حديقة النورماندي

بشارة مرهج

في فترة التسعينيات من القرن الماضي لم أكن أترك سانحة إلاّ وألح فيها على الرئيس الشهيد رفيق الحريري لإنشاء حدائق عامة في العاصمة والمناطق اللبنانية كافة، قبل أن تسبقنا موجة العمران العشوائي فتبسط جناحها البشع على لبنان، مستظلة بقوانين بناء تؤثر المال على البيئة وتقدم الربح السريع على الذائقة العامة. وكنت ألفت نظره دائماً الى وجود رصيد مالي ملموس لدى بلدية بيروت التي تستطيع شراء ما أمكن من العقارات المعروضة للبيع أو استملاك ما تفرض المشاريع العامة استملاكه، مقابل بدل عادل وحبة مسك لأصحاب الأملاك.

ذات يوم من عام 1997 وبينما كنا نبحث في انطلاقة «الحكومة الإلكترونية» في مقر مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية، الكائن في مبنى الستاركو، وسط المدينة، قال لي الرئيس الحريري، رحمه الله، «لندخل الى مكتبك قليلاً لدي موضوع أريد رأيك فيه».

رحبت بمبادرته ودخلنا المكتب ودعوته للجلوس فقال: «لا داعي، لنقف هنا وننظر باتجاه البحر الأبيض المتوسط». قلت له «حسناً رؤية البحر متعة للنظر وصفاء للنفوس». نظر الرئيس الحريري إليّ وابتسم من كل قلبه قائلاً: «سجل عندك، هنا بين السان جورج ومبنى البيال ستكون لبيروت حديقة رائعة تباهي بها عواصم المنطقة». قلت له والفرحة تغمرني: «ستكون هذه الحديقة بفضل الله تعالى، وبفضل جهودك، الرئة التي تتنفس منها بيروت، بل ستكون كما السنترال بارك بالنسبة إلى نيويورك». ثم أضفت سائلاً: «متى يرى المشروع النور، متى نشاهد الأطفال والأهالي، الذين سرقت الحرب حياتهم، ينعمون على مقاعدها الخشبية وتحت أشجارها الندية؟» قال رداً على سؤالي: «ربما في مطلع الألفية الثالثة فأنت تعرف أن مشاكل وسط المدينة كثيرة ومعقدة». قلت له: «خير البرّ عاجله. وستظلّ يدي على قلبي حتى أرى بأمّ العين هذا الصرح الجديد وقد تحقّق على الأرض. إنّه من أهمّ المشاريع العمرانية في بيروت إن لم يكن أهمها، وسيعوّض على العاصمة وأهلها وسكانها ندرة الحدائق والأماكن العامة، ولذلك لن نعرف من أين ستأتيه الضربات». ابتسم وقال: «أنت مستعجل دائماً، اطمئن. هذا المشروع يعني لي ولبيروت الكثير الكثير، والآن دعنا ندخل مرة ثانية الى العصر المقبل ونستكمل البحث في مشروع الحكومة الإلكترونية لعلنا نستطيع تخطي البيروقراطية والروتين الإداري اللذين يرهقان المواطن ويكبلان حركة الاستثمار. ترى هل لديك في إدارتك فريق عمل قادر على الاضطلاع بهذه المهمة الخطيرة؟» قلت له: «اطمئن لدينا أفضل الكوادر علماً وخبرة كما لدينا خبراء من كندا وأستراليا، والجميع يتحرّقون للبدء بهذا المشروع الحيوي، وإن شاءالله سيكون لبنان أوّل بلد عربي يتقدم في هذا الحقل». بعد ذلك جرت مياه كثيرة تحت الجسر واستقالت الحكومة. ثم جاءت حكومة جديدة أوّل ما قامت به، وبغفلة من الرئيس الحص، إحالة مشروع الحكومة الإلكترونية على الاستيداع بحجة خلو القوانين اللبنانية من عبارة «تكنولوجيا المعلومات». وتعطل العمل في مشاريع كثيرة على الصعيد التقني كما العمراني. ومثلما دفع مشروع الحكومة الإلكترونية الثمن، كذلك دفع الثمن مشروع حديقة الوسط التي سميت سابقاً بحديقة النورماندي. بعد عودة الرئيس الحريري إلى السراي الكبير عام 2000 ذكّرته مراراً بمشروع حديقة النورماندي فكان في كل مرة يؤكد التزامه بالمشروع وحماسته الكبيرة لوضعه موضع التنفيذ مهما كلف الأمر من جهود، ومهما طال الزمن. وكنت ألمس من كلام الرئيس تصميماً مشوباً بشيء من المرارة لعدم تمكنه من إنجاز المشروع بحسب المخطط السابق، تارة لأسباب سياسية وطوراً لأسباب تقنية. ثم جرت مياه كتيرة تحت الجسر ونشب خلاف بين الرئيس وبيني حول أمرين كلاهما على درجة عالية من الأهمية. الأول يتعلق بمنح البنوك المتعثرة مساعدة غير مباشرة من البنك المركزي بنحو مليار ونصف مليار دولار من دون علم رئيس الجمهورية أو الحكومة، والثاني يتعلق بالحرب الكونية الظالمة على العراق بحجة امتلاكه أسلحة دمار شامل تبين لاحقاً أنها من اختراع جورج بوش وخادمه توني بلير.

رغم كل شيء، بقيت الحديقة حلماً يؤرقني في كل حين، الى أن حدث الزلزال الكبير وسقط الرئيس الحريري شهيداً فتناسى الموضوع كثيرون حتى شعرت مراراً بأن هناك من يفكر في المحاصصة وتوزيع المغانم كما هي العادة في هذا البلد المنكوب بطبقته الحاكمة. رحت أسأل المعنيين عن مصير الحديقة فلم أحظ إلاّ بأجوبة على النسق التقليدي: «المشروع بالتأكيد على النار وإن كانت خفيفة. لا مناص من إنشاء الحديقة، وهلم جرا». ولكن ها نحن في منتصف السنة ولا أرى سوى مواقف للسيارات وعمليات قضم لأرض الحديقة غير ذكية وغير مقنعة، فهل الأبنية المخالفة ومواقف السيارات الفارهة أهم من حقوق بيروت وأهلها وسكانها؟! هذا السؤال هو برسم دولة رئيس الحكومة تمام سلام، ومعالي وزير الداخلية نهاد المشنوق، وسعادة محافظ بيروت زياد شبيب وحضرة رئيس البلدية بلال حمد، وأدعوهم جميعاً الى الإفصاح عن الموقف الحقيقي حيال هذه الحديقة التي تستحقها بيروت، وتحتاج اليها. من حقنا جميعاً معرفة ما يحصل وما هي الخطط المعدة لهذه الحديقة التي طال انتظارها. وللتوضيح، أنا لا أوافق على تسمية هذه الحديقة باسم «حديقة النورماندي»، وللمجلس البلدي أن يختار اسماً من بيروت يستحق حامله أن يحظى بهذا الشرف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى