً لتنفيذ الخطة تلك على نحو يستبق الانتخابات الرئاسية السورية التي ستجرى في 3 حزيران المقبل بعد عشرة أيام من الآن وبعد إنجاز مناورات التآلف والتعاون العسكري بين الجيشين «الإسرائيلي» والأميركي التي بدأت قبل أيام في فلسطين المحتلة تحت تسمية «جنيفر كوبرا» وحدّد لها هدف علني ظاهر! اعتراض الصواريخ لتفعيل القدرات الدفاعية لـ»إسرائيل» على نحو يمكنها من تنفيذ «العدوان الآمن». كما تنفذ الخطة تلك خلال إجراء ما أطلق عليه إسم «الأسد المتأهّب»، وهي المناورات التي يخطط لتنفيذها في الأردن اعتباراً من 25 أيار الجاري بمشاركة أكثر من 24 دولة تشمل دول الجوار السوري جميعها، بالإضافة الى دول من الناتو ودول النفط الخليجية وحدد لهذه المناورات هدفاً أعلنه المعني بها قائلاً إنه « التحضير للتعاطي مع مستجدات الحوادث في المنطقة «، وهو تعبير يتضمن بشكل ضمني مموّه ما يجري في سورية، ولا يغير من الاستنتاج النفي الأردني المتكرر لعلاقة المناورات في سورية .
أما الهدف النهائي للخطة، ووفقاً للتوقيت الذي اختير لها، فتمثل في إنشاء منطقة تحكّم في الأزمة السورية خدمة لحرب الاستنزاف التي بدأتها قيادة العدوان ضد سورية، وتفعيل الحرب النفسية ضد الدولة السورية على نحو يقود بحسب تصور المخطط الى إفراغ الاستحقاق الدستوري الرئاسي من محتواه حتى لو تمت الانتخابات بالشكل الإداري الرسمي .
لكن سورية التي عرفت كيف تدير بنجاح مميز معركتها الدفاعية، لم تدع للمخطط فرصة البدء الجدي في انجاز خطته العدوانية، وقامت بعمل عسكري استباقي كان العدو يستبعد حصوله في ظل ما كان يتصوره من انشغال للجيش العربي السوري على جبهات اخرى خاصة في الشمال، بخاصة حلب ومحيطها، أو في الوسط، خاصة في الغوطة الشرقية .
ظن المخطط أن سورية لن تتمكن من مواجهة ناجحة في الجنوب في هذا التوقيت بسبب الضغط عليها في أمكنة أخرى. لكن الميدان السوري كذب التوقع الأجنبي، وانطلق الجيش العربي السوري في عملية عسكرية بالغة الأهمية وفي توقيت صعق المخطط، محققاً المفاجأة العملانية، وتم تركيزه وتعميقه بما حقق المفاجأة الاستراتيجية أيضاً، واستطاعت القوى التي زجت في ميدان الجبهة الجنوبية أن تحقق في أيام ثلاثة إنجازات ميدانية أدت سريعاً الى فصل مراكز المسلحين في درعا عن مثيلاتها في القنيطرة، ثم العمل في نوى ومحيطها بشكل أدى الى زعزعة جبهة الجماعات الإرهابية المسلحة والزامها بالتحول من العمل على جبهة قادرة على الإسناد المتبادل الى العمل من خلال المراكز المعزولة المطوقة، ثم تحوّلها من العمل الهجومي الذي يملك صاحبه المبادرة والسيطرة عل الميدان والتحكم في التوقيت، الى العمل الدفاعي المحكوم برد الفعل والانفعال من غير تخطيط ومعالجة ما يمكن أن يواجهه من هجمات نارية تلزمه بالاختباء والتحصن، أو ميدانية تلزمه بالمناورة والمواجهة أو الاستسلام أو الفرار .
لتأكيد قدرتها وجهوزيتها، فعّلت سورية عملياتها العسكرية في حلب واخترقت الكثير من الحواجز والموانع التي وضعها المسلحون حولها، إذ تقدمت الى محيط السجن المركزي هناك في عمل متقن يتجاوز في دلالاته الأبعاد التقنية الميدانية ليلامس الدلالات السياسية والعسكرية والاستراتيجية، ويراكم على إنجاز الجنوب قيمة مضافة تؤكد قدرة سورية عسكرياً على التعامل مع حرب الاستنزاف بتنفيذ عمليات قتال حاسمة تسقط الأهداف الرئيسية من حرب الاستنزاف تلك وتفتح الطريق عريضاً أمام استعادة الأمن والاستقرار الى مناطق في أطراف البلاد ظن المعتدي أن واقعها الجغرافي الذي يتيح لها الاستناد الى دعم خارجي مباشر يمكن أصحابها من الاستمرار الطويل فيها وإدارة حرب استنزاف ناجحة انطلاقاً منها.
أجهضت سورية بعملياتها العسكرية المفاجئة والناجحة على جبهة الجنوب والشمال العمليات التي دارت رحاها على مسارح متابعدة في الجغرافية متكاملة في المعاني والدلالات العسكرية، أجهضت خطة تصور من وضعها أن في إمكانه التحكم في الميدان السوري من خلال حرب الاستنزاف التي اختارها، لكن سورية قادت في مواجهته عمليات حسم على جبهتين رئيسيتين تستندان إلى عمق خارجي تركي في الشمال وأردني و«إسرائيلي» في الجنوب فأكدت بذلك على الآتي:
إسقاط مشروع انشاء الحزام الأمني «الاسرائيلي» في الجولان، وتفويت الفرصة على «اسرائيل» لامتلاك مقبض التحكم جنوباً في عمليات الإرهابيين على الأرض السورية وإدارة حرب الاستنزاف عبرهم .
حرمان المسلحين والإرهابيين في الجنوب من السيطرة على بقعة جغرافية متصلة متماسكة ومستندة إلى ظهير خارجي مباشر، ما سيؤثر في سلوك المسلحين في تلك المناطق وغيرها من المواقع.
التقدم بثبات نحو استعادة كامل مدينة حلب وتطهيرها من الإرهابيين، خاصة أن لهذا الإنجاز أهمية مميزة قبل إجراء الانتخابات الرئاسية .
إبطال مفاعيل الحرب النفسية التي شاءتها أميركا من خلال تنفيذ مناورتين عسكرتين في المهلة الزمنية السابقة لإجراء الانتخابات .
التأكيد على القدرات العسكرية السورية الكافية للعمل على جبهتين رئسيتين معاً وإدارة معارك حاسمة عليهما وفي ذلك اجهاض لجميع التصورات والآمال التي راودت مكوّنات جبهة العدوان حول تدني قدرات الجيش ميدانيا.
حماية الاستحقاق الدستوري المتمثل في الانتخابات الرئاسية والتأكيد على إرادة سورية وقدرتها على السير المتزامن على مسارات إنهاء الأزمة جميعها الميدانية والسياسية، دونما اكتراث بصخب أو تهويل غربي بقيادة أميركية، إذ شكلت تلك الإنجازات خير رد فعلي صريح على مواقف الـ11 في لندن، ومناورات الـ 24 في الأردن.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية