الأمّة بين الغلوّ والتغوّل

معن بشوّر

حين شاركت في إحياء الذكرى الأولى لرحيل المجاهد والداعية والصديق الشيخ محفوظ نحناح عام 2004، حرصت على التعرّف على مرفأ سيدي فرج الذي نزلت فيه قوات الاحتلال الفرنسي عام 1831، لتحتلّ الجزائر بأسرها، وحين سألني بعض منظمي تلك الاحتفالية عن سرّ اهتمامي بهذا المرفأ الصغير، أجبتهم على الفور، لقد سمعت الكثير عن سيدي فرج وأنا أتحدث مع الشيخ الجليل محفوظ نحناح رحمه الله قبل رحيله بسنوات، خصوصاً حين كنا نتحدث عن المقاومة في فلسطين وتجدّدها بالانتفاضة، وعن المقاومة في لبنان وتتويجها بالتحرير، وعن مقاومة كنا نتوقعها في العراق إذا ركبت الإدارة الأميركية رأسها، ونفّذت الإرادة الصهيونية، وقرّرت غزو العراق.

وعلى الرغم من أنّ رحيل الشيخ محفوظ نحناح، هذا الرمز الجزائري الكبير، قد حصل بعد ثلاثة أشهر على غزو العراق في آذار 2003، غير أنّ قلقه على العراق كان كبيراً، إذ كان لا يفصل مخطط تفجير «العشرية الدموية» في الجزائر عن مخطط تدمير العراق، وإنهاك سورية، واستهداف مصر ووادي النيل، واستنزاف دول الجزيرة والخليج، وكلّ دول المغرب العربي.

فالعراق وسورية ومصر تحديداً هي دول محورية بنظر الشيخ محفوظ نحناح والمطلوب تمزيقها جميعاً مع سائر دول الوطن العربي والإقليم، لأنّ تمزيقها سيقود حتماً إلى تمزيق باقي الدول.

لذلك كان محفوظ نحناح يحذّر وهو في الجزائر من خطرين يتهدّدان أمّتنا، أولهما خطر مجتمعي وهو خطر الغلوّ والتطرف اللذين يقودان إلى التوحش، وثانيهما خطر سلطوي يبدأ بالاستبداد والفساد ويتحوّل إلى تغوّل، والخطران يغذيان بعضهما البعض…

وكانت الدولة الوطنية عند مؤسس حركة مجتمع السلم الجزائري هي الضمانة، وقد كان لحركته أكثر من أربعين مقعداً نيابياً في أول برلمان تعدّدي في الجزائر في أواسط التسعينات من القرن الماضي، تماماً كما رأى الضمانة أيضاً في اللقاء بين تيارات الأمّة الرئيسية الذي يشكل صمام الأمان الواقي من حمىّ الغلوّ والتطرف، ويسهم في تنمية الوعي الديمقراطي، والممارسة الديمقراطية، لأنّ في هذا التلاقي احتراماً للآخر والقبول به، واستعداداً للتعاون معه، وهي سمات الديمقراطية الحقيقية.

لم تكن الدعوة يومها طوباوية بل كانت نضالاً وجهاداً دفع الشيخ ثمناً باهظاً لها حين استشهد أكثر من 500 تلميذ من تلامذته وأعضاء حركته على يد أهل الغلوّ والتوحش، بالإضافة إلى رفيق عمره محمد بوسليماني الذي استشهد أيضاً على يد الجماعات المسلحة المتطرفة التي أدركت أنّ خطر الدعوة التي يطلقها نحناح وإخوانه ضدّ جرائمهم هي الأفعل في مواجهتهم.

وبقينا نلتقي بعدها في المؤتمرات القومية والإسلامية، وفي المؤتمر القومي العربي الذي كان أشدّ المتحمّسين لانعقاده في الجزائر عام 2000، معتبراً أنّ انعقاده آنذاك مع تولي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الرئاسة هو إسهام عربي شعبي في تضميد جراح الجزائر، التي كان يقول رمز عروبي كبير من رموز الجزائر وهو الراحل عبد الحميد مهري إنّ الجزائر تدفع اليوم ثمن خيارها العربي والإسلامي، وتدفع ثمن ارتباطها بفلسطين، فمن واجب الأمّة كلها أن تقف مع الجزائر لإخراجها من محنتها دون أن يقلّل مهري بالطبع من مسؤولية الجزائريين، سلطة ومجتمعاً، في إخراج بلدهم من تلك المحنة.

ومن يقرأ اليوم كلمات الشيخ نحناح منذ تسعينات القرن الماضي حتى يوم رحيله في 12 حزيران 2004، يلاحظ كم كانت تشكّل منارة عربية وإسلامية لإخراج الأمّة من نار الغلوّ والتوحش، ورمضاء التغوّل السلطوي.

واليوم إذ نجتمع في الاحتفالية الدولية التي أقامها تلامذة نحناح في جبهة التغيير وعلى رأسهم الصديق عبد المجيد مناصرة، وفي الذكرى 12 لرحيله، وتحت عنوان «السلم والتنمية مسار البناء في الجزائر»، نرى، كما كان الشيخ محفوظ نحناح يرى، أنّ ضمانة السلم والتنمية في أيّ من دولنا العربية إنما ترتبط بمقاومة الهيمنة الاستعمارية والصهيونية التي لم تعد هيمنة عسكرية فقط بل باتت هيمنة سياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية تحول دون قيام أيّ سلام مجتمعي وبناء تنموي، لقد كان الشيخ محفوظ مدركاً لهذا الأمر وهو منذ أن تفتح وعيه على الثورة الجزائرية مدركاً أنّ هزيمة المستعمر الفرنسي عام 1962 لم تكن تعني بالضرورة تحقيق طموحات الشعب الجزائري، تماماً كما كان يدرك أنّ قوة دول كمصر والعراق وسورية ليست وحدها كافية لتحقيق تنمية مستقلة، وحماية السلم الأهلي، وأنّ المستعمر ومعه الصهيونية، سيكون بالمرصاد لكلّ طموح تنموي وإرادة نهضوية لهذه المجتمعات كما أثبتت التجارب التاريخية منذ أيام محمد علي في أواسط القرن التاسع عشر، وصولاً إلى كلّ التجارب التنموية التي شهدها أكثر من قطر عربي خلال القرن العشرين، فكانت حروب استعمارية لمنع مصر من تنفيذ خططها الخمسية، وكان ضرب المفاعل النووي في العراق، وكانت الهجمة على الإنجازات التنموية في الجزائر، وشهدت سورية ما تشهد من إجهاز على مرافقها ومؤسساتها ومعالمها الحضارية.

وحين استمعت إلى الشيخ نحناح رحمه الله في مقابلة تلفزيونية في أواسط السبعينيات، ولم أكن قد عرفته، لاحظت كم كانت الخلاصات التي وصل إليها بعد «العشرية الدموية» التي مرّت بها بلاده شبيهة بالخلاصات التي وصلنا إليها في لبنان، كقوى عاملة للوحدة الوطنية والسلم الأهلي، بعد الحرب الظالمة فيه وعليه، كما لاحظت كم بات مطلوباً من كلّ المجتمعات التي تواجه خطر الغلوّ والتوغّل، وقد باتت كثيرة، أن تستفيد من هذه الخلاصات.

الشيخ محفوظ نحناح كان أميناً لقيم الإسلام، وشيم العروبة، والمثل الإنسانية، فواجه القسوة بالرحمة، والتطرف بالاتزان، والغلوّ بالحكمة، والتغوّل بالديمقراطية، والفساد بالعدالة، فبات مدرسة للوعي، وحصناً لتكامل العروبة والإسلام، وفضاء لتفاعلهما مع روح العصر ومفاهيم الحداثة والتنوير.

تبقى كلمة نابعة من روح الشيخ المؤسّس وتجربته وأماناته وموجهة إلى تلامذته وأبنائه الموزعين على أكثر من تنظيم وحركة، لكي يتوحدوا في إطار واحد يحمل رسالة مؤسّسهم المجاهد، ويخدم الجزائر التي مرّت بسنوات قاسية، والتي تعلّق عليها أمّتها أمالاً كباراً في مواجهة التحديات.

كلمة ألقيت في الاحتفالية الدولية التي نظمتها جبهة التغيير الجزائرية يوم 12/6/2015، في العاصمة الجزائرية، في الذكرى 12 لرحيل الشيخ المؤسس محفوظ نحناح.

الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى