الصين والحياد الناعم

عامر نعيم الياس

يعرف عن الصين أنها دولة حيادية لا تتدخل في الأزمات الدولية بشكل صارخ ولا تحبذ مبدأ الاصطفاف المطلق الإيديولوجي وحتى المصالحي وراء هذا الطرف أو ذاك، فالدولة التي تربعت قبل فترة قليلة على عرش الاقتصاد العالمي تعمل على اجتذاب الجميع من أجل الدفع بعجلة التنمية في بلاد المليار ونصف المليار نسمة، والحفاظ على الاستقرار في بلد لا يزال حتى اليوم يحكم تحت راية اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وعليه ترتبط الصين بعلاقات وثيقة مع الولايات المتحدة في الجانبين الاقتصادي والمالي تبطل أثر أي توجه للصدام المباشر بين القوتين العظميين، أما روسيا فإنها تسعى إلى مضاعفة حجم التبادل التجاري مع الصين في لحظة مفصلية من علاقات الطرفين المتوترة مع واشنطن وبالضرورة الاتحاد الأوروبي الذي لا يستطيع سوى الالتحاق بالركب الأميركي على رغم تعقيدات المشهد الدولي الراهن.

إنه العالم متعدد الأقطاب، معاقباً من قبل واشنطن وبروكسيل ومهدداً من قبل نائب الرئيس الأميركي جو بايدن بعقوبات إضافية «إذا قوّضت روسيا الانتخابات في أوكرانيا»، مؤكداً أن «حلف الأطلسي سيعزز حضوره في أوروبا الوسطى والشرقية جواً وبحراً وعلى الأرض»، زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الصين والتقى نظيره شي جين بينغ للمرة الأولى في دياره منذ وصوله إلى السلطة في آذار من عام 2013، زيارة رسمية استمرت يومين وقع خلالها البلدان العملاقان أربعين اتفاقاً بينها عقد ضخم لتوريد الغاز الروسي إلى الصين لمدة ثلاثين عاماً يبدأ من عام 2018 وبقيمة 400 مليار دولار أميركي، حيث يقوم عملاق الغاز الروسي «غاز بروم» بتوريد 38 مليار متر مكعب سنوياً، عقد أقل ما يوصف بأنه هائل من حيث حجم الصفقة وقيمتها، فضلاً عن دلالاته إذا ما تم ربطه بالاتفاقات الأخرى التي من بينها العقد الموقع بين الصين وشركة سوخوي الروسية لتصنيع الطائرات من أجل التعاون لبناء طائرة مدنية من 300 مقعد تمهيداً لاستغناء الصين عن طائرات بوينغ وايرباص المصنعتين في أميركا وأوروبا على التوالي، إضافةً إلى تزويد الصين بطائرات سوخوي 27 المعدّلة ومروحيات مي 26، من دون أن ننسى البعد الاستراتيجي للمناورات البحرية المشتركة في بحر الصين الجنوبي بين البحريتين الروسية والصينية، في الوقت الذي تنتقد الولايات المتحدة «المطامع التوسعية لبكين في بحر الصين» وتدخل علاقاتها مع موسكو في أزمة غير مسبوقة منذ انهيار الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة التي أجمع كافة المراقبين على عودتها بنمط أكثر سخونة من ذي قبل.

هل نحن أمام جبهة إيديولوجية واحدة تجمع بكين وموسكو، أم أن الأمر لا يعدو عن كونه محاولة للتشبيك الاقتصادي بعيداً عن السياسة؟ هل نحن أمام صراع بحت على الموارد؟ أم أن السياسة حاضرة في تفاصيل هذا التحالف الروسي الصيني؟

على الحياد في الأزمة الأوكرانية وفي ضم القرم تحديداً، جاء الموقف الصيني من ارتفاع منسوب التوتر إلى الحدود القصوى بين موسكو وواشنطن وبروكسيل، لكن هذا الحياد لم يدم طويلاً فالرسالة الصينية من وراء هذا التقارب الاقتصادي الاستراتيجي مع روسيا هي دعم الحليف الروسي في وجه العقوبات الاقتصادية للغرب، دعم يتجاوز في حدوده الاقتصاد ليصل إلى السياسة بحسب ليبراسيون الفرنسية التي عنونت أحد تقاريرها «موسكو وبكين، المعركة الإيديولوجية المشتركة» وترى الصحيفة أننا اليوم «في لحظة تكتل الأمم التي تتعارض مصالحها السياسية والاستراتيجية مع الأمم الأخرى، اقتصادياً… فروسيا اليوم تملك علاقات مروعة مع واشنطن من سورية إلى أوكرانيا، إنها خلافات عميقة… والصين أيضاً علاقاتها مع واشنطن ليست بأفضل حال». هو تكتل الأمم إذاً، بمعنى آخر فإن المشهد الحالي هو أحد نتائج الصراع بين قوى تريد عالماً متعدد الأقطاب وأخرى لا تزال مصرّة على قطع الطريق على هذا الأمر أو على الأقل تأخيره عبر نشر الفوضى بدءاً من فيتنام وصولاً إلى أوكرانيا وليس انتهاءً بأفريقيا.

هو الحياد الصيني إذاً، حياد ناعم وضع أوروبا محتارة في مواجهة موسكو في معركة الغاز والمصادر البديلة، ووضع واشنطن في مواجهة تعزيز للحلف بين دولتين رافعتين لمشروع التعددية القطبية، حياد يتطابق مع القوة الناعمة للولايات المتحدة في عهد الرئيس بيل كلينتون، نعومة أوصلت واشنطن إلى ذروة مجدها على الساحة الدولية.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى