ليندا نصّار في «إيقاعات متمرّدة»… مرآة ثائرة
ماري مطر
في بستان الحياة، الزّرع وافرٌ والحصاد ثمين ومختلِفٌ اختلاف اليد والفكر والرّعاية والحلم والآمال. في ذلك البستان، رحت أتنزّه وأتجوّل متأمّلة حصاد الآخرين، وإذا بثمرة غريبة وفريدة تنادي قائلة: «أنا هنا!».
في الحقيقة لا يمكن مقاومة العرض، تشجّعت يداي وقطفتها، وإذا هي كتابٌ يحمل عنواناً يشبهه… «إيقاعات متمرّدة».
عنوان لافت يدفعك إلى اختيار مكان منعزل لتستفرد بقراءته، وتتأرجح بين أمواجه التي تتلاعب بك، فتأخذك يميناً تارةً، وتسحبك يساراً تارة أخرى.
لقد نجحت الشاعرة ليندا نصّار في صقل تجربتها ونقلها في كتابٍ حمل أسمى صور العاطفة والحبّ والصراع الأزليّ، والنّظرة الخاصة إلى قضايا عانت منها وقد يعاني منها الغير. لكنّ لها رؤيتها الخاصة، منكّهة أفكارها بأسلوب راقٍ تتلمّس فيه صوراً فنيّة منحوتة، مشكّلة هيكلاً عجيباً في تركيبه، يحمل أوجهاً عدّة لفكرة تخالج الكاتبة فتقرأها بطرق عدّة. وهذا من سحر الشّعر الحديث السهل الممتنع.
قصائد تملأ هذا الكتاب، وكلّ قصيدة صورة لتجربة معيّنة، نُقلت بأسلوبٍ بعيدٍ عن التقليد سواء كان بالشكل أو المضمون، وإيقاعاتها جسدها العنوان فحلّقت متمرّدة على ما يخالج النفس من مشاعر وأحاسيس. فكانت القصيدة مرآة النّفس الثّائرة والمحبّة والغاضبة والحزينة والمتمرّدة غالباً.
اعبُر أسوار الجنون باحثاً
عن ثورةٍ مخبّأة
تمرّد تمرّد، ففيك اشتعالي وفيك انطفائي
ليندا نصّار، شاعرة الحبّ بامتياز، وعطره يفوح في كلّ قصائدها بشكل مباشر أو غير مباشر، فهو سرّ الوجود بالنسبة إليها:
وإذا ماتت آمال القلب
فالعمر محال
لذلك، إنّ نفحة الحبّ صامدة ثائرة ومناضلة، ولو عانت:
نهمٌ ولهفة
انكسارٌ وخنوع
صارت هواياتي الوصول إلى جنونك
كي أمزّقه وأعبث بالجنون
وأنت وحدك ستدرك من أكون
وما أجمل الحبّ المدعوم بالتحدّي: «غير أنّي سأمضي». والأمل:
ولليأس زادٌ من الأمل المرتجى
فورقي لا بدّ أن يجيء
وقد تصل إلى درجة الضياع:
تائهة في سدم
تسلّمني مجرّة مجهولة لغيرها مجهولة…
شخصيّة الشّاعرة ليندا نصّار الصريحة لم تكن غامضة أو غير حاضرة في قصائدها، حتّى أنّها لم تكن مجهولة أو تحاكي شخصية أخرى، إنما عبّرت عن ذاتها، عن أحاسيسها عن تجربتها ومعاناتها، فولّدت قصائد صادقة قريبة من قلب القارئ قبل فكره:
مرآتي ذاتي ودواتي
في طبعي كلّ غرابات الدنيا
وأدرك أنّي أحبّ الغرور…
وعلى رغم زخم المعاناة والرغبة الزائدة في الحصول على الحبّ والحالة العاطفية، إلّا أنّ الحكمة والنظرة الصّائبة في الحياة، كانتا جليتين وغنيتين وفريدتين بطريقة العرض:
ولكن بعض الوعود
تجيء وفيها ذعر وفيها خطر
وللموج طبعٌ يعانيه صدر السفينة
ولليأس زادٌ من الأمل المرتجى
دهليز الذكرى فيه أمان
فمن شيم الدمع مسح الغرور
وما يزيد فضول القارئ وحشريّته، ذلك «الأنت» الذي هو محطّ فكر الشاعرة وشاغلها وطريقة مخاطبته، فيشدّك الإهداء الغامض: «إليك أيّها الأنت حيثما كنت». ذلك «الأنت» المتملّك من قلبها فالتحم بقصيدتها: «وزادي صار روحك والقصيدة». فليدم هذا «الأنت» طالما هو السبب الرئيس والمولّد قصائد نادرة ومميّزة…
أحببت فيك الحبّ لأنّ أنت أنت
لأنّك الدرب الذي يسير فيه القلب
وما أدراك يا أنت؟
إليك يا معذّبي أبتهل
ولأنّ الحبّ هو وجه لعملة ذات وجهين، فقد كان للحزن نصيب قد يوازي حضور الحبّ، إضافة إلى الغياب والهجر، ومن هنا تزداد القصائد اشتعالاً ورونقاً وغنًى: سهواً عرفتك
سهواً وجدتك
سهواً فقدتك…
رجوتك اسكن دمي ووجودي وعش في حنيني المؤبّد
فدعني إذن أحتسي نشوتي… في الغياب
هذه هي مشاعر الشاعرة تتأرجح يميناً ويساراً، وتتفاوت صعوداً وهبوطاً، وتتقلّب بحسب الظروف والمواقف وردود الفعل والتجارب، فتشتعل قصائدها شبيهة بها تمثّلها، تجسّدها، تحاكيها بإيقاعات يغلب عليها طابع التمرّد في زمن يحكمه التقليد والخيانة والمادّة. لكنّ الشاعرة صامدة في مهبّ الريح، وربّما عالم المادة لا يفي الإنسان حقّه، لكنّ عالم الكلمة واسع يسرح فيه الشاعر بكلّ ما يخالجه من مشاعر معبّراً عن ذاته وهكذا هي ليندا نصّار:
إنّني يتيمة
زادي قصائدي
ثروتي هي
فإنّني دائماً
إنّني أصيد قصائدي صيداً…