«إسرائيل» ولحس المبرد
ناصر قنديل
– خلال سنوات الأزمة السورية اضطرت «إسرائيل» شيئاً فشيئاً أن تنزع القناع عن وجهها الحقيقي، وتقوم بكشفه تدريجاً على رغم الحرص المسبق مع بدايات الأزمة على إظهار الابتعاد عن التدخل، والإيحاء أن لا علاقة لها بما يجري على الإطلاق، وأنّ ما يجري في سورية هو شأن محض داخلي، وأنّ ما يهمّ «إسرائيل»، كما كانت تقول تصريحات مسؤوليها، هو ألا تقع أسلحة نوعية موجودة لدى الجيش السوري في أيدي الجماعات المتطرفة، وألا تصل هذه الجماعات إلى المناطق الحدودية، واستطراداً ألا تؤدّي خشية الجيش السوري من فقدان السيطرة على بعض الأسلحة النوعية الكاسرة للتوازن إلى تسليمها لحزب الله.
– تدرّج التدخل «الإسرائيلي» الفاضح للدور والهوية منذ بداية الأزمة، لكنه بقي من دون أدلة دامغة تستند إلى أقوال وأفعال علنية من الجانب «الإسرائيلي»، فكان القصف الجوي «الإسرائيلي» يربط الغارات التي ينفذها، ببيانات عسكرية تتحدّث عن استهداف شحنات سلاح مرسلة إلى حزب الله، على رغم أنّ توقيت الغارات كان دائماً يرتبط بروزنامة تتصل باستعداد حزب الله والجيش السوري لعمليات تستهدف تنظيم «القاعدة»، ووظيفة مبرمجة للغارات لإيصال رسالة مفادها أنّ المضيّ في هذه الاستعدادات يعرّض الجيش والمقاومة للمزيد من الاستهداف وصولاً إلى التلويح بإمكانية دخول «إسرائيل» الحرب مباشرة، وقد كان التوقيت فاضحاً عشية عمليتي القصيْر ويبرود.
– شهدت الحرب على سورية محطات استهدفت خلالها، مواقع ومنشآت ورموز وشخصيات عسكرية سورية، وأسلحة نوعية، لم يكن لأيّ منها صلة بالبعد الداخلي للصراع، ولم يكن ممكناً التعرّف إلى المهام الفعلية لبعض منها، إلا من قبل أجهزة استخبارات تتابع تفاصيل عملياتية دقيقة للجيش السوري كما هي حال الجيش «الإسرائيلي»، فقد استهدفت بداية الحرب غرفة عمليات للحرب الإلكترونية في بلدة نوى بالقرب من درعا، ولم يكن قد حدث فيها ما يفسّر على الإطلاق الحادث الغامض الذي انتهى بتخريب المعدات وسرقة بعضها، وقتل الخبراء السوريين المحترفين العاملين فيها، كما تمّ استهداف مجموعة محترفة من ضباط سلاح الجو العائدين من تدريبات خاصة في روسيا على أنماط وطرازات جديدة من الطائرات الروسية، فور وصولهم إلى مطار حمص، وهم يغادرونه بلباس مدني، كذلك تمّ استهداف مراكز الدفاع الجوي وتعطيل راداراتها وتخريب الصواريخ المنصوبة في بعضها، وصولاً إلى اغتيالات مبرمجة ودقيقة لعقول سورية كانت مهامها محصورة بالبحوث العلمية في مجالات دقيقة وحساسة لتطوير سلاح الصواريخ، كذلك تمّت سرقة طائرة حربية سورية نقلت إلى الأردن لتفكيكها والتعرّف إلى تحسينات أدخلتها عقول سورية عليها، وهناك الكثير من الأعمال الاستخبارية التي نفذت من داخل الأجسام المسلحة التي ترفع لواء المعارضة كان التوقيع الفعلي عليها «إسرائيلياً».
– عندما وصل جسم المعارضة السورية إلى حالة يصعب معها الحفاظ على عناوينه السياسية والعسكرية، من دون تظهير الوجود المباشر لتنظيم «القاعدة»، واضطر هذا الجسم القاعدي للكشف عن نفسه، وعندما بدا أنّ الزمن ينفذ وسورية تستردّ زمام المبادرة سياسياً وعسكرياً، وأنّ حلف الحرب على سورية يفشل في مشروع إسقاط سورية وحدث الكثير من النتائج العكسية لمشروع السيطرة على سورية دولياً، خصوصاً لجهة اضطرار الأميركيين للعودة بأساطيلهم التي جاءت لإعلان الحرب، والاضطرار للانخراط التفاوضي مع كلّ من روسيا وإيران في ملفات متعددة، منها وفي مقدّمها التسليم باستحالة المضيّ في حرب الرهان على سقوط سورية، بدأت «إسرائيل» تسعى إلى توفير خطوط دفاعية جديدة، قابلة للعيش في مرحلة ما بعد نهاية الحرب على سورية، وظهر مشروع الحزام الأمني على الحدود مع الجولان كأولوية «إسرائيلية»، فاضطرت «إسرائيل» إلى إسقاط القناع وكشف علاقتها التي بقيت مستورة بتنظيم «القاعدة» لثلاثة عقود، والإعلان الرسمي عن أنّ «جبهة النصرة» التي تمثل رسمياً الفرع المعتمد لتنظيم «القاعدة» في دول الجوار لفلسطين المحتلة، هي حليف موثوق ومؤتمن على أمن «إسرائيل»، وأنّ العلاقة بين «إسرائيل» و«جبهة النصرة» هي علاقة تحالف متين يطاول وجوهاً متعددة من التعاون الاستخباري والعسكري واللوجستي.
– لحسابات كانت في البدايات غير معلومة، أو غير واضحة، أو في الحدّ الأدنى غير مثبتة، قامت «جبهة النصرة» بالتضييق على أبناء طائفة الموحدين الدروز في ريف إدلب منذ وقوع المنطقة في قبضتها، وبدا الأمر للوهلة الأولى أنه مجرّد تعبير تلقائي عن الطابع التكفيري الإلغائي لفكر الجبهة وثقافة قادتها والمنتمين إليها، حتى تاريخ ارتكاب مجزرة قلب لوزة، لينكشف القناع الثاني عن الوجه «الإسرائيلي»، فالعملية منسّقة ومبرمجة على جدول أعمال «إسرائيلي»، يرتبط من جهة بالسعي إلى ضبط أداء مناطق انتشار الموحدين الدروز في جنوب سورية الذين يشكلون عمقاً معنوياً وبشرياً وجغرافياً للجيش السوري، والذين بحكم التداخل الجغرافي مع المناطق التي يريدها «الإسرائيلي» حزاماً أمنياً حول الجولان المحتلّ، يجب إخضاعهم، فتكشف مجزرة قلب لوزة عن تحضيرات واتصالات بين النائب وليد جنبلاط والملك الأردني وزيارات متكرّرة لموفديه إلى تركيا والأردن، وفي المقابل تنسيق أردني «إسرائيلي» يعلن عنه «الإسرائيليون» بصفتهم رعاة مشتركين مع عمان وأنقرة لدور «جبهة النصرة»، ويخرج إلى النور مشروع الاتفاق الذي يجب على قادة محافظة السويداء التوقيع عليه لضمان أمنهم من هجمات واعتداءات ومجازر «جبهة النصرة»، ومحورها إعلان انسلاخ السويداء عن الجغرافيا السورية، والانتقال إلى نمط ثالث في المناطق السورية الموزعة بين مناطق تسيطر عليها الدولة وأخرى يسيطر عليها أعداؤها، لتظهر صيغة الحياد التي أنيط بوليد جنبلاط تسويقها بين أبناء الطائفة الدرزية، لتكون بقعة الزيت التي يعتبرها «الإسرائيليون» الأصلح لانتشار هذا المشروع، مستندين إلى ما تلتزم «جبهة النصرة» بفعله بحقهم من جهة، وبما يسوّقه جنبلاط بينهم من جهة ثانية، وما تراهن عليه عبر توظيف عدد من فاعليات ومشايخ الطائفة في فلسطين المحتلة للترويج له.
– جاءت الاختبارات الأولى لتقول إنّ وصفة جنبلاط ردّها مشايخ وشباب جبل العرب إلى صاحبها مع الشكر معلنين تمسكهم بالوقوف مع عروبتهم وسوريتهم وجيشهم، ولكن الأهمّ أنها تقول شيئاً آخر في داخل فلسطين المحتلة لا يزال في بداياته وسيكبر في الأيام المقبلة، ويصير عبئاً ليس لـ«الإسرائيليين» القدرة على تحمّله، وهو انتقال الغضب إلى أبناء الطائفة الدرزية من اعتداءات «جبهة النصرة» على إخوتهم وتهديدهم لهم، من المشاعر إلى الأفعال، وانتقال الأفعال من البحث عن وصفة أمان تفرّط بالكرامة والعزة، وهما ميزتان تباهى الدروز بكونهما من ميزات لم يفرّطوا بها عبر تاريخهم، لتكون الوصفة البديلة للوصفة التي أرادت منهم «إسرائيل» تسويقها بالخنوع والخضوع وإعلان الحياد طلباً للأمن الشخصي، ويتولى جنبلاط رعايتها، فتصير الوصفة البديلة هي ملاحقة «النصرة» داخل المناطق المحتلة، فتنتشر المجموعات الغاضبة من الجولان والجليل على الطرق وفي المستشفيات، والأماكن المحتملة لوجود عناصر «جبهة النصرة» وجرحاها والنيل منهم أينما وجدوا، فتقع «إسرائيل» في مخاطر دوامة من لحس المبرد، كلما تقدّمت علاقتها بـ«جبهة النصرة»، دخل أمنها الداخلي في الفوضى العارمة، وكلما أرادت مراعاة المكوّن الدرزي في المناطق المحتلة وتهدئته صار عليها قطع صلاتها بـ«جبهة النصرة». لقد أحسن شباب الجولان والجليل فعلاً، وعسى الأمر يتخطى طابع كونه ردّ فعل جهة من لون طائفي معيّن ليصير انتفاضة لعرب فلسطين رفضاً لمرور واستضافة وإقامة كلّ ما يخصّ المشاركين في الحرب على سورية.