صباحات
قال الصباح: يصطفّ دعاة الإسلام على شمال سورية وجنوبها كذباب على ذؤابة فرس جسور، يظنّون أنها لحظة مواتية لمدّ الجسور. وبعدما توهّموا أن سقوط المدن سيتمّ كما سقطت جسر الشغور، جاءت مدرسة حلب من الخالدية والراشدين تقول لا تتوّهموا أنكم باقون في صلاح الدين. وقالت الشهباء إنّها تعرفهم بالوجوه والأسماء، وإنها لهم بالمرصاد مات من مات وعاد من عاد. فلكل هجوم مواجهة، والويل لمن يقف في الواجهة. وكان الجيش والشعب صفّاً بصفٍّ وكتفاً بكتفٍ. وكانت النساء لأكثر من الزغرودة بالرصاص تكتب الأنشودة، وكان النصر في الصباح وقال كلمته السلاح. وفي السويداء حيث بضاعتهم نفاق الحياد وسطوة الجلّاد، وكذبة جنبلاط والرهان على اليأس والتعب والإحباط. فقد كانت ألوف مؤلفة تهبّ للتطوّع ترفض أن تكون مصنّفة وترفض التوزّع. فالكل لسورية وجيشها والكل لحم أكتافه من خيرات عيشها. عدا العزّة والكرامة والنخوة والشهامة والباقي معروف من هم بنو معروف. وقفة رجل واحد على كلمة رجل واحد، لبّيك سورية إلى السلاح وتمتلأ بالرجال كلّ ساح. وترتفع الحصون ويسقط المتلوّنون… سورية إلى السلاح ينتظر… وينتصر الصباح.
بين التضحيات والحسابات
قال الصباح: التمييز بين المصطلحات نصف خبرة الحياة في السياسة والعمل والحبّ والحرب. فالزهد بفكرة أو شخص أو قضية غير البغض والحقد، وكذلك الألم لفشل فكرة أو خسارة شخص أو قضية، غير الحسرة والندم، كما التنسّك للشخص أو الفكرة غير الاهتمام والرغبة. والنفوس الصافية هي التي تتقن التمييز بقياس من أعطت وماذا وبأيّ حساب. وإن فشلت أحسّت بالألم لا بالندم. وإن كسبت مضت بالتنسّك لا بالرغبة. وتضع مقام القضايا والأشخاص مقامَ ما يعطون لا ما يقولون أو يُقال عنهم. هذه فضيلة الشهداء أنّهم يهبون بلا حساب أغلى ما يقيم له الآخرون الحساب. وإن أخطأ الغير في حساب شهادتهم يحسّون بالألم لا بالندم. وإن انتصر الآخرون لدمهم تنسّكوا من محراب شهادتهم. أضعف الناس من ينظر إلى التضحيات الكبيرة كضرورات حرب تدوَّن في سجلّات الخسائر، وينظر إلى مردود الأمور من منظار ما تحقّق من حساباته، وهذا صحيح في كلّ مقام ومقال… في الحياة خيارات لا أقدار فقط.
طمأنينة
قال الصباح: طوبى للّذين لا تزال أسبابهم في ملاقاة الضوء أو الابتعاد عنه لا تتغيّر. يسهرون لها وينامون لأجل أن تأتيهم في أحلامهم. فلا تشعر أبدانهم برغبة النوم أو تمتنع عن الفجر كسلاً، ولا يسهرون الصبح قلقاً فهم لا يتعبون ولا يقلقون، مطمئنون لِما في قلوبهم منذ اللحظة الأولى حتى انقطاع النفَس. لا تتغيّر بوصلتهم مهما زادت الشدائد و تكاثرت المغريات. لأن الخيارات عندهم أكبر من أن يمنحوها أوصافاً يرونها لغيرها بعد حين. لهذا تبارك الفلاح والجندي والمقاوم، وارتقى مقام الشهداء. ولذلك وُجِد الشعر للعشاق ليختبروا خياراتهم وقدرتهم على الثبات. ويعرف كل قيس إن كان عشقه ليلى أم شُبّه له، وتكتشف ليلى إن كان قيساً من تناجي الضوء له. أمّا الفلاح والجندي والمقاوم فيدخلونها آمنين بلا امتحانات دخول، لأن انتظارات المطر والرصاص والموت لا تحتاج إلى إثبات… ما أجمل رائحة تراب الشام تحت وقع حبّات الندى على أغصان الياسمين… إيقاع العناق بين أبدية الجغرافيا وعشق السنين.
خلود الياسمين
قال الصباح: واهمون الذين أطلقوا صواريخ حقدهم على الشام إن تخيّلوا أنها ترعبها. فقد طوت الشام تحت ترابها آلاف سنين الغزوات والحملات، واحتضنت دمها يامسيناً يصرّ على بياضه على رغم كلّ السواد… هذا النوع من الشعوب كمثله من القلوب، بياضه بياض أزليّ مهما أسودّ، ما حوله يشعّ نوراً، ومهما استهان به وتعامى عن حقيقة داخله العابرون مهما طالت إقامتهم، والمدّعون مهما تفلسفت روايتهم. فهو كبياض جبل الشيخ شامخ لا تهزّه العواتي. ويبقى الكبير كبيراً ولا يكبر الصغار مهما تظاهروا بادّعاءاتهم باللحظة فالكلمة لما هو آت.
كلام بكلام
قال الصباح: الإنسان كلمة، واتّساع مداها سعة عقل ومعارف، ودقة اختياراتها ومواضيعها مسؤولية التزام ومعاناة للحق. والحقيقة وتحوّلها إلى قوة في العقول والقلوب طريق نور فاصل بين القول والفعل. ومن صار قوله يشبه فعله صار نوراً يخترق القلوب بلا استئذان. ومن خانته الكلمة في المدى أو في العمق أو تخلفت أفعاله عن الأقوال إذا كان حَسَن النيّة، فهو محبّ مخلصٌ تعوزه الخبرة والمثابرة والمكابدة والشجاعة. فالتمعّن بالكلمة يبدأ من مصدرها بأضعاف تمعّن المتلقي. ويعادل تكبّد مشقة تعلّم وترفّع وتنسّك يقترب من مستوى الشهادة. ومن ترتجف ركبتاه عند قول كلمة لا ترتجف يده على الزناد. ومن يحار في المفاضلة بين دزينة كلمات في كل تعبير يصلح للقضاء في شؤون الناس… يقول أفلاطون إنّ القضاء لا يسلّم إلا للفلاسفة، وبعد بلوغ السبعين، لأن الحق مدخله حقيقة وما بينهما علم الكلام لا علم اللغو ولا اللغة ولا الألسنية ولا الموسيقى، وتلك هي الفلسفة… بئس من قالوا تعليقاً على الكلام… «كلّه كلام بكلام». لأن الحياة كلّها والابتكارات كلّها والأديان كلّها والفلسفات كلّها وحتى النقود… «كلام بكلام»… كلام مدوّن على ورق يصير نقوداً يتوقف عليه مصير البشر، وتخاض لأجله الحروب.
الصيام والخنادق
قال الصباح: هلّ الهلال وانتصفت بقعة الضوء في السماء، فأعلن رمضان القدوم المبارك، وتنحّى الصباح خشوعاً لشهر الفضيلة. قائلاً للعشاق لكُم ما قبل السحور ودعوني للصيام مؤذّناً. ولا تقفوا أمام المنتحلين ولا تتوقفوا أمام المدّعين فتسيؤوا بدعوى ما أساؤوا للفضيلة والخير. ابسطوا أيديكم للفقير والسائل والمحتاج فهذا صيام، ومن استطاع فوقه سبيلاً لصيام الجسد توّج طهر الروح بنقاء الجسد. وطهّروا ألسنتكم بالحقّ وقوله، والوقوف في الخنادق لا على مفترقات الطرق الرمادية بألف داع وداع، وتعزون النفس أنكم تتقرّبون من الله بما تفترضونه الأهمّ. و تساءلوا أليس الخلق كلّهم عيال الله وأحبّهم إليه أقربهم إلى عياله… إذن ما تعرفونه حقاً خالصاً بالدفاع عن الناس ونصرة الحق فيهم ودفع الظلم عنهم بائنٌ ومستحقّ سنداً معلقاً في رقاب الجميع لا يعفي منه أن تصير الصلاة مضاعفة، والصيام ليلاً ونهاراً، والتقرّب بطريق التنسّك والزهد. فكلّها أوجه طهارة، لكنّها ليست أسباب عطاء. وما يبقى لداخل النفس لا يزكّيها. والزكاة فرض رمضانيّ أوله زكاة الدماء فلا تبخلوا، وزكاة الألسن فترجّلوا… إن الخنادق تنتظر أهل الحق لصولة وجولة ورمضان هو زمانها والشام مكانها… وللمتردّد والمتخلّف عن الركب سؤال لا علاقة له بالبطون وما فيها، ولا بالشهوات وما يغويها… مقاومة إغراء الكسل وغواية القعود أوّل الصوم وأهم الزكاة، وقد فضّل الله المجاهدين على القاعدين أجراً عظيماً… رمضان مبارك وكلّ عام وأنتم بألف خير… للشام وبيروت وحلب والقلمون والجنوب وجنوب الجنوب في اليمن وشرق الشرق من بغداد إلى النجف حتى طهران، وأهل نجد والقاهرة وتونس والجزائر وكلّ سجون الأرض المسمّاة أوطاناً، بركات الشهر والزكاة قبل الصيام.
الصيام والاحترام
قال الصباح: صارت مواعيدي معكم عند السحور وداعاً حتى التماع أولى خيوط ضوئي، فتغادرون لأنكم لا تريدون لقائي على رغم أحاديث الاشتياق، فهي طقوسكم في رمضان، وذريعتكم أنّ الليل حضن الصيام، وأنّني جالب العطش والجوع، كأنّما الصيام وُجد لتشبعوا طعاماً وشراباً ولا تشعروا بما عاهدتم أن تصوموا لتشعروه. من أحبّ رمضان أحبّني، ومن كرهني كان صيامه مجاملةً والله لا تنقصه منكم المجاملات. فلا تغيّروا عاداتكم معي ذلك اختبار صدق صيامكم. أمّا الذين ينامون النهار ويسهرون للعمل بعد إفطار، فإن كانت أسبابهم وجيهة فلهُم عذر عدم الصيام، وإن كانت معادلة الصيام للنيام، فتلك معادلة لا تستحق الاحترام. فأنا الصباح لا أريد لقاء من لا يلاقيني وهو صائم، ومن يَطُل ضوئي عليه وهو نائم، ذلك عهدي لكم لِما بعد العيد نلتقي ونتحاسب… لكنني الصباح قلب طيّب وحنون أسامحكم. ناموا ما شئتم إنما حاولوا أن تصدقوا في كل ما تفعلون.