الشاعر المصريّ فرانسوا باسيلي يهرب من ثلوج نيويورك إلى شمس القاهرة
خرج الشاعر المصري فرانسوا باسيلي من مصر، لكن مصر لم تخرج منه. حمل القاهرة وهاجر إلى نيويورك لتتفجر كتاباته فيها شظايا تفتح الجسد والروح على عوالم الغربة والرغبة في الشرق والغرب. وبين الديوان الأول للشاعر «تهليلات إيزيس» 1998 وديوانه الجديد «شمس القاهرة … ثلوج نيويورك» دار «سندباد» ستة عشر عاماً جرت فيها مياه كثيرة تحت جسر جورج واشنطن في نيويورك، مدينة هجرته حيث يقيم حالياً بجسده، وكانت إقامته الروحية منذ دهور، ولا تزال، في مدينة مسقط رأسه القاهرة.
الديوان جسر يحاول به الشاعر مد تواصل يبدو مستحيلاً بين عالمه القديم وعالمه الجديد، فالشعر هو حمامه الزاجل الذي يحمل رسائل عشقه وغضبه وعتابه ولهفته إلي وطنه الأصلي، وهو في الوقت نفسه قربان يقدمه الشاعر على مذبح غربته، بكل ما يحمل هذا من مشاعر تيهٍ وبترٍ وتضارب تختلط فيها الأوجاع الوجودية العامة بالأحمال الروحية الخاصة. ومن ناحية أخرى، هذا الشعر شظايا متفجرة تتطاير لتشارك الآلام الهائلة التي عاشتها مصر.
عن ذلك كتب الناقد د. صبري حافظ: «منذ أن نشر الشاعر المصري قصائده الأولى في مجلة الآداب لفت الأنظار بقصيدته المتميزة، ويعود الشاعر المصري المرموق الى لحظة تاريخية فارقة أسست لأفق مغاير في مصر كما فتحت أمام النص الإبداعي إمكانات جديدة، ترهف الرؤية عن بعد بصيرة الشاعر المقيم في نيويورك، ولا يجد إلا القصيدة كي يعلن صرخة أنطولوجية عميقة وحبا للانتماء لبلده التي دخلت في دوامة، لأنها بلده الوحيد وأسرته الحضن الآسر لوجعه».
الشظايا الشعرية المتفجّرة في قصائد الديوان تأتينا محملة برائحة وثلوج وإثارة مشاهد نيويورك من ناحية، وبدفء إشعاعات شمس مصر الساطعة في قلب الشاعر وفي مدينته القاهرة من ناحية أخرى، فتتنقل أحاسيس الشاعر الإنسانية والوطنية المتأججة النازفة بين هذين القطبين المتضادين المختلفين في كل شيء، بل هي موجودة دوماً في القصيدة الواحدة، ما يزيد من الزخم الشعري ويكثف من أمواجه وتوتراته العاطفية والفكرية، فيما يقدم إلينا شرفة فريدة نطل بها على مدى الاختلاف بين عالم الشرق وعالم الغرب، خاصة في وقت تلعب فيه الولايات المتحدة دوراً ملتبساً تجاه ثورتي مصر، فينحاز الشاعر إلى حق شمس مصر في السطوع بقوة وطلاقة نجدها واضحة في قصائد الديوان، فيقول في قصيدة زهرة اليورانيوم:
«كنت في القاهرة / نائماً على سجادة التاريخ حاضناً أمسي / ورأيت في رؤيةٍ / أن نيويورك شمس غدي / فمددت يدي / أفتح غيم الغيب والغياب / قلت هجرة بلا إياب / هل للعالم القادم بابٌ غير هذا الباب؟ / نيويورك جسدٌ / رمي بنفسه علي جسدي / وأنا أخلع أجسادي وألبسها / نيويورك جسدٌ / وأنا جسدي تائهٌ في اللامكان / جسدان لا يلتحمان / إلاّ على فراش الريح والهذيان / نيويورك سيدة الزمان / تقطف مني الروح / تتعرى وهي تأتي على جسدي وتروح / تأكل كل قطعةٍ / وتشرب كل قطرةٍ من الجسد الطريح / حتي أصير خاضعاً ولا مبالياً / تسوقني مكبل القدمين للميدان / فأخلع ما بقي من جسدي / وأعود للبلاد / لأقصف شهرزاد في بغداد / أو أقطع الطريق إلى دمشق / حيث يخرج المهجرون من بيوتهم عرايا / وتقول لي أنظر إلى التاريخ يهوي / والأساطير شظايا / وقد انتهت كل المعارك بالهزائم / لم يبق غيرك / تظل بقلبك الشرقي منكباً على الأعلام / تريد رفعها على التخوم عاليا / متشبثاً وباكياً / تريد إعادة الأيام للأيام / فانزع الأحلام عنك / واترك الأوهام تهوي / كالذبيح من الحمائم / أخرج من الأرض الكئيبة / وأحصر على الآي باد أعداد الغنائم / ماضيك سجنٌ / وأنا أفتح لك / أبواب عالمك الجديد فلا تقاوم».
لكنّ الشاعر يتمرّد في صراعه مع عالمه الجديد صارخاً:
كم مرة أردت أن أهد المعبد / مثل شمشون على رأسي وأعدائي / ولكني بلا أعداء / ولا أكره إلا / ما ترسلين من صحائف الكيمياء / وأرغفة اليورانيوم / للجائعين في بلاد البسطاء / لماذا تحولينهم إلى أعداء / وتمزقينهم أشلاء / وهم رفاقنا وأهلنا / ثم تسألينني / لماذا يكرهوننا؟ /
نيويورك/ كم زهرة يورانيوم ستدفنين في جسدي / وكم من صاروخٍ عابرٍ للقارات / ستطلقين على بغداد أو دمشق أو قرى بلدي / نيويورك يا روما الجديدة / كل يوم أطالع انهيار مدينةٍ من مدني / ودمي يسيل علي صفحات الجريدة / كم أورشليم قد التهمت اليوم / يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين».
أما عندما يتحدث عن مصر، فإن الشاعر المهاجر يستدعي لغة تقطر عشقاً وألماً ورغبة وأملا، فيقول في «زهرة لوتس تقوم من النوم»:
«دعيني أدخل التاريخ من أضيق باب / وعلى أسوارك العليا أخر مضرجاً / من وطأة اللمسات، من أناملك المشعة بالعذاب / أو على عتبات هيكلك المدمى بالذبائح والمدائح / آتيك أحمل ناي قلبٍ مثخنٍ / بالمحن الكبرى وآيات الغياب / فعلى أي ذراع أرتمي مستسمحاً؟ / وبأي كفٍ أمسح الجمر الذي في وجنتيك / وأزيل عن قدميك أشواك الهضاب؟ / وعلى أي سحاب / أبصر الوحي الذي أوحى لقلبك بالتراتيل / وأقرأ سرّ بعثك في أي كتاب؟ / وعلى أي ضفافٍ أستريح وليس هذا النهر نهري / ولا أرض المنافي هذه أرضي / ولا المدن الغريبة والقباب».
يقول دكتور محمد سليم شوشة عن الديوان: «فرانسوا باسيلى صوت شعري مهجري ذو خصوصية، صوت يناجي الوطن مثلما يناجي الصوفي ربه. حالة شعرية لا تختلف عن العشق الإلهي. إنه عشق الوطن في غربة ليست لها ملامح، هو يحيا في مصر برغم هذا البعد، غارق في تفاصيل المكان والذكريات، يحيا في مصر شعرياً برغم أن المكان الآني هو أميركا أرض المهجر.
هنا يتبدى صراع بين أرض المهجر وبين الوطن، وهو صراع حسمت نتيجته لمصلحة الوطن. هذا خطاب شعري يتسم بالإيغال في الشاعرية والصدق، وله ملامح سردية تجعل قراءته ممتعة إلى أقصى درجات المتعة، ويجعل شعر المهجر نموذجًا ممتدًا في الأدب العربي ونهرًا متصلاً عابرًا للقارات وصلة بين الأمم والحضارات، فيغوص فيها بقدر ما يغوص في الذات الإنسانية، وتمثل تجربته الشعرية مقاربة جادة وصادقة شائقة وجديرة بالاهتمام».
ديوان «شمس القاهرة … ثلوج نيويورك» في 160 صفحة وتوزعه دار سندباد في مصر والمكتبات العربية.