تراثان عربيّ وغربيّ انصهرا في التجربة الذاتيّة وعبّرت عنهما الرموز الكثيفة
يتألف كتاب «المسرح الشعري عند صلاح عبدالصبور» لمؤلفته د. نعيمة مراد محمد من ثلاثة أبواب، والباب الأول من أربعة فصول تبرز المكوّنات الثقافية والملامح القصصية والدرامية في شعر عبدالصبور الغنائي، وفي الأبواب الأخرى تحكي المؤلفة دلالات الرز وأنواعه في مسرح صلاح عبد الصبور. تقول في مقدمة الكتاب عن عبدالصبور: «حمل لواء المسرح الشعري في أرقى صوره وثقافة واقترابًا من التكتيكات العالمية المعاصرة، ويأتي هذا من الجيل السابق وفي مقدّمهم أمير الشعراء أحمد شوقي، ثم عزيز أباظة وعلي أحمد باكثير وعبدالرحمن الشرقاوي وغيرهم». وتلفت المؤلفة إلى أن الجامعة كانت المجال الرحب الذي وسع مدراك الشاعر عبدالصبور ووجه اهتماماته وحدد اتجاهاته، إذ تعرف فيها واطّلع على أعمال كبار شعراء الغرب وكتابه، وعرفت المدارس الغربية طريقها إليه وإلينا مثل: الرومانتيكية، الكلاسيكية، الرمزية، السوريالية، وغيرها، وزاد على ذلك الظروف السياسية في ذلك الوقت. وتعتبر إن للشعر وظيفة إنسانية، فالشعر قادر على أن يسبر أغوار النفس البشرية، ويكشف مشاعرها وأحاسيسها، ولولاه لافتقدت حياتنا أهم عناصرها، الفضيلة، والفضيلة التي يقصدها عبدالصبور ليست مفردات الإطلاق التقليدية بل هي: الفضيلة «الأم» وهي فضيلة تقدير الحياة والنفس البشرية.
ترى المؤلفة أن أعمال صلاح عبدالصبور المسرحية هي خلاصة جزئيات لا حصر لها من التراث العربي والغربي في آن واحد، انصهرت جميعها في بوتقة تجاربه الذاتية وتاريخ مجتمعه المعاصر، ليخرج منها ذلك المسرح الذي إن حوى عشرات عوامل التأثر فإنه في النهاية فن عبدالصبور الخالص الذي يختلف تماماً عما أخذ منه الموروث التاريخي، فالتاريخ لدى عبد الصبور أعطى أعماله عمقًا لا يقل خطورة من الأسطورة ، أو التراث الشعبي، لذا جعله في أحيان كثيرة إما مضمونًا أو إطارًا لأعماله الفنية، وأولى استخدمات عبدالصبور لعناصر التاريخ في مسرحه ما نجده في مسرحية «مأساة الحلاج» حيث اختار تلك الشخصية الحقيقية من التاريخ العربي القديم ليخلع عليها همّه المعاصر.
تشير نعيمة مراد محمد إلى أول لقاء بالمسرح الغربي القديم، فكان أول التقارير بين عبدالصبور والمسرح اليوناني ذاك اللقاء الذي تمخض عن العودة إلى أهم أساسيات المسرح القديم فنتج منه ذلك البطل التراجيدي، وسقطته التي كانت نتيجة حتمية لخطأ غير مقصود وهو ما يسمى «الخطأ المأسوي». فالدراما اليونانية نشأت من الجوقة التي كانت تتكون من رجال مقنعين يؤدون طقوسًا دينية. وانتقل استعمال الجوقة من بلاد اليونان إلى الرومان، ثم عرفها الإليزابيثيون عن الرومانسيين، وجوقة عبدالصبور في هذه المسرحية تشارك في الحوادث بأساليب مختلفة، فاستخدام الأقنعة والتمثيل الصامت، وكان ذلك متبعًا في بعض العروض المسرحية القديمة، كما استخدم أسلوب المسرح داخل المسرح، وهذا الأسلوب استخدم قديمًا في بعض الأحيان، واستخدمه شكسبير في بعض مسرحياته، أما مسرحيته الأخيرة «بعد أن يموت الملك»، فتعد أكثر مسرحياته انتماءً إلى المسرح القديم من ناحية، وإلى عالم الأساطير من ناحية أخرى.
ترى المؤلفة أن المضمون العام الذي يتناوله عبدالصبور في مسرحياته الخمس يختصر في طبيعة العلاقة القائمة بين الحاكم والمحكوم في المجتمعات الحديثة، وكيف تتحول أحلام الديمقراطية إلى دكتاتورية صارخة، ترفض أي محاولة للإصلاح وتعمل على نشر الخوف والرعب، والفقر، أو ما يسمى الشر والظلم بين أفراد الشعب كي لا يجرؤ أحد على المعارضة، فيضطر الجميع إلى الرضوخ والاستسلام. فالحاكم كما يصوره عبدالصبور على لسان الحلاج عادل لطالما كان قبسًا من نور الله.
«فالوالي العادل قبس/ من نور الله ينور بعضًا من أرضــه/ أما الوالي الظالم/ فستار يحجب نور الله عن الناس/ كي يفرخ تحت عباءته الشر»
تتطرق المؤلفة إلى مسرحيات عبدالصبور الخمس التي تصور مراحل المعاناة المختلفة التي تعرض لها الشعب المصري طوال نحو من عشرين عامًا، منذ قيام ثورة يوليو 1952 حتى ثورة التصحيح في يونيو 1971، مبتدئة بمأساة الحلاج ومنتهية بما تضمنه مسرحيته الأخيرة «بعد أن يموت الملك» من حلول مأساة الحلاج. تصوّر المراحل الأولى من المشكلة، عندما تبدأ الحكومة في التراخي عما وعدت به، ويكتشف الشعب أن الحاكم ضرب بمصالحه وحقوقه عرض الحائط، فتبدأ بعض المحاولات الرافضة في الظهور وينزعهما المثقف الواعي الذي يحاول في البداية توضيح واجبات الحاكم، وحقوق الرعية، وتكون المرحلة الثانية التي يشيع فيه الخوف والإرهاب بين الناس فيتلافون الاقتراب من كل ما يمس السلطة، قولاً كان أو فعلاً، وفي المراحل السابقة يكون الشر والظلم والجبروت القوى المسيطرة المتحكمة، ويكون الحق والخير هما الضعيفين أو المنسحقين أو المنقولين. وتنتقل إلى المرحلة الأخيرة من المسرحية إذ تبدأ البلد «مصر» في صحوتها، فتجد نفسها وقد عزلت عن الحياة، وسلب منها كل شيء، وهنا تكون المراجعة، وحساب النفس، واكتشاف الأخطاء، وتحديد سبل العلاج، فترفض أن تظل خاضعة لصنمها المعبود، بل تصل عودة الوعي عندها إلى حد تحطيم هذا الصنم، وهنا ينتصر الحق والخير للشعب لأول مرة ويتحطم الطغيان.
أما مسرحية «ليلى والمجنون» فترى المؤلفة أن هذه المسرحية لا تحتوي على موقف محدد أو شخصية معنية كمأساة الحلاج، ولا على حدث معين مثل «مسافر ليل»، لكنها تحتوي على عدد من الحوادث الجزئية والقصص الفرعية التي تتجمع خيوطها في النهاية لتشكل صورة لوضع قائم، ومأساة لجيل كامل، أما شخوص المسرحية فتعددت وتعارضت، تقاربت وتباعدت. شخصية سعيد مثلاً، الشاب الذي عانى القهر في طفولته، نشأ في أسرة فقيرة، مات والده وكان في العاشرة، ولم يترك له ما يقتات به، فاضطرت أمه إلى أن تبيع ما يملكون، ولما نفد كل شيء لم تجد أمامها إلا طريقين كما قالت لولدها:
«يا ولدي، ياحبة عيني/لم يبق لنا مما يعرض في السوق/ إلا أنت بسوق الخدامين/ وأنا في سوق الحب»، فالأم هنا تفضل أن تبيع نفسها على أن تبيع طفلها، وتكون النتيجة أن تستسلم إلى من يقدم إليها ولولدها الطعام والملبس وتجاهد كي تكمل له تعليمه سنوات وسنوات من الهوان والإذلال والمرارة لها ولولدها أيضًا. أما البناء في مسرحية «ليلى والمجنون» فإن عبد الصبور استخدم جانبًا من جوانب موروثه الثقافي العربي والغربي والشعبي بوعي أكسب موضوعه إثراءً وعمقًا ونضجًا، فمن موروث الأدب العربي، يستمد جزءًا من مسرحية «مجنون ليلى» لأحمد شوقي بعداً ثانياً لموضوعه، أما الموروث الأدبي الغربي فينحصر في تضمين مسرحيته بعض أبيات من شعر إليوت، والموروث الشعبي يستوحي منه الشاعر أغنية الأم لطلفها وأغنية المغني الضرير الفولكلورية.
يستخدم عبد الصبور أسلوب المسرح داخل المسرح حين يجعل أبطال مسرحيته الأصيلة يمثلون عرضًا مسرحياً آخر داخل المسرحية الحقيقية، ثم نرى ملامح «هاملت»، وفي هذه المسرحية قسم عبدالصبور المسرحية فصولاً ثلاثة، ينقسم كل منها بدوره إلى عدد من المناظر، وهي أول مسرحية حتى الآن يقسمها عبد الصبور ثلاثة فصول، ويحرص فيها على أن يتحقق لها الترتيب المنطقي والمتسلسل المؤلّف من بداية ووسط ونهاية.
في ختام الكتاب تخلص المؤلفة إلى أن جميع أنواع التعبير الإنساني، من دون استثناء، تقوم على الرمز، بإطلاق الأصوات، أو رسم الأشكال، أو الإشارات والإيماءات. والرمز يتكون بتحول المعاني الرئيسية للعمل الدرامي كله إلى مجموعة من الرموز التي تدور حولها بعد ذلك بقية المعاني الفرعية لتستمد منها مغزاها وتتخذ من خلالها دلالات تجسيدها .
بنظرة إلى مسرح عبدالصبور سوف تكشف لنا قدرة ووعياً خاصين في استخدام الرموز المكثفة التي يمكننا اكتشاف تجلياتها في مسرحياته.