حرب السويداء هي الأخطر

ناصر قنديل

– في تاريخ الحرب السورية مراحل تبدّلت فيها عناوين الجهة المستخدمة للنيل من الدولة السورية، وكان أخطرها، في الأيام الأولى الانقلاب التركي القطري من موقع الصديق الصدوق إلى موقع العدو الشرس، وتأثير هذا الانقلاب بإصابة السوريين بالذهول والتساؤل عن حقيقة الصحّ والخطأ والخيارات الواجب اتخاذها. وهذا الإرباك المفاجئ والمدوّي كان العنصر الأهمّ في خطة الحرب على سورية التي كانت ولا تزال على رغم كلّ القدرات المرصودة للفوز بها، حرباً على عقول وقلوب السوريين وبالتالي خياراتهم.

– تخطى السوريون هذه المرحلة الصعبة، وشيئاً فشيئاً اتضحت الصورة وبانت معالم الحرب الدولية على بلدهم ودولتهم، واكتملت معالم ما سُمّي بـ»الربيع العربي» بما حدث في ليبيا واليمن ومصر وتونس لاحقاً وظهور المشروع الإخواني المدعوم من الثنائي التركي القطري، تحت العباءة الأميركية «الإسرائيلية»، ولم يعد أيّ من أهدافه مخفياً، وبان حجم دور المال ووظيفة الإعلام، فسقطت المعارضة بالضربة القاضية بعدما ضبطت متلبّسة تنادي بالديمقراطية والحرية من الحضن السعودي القطري، وتنادي بالعروبة من الحضن التركي، وتنادي بالاستقلال من الحضن الأميركي «الإسرائيلي»، وربح السوريون وربحت سورية حرب العقول.

– تموضع المتحاربون على ضفتين واضحتين في هذه الحرب، وبسبب ضعف القدرة على تصنيع قضية، لم تنجح الجبهة المناوئة لسورية بتجنيد السوريين وامتلاك عمق شعبي بينهم إلا بعض أصحاب الأسباب الخاصة والمشاعر الحاقدة أو أصحاب المصالح، فكلّ قضية تبدو في بداياتها مالكة للأسباب الموجبة تسقط بالضربة القاضية عندما يظهر دعاتها ومدّعوها وهم يتعاونون مع ألد أعدائها، فيخسرون المصداقية والاحترام. وكلما بدا أنّ الحرب ضدّ سورية، لا يملك من يشارك فيها من السوريين قضية جاذبة ذات مصداقية في التزام أصحابها وحلفائهم بها، كان يظهر أيضاً أن الأكلاف التي يدعو هؤلاء المعارضون شعبهم إلى تحمّلها ودفعها لأجل ما يسمّونه قضية، إما أنه من نوع يمكن بلوغه بلا الحرب، أو من نوع لا يستحقّ هذه الحرب وأكلافها، أو أنه قد لا يتحقق وتبقى الحرب وتأكل الأخضر واليابس، وكان يظهر أنّ من شرّع أبواب سورية للخارج وتدخلاته بداعي ما يُسمّيه «نصرة الشعب السوري» يرتب على السوريين أكلافاً لا قدرة لهم على تحمّلها ومعالجتها لاحقاً. والأخطر هو ما بدأت تظهر ملامحه منذ الأشهر الأولى من تدفق مقاتلي «القاعدة» واتخاذهم من سورية مقراً رئيسياً لهم في العالم، يتقدّم على مكانة أفغانستان لألف سبب وسبب، أهمّها الجغرافيا المميّزة لسورية. هكذا صار القلق السوري أكبر والسقوط الأخلاقي المدوّي للمعارضة أكبر وأكبر، وصار احتضان الشعب السوري لدولته الأشدّ كبراً.

– مع تحوّل الحرب إلى حرب مع «القاعدة» عملياً على رغم أكاذيب التسميات التي تمرّ على بعض غير السوريين وتخدعهم. إلا أنّ السوريين يعرفون يقيناً أنّ في سورية جيشهم من جهة و«القاعدة» بتسمياتها المتعدّدة من جهة مقابلة، ولذلك فإنّ ما أظهرته الانتخابات الرئاسية من التفاف شعبي سوري حول الرئيس بشار الأسد كان حقيقياً، ولم تكن تشوبه شائبة، وقد حسمت عمليات التصويت خارج سورية الشك باليقين حول تحوّل نوعي في مزاج السوريين المتردّدين لجهة انضمامهم إلى الكتلة المؤيدة للعودة إلى حضن الدولة ومظلتها، سواء ترافق ذلك مع خطاب التخلي عن كلّ مطلب إصلاحي مقابل عودة الأمن والأمان، أو ترافق مع الثقة والأمل بالقدرة على معالجة كلّ شيء بالحوار والاحتكام للصناديق، تحت شعار لقد نضجنا ونضجت الدولة أيضاً بعد الذي جرى.

– لم يعد ثمة شك في أنّ سورية ربحت كلياً لدى شعبها حرب الخيارات، وحرب العقول وحرب القلوب، وأنه إنْ توقفت الحرب الآن وأتيح إجراء استفتاء برعاية محايدة لترك السوريين يختارون من يمثلهم، لفاز الرئيس الأسد بأكثر مما كان يناله في الاستفتاءات المشكوك بدقة أرقامها، لكن كلفة الحرب العالية ونسبة الدمار المرعبة، ودورة الحياة الشاقة والصعبة، أوصلت الكثير من السوريين إلى التعب والإنهاك، في وقت لا يخفى حجم الكلفة التي ترتبها الحرب على من يختار التموضع فيها على ضفة الدفاع عن دولته، بينما كلفة القتال ضدّ «القاعدة» ونوعية هذا القتال وأعباؤه قاسية وشاقة، وكلفة الانهزام أمام هذه التشكيلات القاعدية مكلفة أكثر، وصارت الفرصة الوحيدة لمن يريد استهداف سورية هي أن يخوض معركة الاستثمار على التعب وأكلاف الحرب وليس على طبيعة وصحة الخيارات.

– مشروع الحرب التي يخوضها الحلف الذي يقوده سياسياً وإعلامياً وليد جنبلاط في محافظة السويداء يستثمر على هذا التعب وهذه الكلفة، ويتوجه إلى أبناء المحافظة المستهدفين حكماً بسبب ديانتهم من قبل تنظيم «القاعدة» ومتفرّعاته، والمنحازين إلى جانب دولتهم بكلّ يقين، والذين لا يخيفهم بل يطمئنهم انتصار مشروع الدولة، فيذهب صوت جنبلاط إليهم ويقول، إنّ الكلفة باهظة وبإمكانكم تفاديها وتجنّب المواجهة عبر الحياد والضمانات، فإنْ كانت الدولة حريصة عليكم كما تقول لكم وتقولون عنها، فلتسحب قواتها من محافظتكم، ونحن نتكفل بجلب الضمانات لكم بعدم استهدافكم، وننشر في المحافظة قوة محايدة تتولى حمايتها.

– المشروع يقوم على الخديعة البصرية والدعوة إلى مخاطرة لا يملك أحد ضمانات نتائجها، فمن سيقدم ضمانة لا بدّ أنه ينتظر ثمناً، والثمن هو تفكيك سورية واستفراد مكوّناتها كلّ بعنوان، بعضها بالتحييد وبعضها بالحماية وبعضها بالإغراء بالوصاية الإقليمية. لكن السؤال الذي يطرحه السوريون، ماذا لو استجاب أغلبهم لنداء التعب، ودخلوا في مساومات الحلول الجزئية القائمة على الاستفراد، وسارت الأمور في البدايات كما تقول الخطط والوعود النظرية، وتخيّلنا مشهد التفكك السوري، دويلة كردية في الشمال الشرقي، وحياد درزي في الجنوب، وحماية تركية في حلب وإدلب، وحماية أردنية في درعا و«إسرائيلية» في القنيطرة، وتمكنت مجموعات «القاعدة» من استنزاف دمشق وحمص وحماة، وفتح جبهة القتال مع الساحل، هل يظن الذين استجابوا للحمايات والحياد أنّ الحرب انتهت هنا، أم أنّ جولتها الجديدة لفرض تقسيم سورية، تستدعي حرباً بين مناطق الجوار، حرب درعا والسويداء وحرب حلب والأكراد، وتهجير وتطهير عرقي وديني وصولاً إلى تكريس الدويلات المتحاربة، بعدما يسحب مانح الضمانة ضمانته، وتتحوّل سورية إلى بقايا دولة تتلاشى جغرافيتها ويقتتل سكانها، ويبقى ما تبقى منها بلا سيادة وبلا قرار وربما بلا موارد.

– أن تقاتل السويداء اليوم دفاعاً عن هويتها السورية وعن سورية وعن نفسها، ووراء جيشها، أقلّ كلفة من انتظار حرب التهجير والتطهير بوهم حياد موقت ومشكوك به أصلاً، ولو سلّمنا أنه أقنع بعض الناس فهناك من لا يرضاه، وبالتالي فإنّ فرضه كخيار عام يستدعي قتالاً داخلياً بين أهل السويداء في ما بينهم ليهزم أحدهما الآخر، وكذلك فإنّ الإيحاء لأصحاب المجازر بأنّ إقدامهم على الترويع قد أعطى مفعولاً بقابلية القبول، فسيشجعهم ذلك على المزيد من الترويع والمجازر.

– كيفما قلبت هذا المشروع الوردي من الخارج تجده من الداخل خياراً مليئاً بالدم على رغم تسويقه خلاف ذلك، هذه فانتازيا وليد جنبلاط العبثية، ماثلة في جبل لبنان، يكفي النظر إليها لمعرفة الطريق الذي يدعو إليه أهل جبل العرب.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى