هل نضجت التسويات؟
اليوم تطلق «البناء» خطوتها الأولى من «نافذة بمفاتيح متعددة»، وهي المقالة بتواقيع متعددة التي تفرد لها مكاناً مميّزا في صفحتها الأخيرة، والخطوة الأولى يفتتحها نائب رئيس المجلس النيابي سابقاً إيلي الفرزلي والإعلامية والكاتبة الزميلة روزانا رمال، اللذان اختارا بشجاعة الإقدام على القيام بالخطوة الأولى، وبذلا معاً جهداً مميّزاً لتقديم نتاجها، وتناولا موضوعاً بحثيا واستراتيجياً يستجيب للحظة الراهنة في طرح السؤال الملحّ، هل نضجت التسويات؟
ناصر قنديل ــ رئيس التحرير
لا يمكن الفصل بين عنوان التسوية العريض عن مجموعة ملفات تنطوي تحتها، فالتسوية التي نتحدث عنها اليوم هي على رقعة جغرافية ممتدّة من هضاب آسيا الوسطى حتى شرق البحر الأبيض المتوسط، وهذا هو المعنى الذي عبّرت عنه كوندوليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة السابقة، التي قالت: «إنّ هناك معركة ممتدّة من البحر الأبيض المتوسط حتى أفغانستان وإيران»، وعليه فإنّ أيّ تسوية شاملة لا يمكن ان تنضج إذا ما طاولت ملفات متعدّدة ومحورية.
هناك ملفات وقضايا مركزية وقوى أساسية ستفرض نفسها في قوس هذه الأزمات لتكون من أطراف «الأزمة الجديدة» التي ستؤدّي إلى إعادة تشكيل نظام إقليمي جديد، أيّ أنّ التسوية المنشودة تعني الوصول إلى إرساء نظام اقليمي جديد في منطقتنا.
نظام إقليمي جديد يسبق أي تسوية
منذ البدء عملت «إسرائيل» على إرساء «نظام إقليمي» يمكنها من تكريس نفسها كعمود فقري في المنطقة، وتكون صاحبة الكلمة الفصل وتترأس الامبراطورية الاقتصادية في هذا الشرق، وهو ما كان رئيس الكيان الإسرائيلي شيمون بيريز قد نظّر له في كتابه الشهير «الشرق الأوسط الكبير».
فماذا جرى عملياً؟
لدى انتداب «إسرائيل» نفسها لهذا الدور المتقدم في «النظام الإقليمي» كانت تستثمر وجودها وعلاقاتها مع الغرب، واستثمرت قوتها العسكرية لمصلحة الوظيفة العسكرية المتقدمة التي تقوم بها باسم هذا المعسكر الغربي بأكمله في المنطقة التي تقع تحت إطار «سايكس ـ بيكو «مستعملة «القوة» لتكون «الحارس» المتقدم لمصالح الغرب في هذا الشرق.
ولكن طرأت على المشهد تطورات غاية في الأهمية، وأول حدث كانت له نتائج استراتيجية جداً، وتأثيرات كبيرة جداً كان «تفويض الغرب برمّته وبعض الأنظمة العربية إنّ لم يكن كلها لإسرائيل لاستئصال المقاومة».
سعت «إسرائيل» جاهدة بكلّ ما لها من نفوذ وقوة عبر صولات وجولات وعمليات عسكرية متعدّدة وتدخلات وعبر ممارسة ضغوط سياسية عدة الى تنفيذ المهمة، ففشلت باستئصال المقاومة، وعندما فشلت رُسِمَ سقف متدن لوظيفة سلاحها على المستوى الاستراتيجي.
بالتالي لم يعد بمقدور «إسرائيل» التي لم تستطع على مستوى 2000 كلم مربع في جنوب لبنان من استئصال «قوة عسكرية» رسمت حدود سقف لها، فبدأت أميركا تشعر بحاجة إلى التورّط المباشر في الصراع، والدخول المباشر، فجاءت إلى أفغانستان ثم إلى العراق، وطلبت من «إسرائيل» البقاء جانباً، لأنّ العرب والمسلمين لهم ردّ فعل غير موات، ولا تخدم الحملة العسكرية الأميركية إذا تدخلت «إسرائيل» في هذا الصراع.
ولم تعد «إسرائيل» قادرة حتى على أن تعترف بشيء للفلسطينيين، يعني أنّ مسألة دولة «إسرائيل» انتهت، بمعنى أنه أصبحت هناك حدود يجب أن ترسّم…
هكذا تلاشى طموح «إسرائيل» بنظام شرق أوسطي قائم على قاعدة أنها السيدة، ليبرز على أنقاض هذا المشروع مشروع آخر وهو مشروع عثماني تركي عنوانه «إسقاط نظام الحكم في سورية ومصر، ووضع اليد عليهما، وعندها يضطر «شريف مكة» أي السعودي اليوم إلى تقديم الولاء للتركي والقول له: «أنت خليفة المسلمين»… وهذا ما حصل مع السلطان سليم في معركته مع اسماعيل الصفوي بعدما انتصر، فبدل الذهاب باتجاه بلاد فارس نزل إلى سورية ووضع يده عليها وذهب من معركة مرج دابق الى مصر عام 1517، فجاء شريف مكة وسلّمه مفاتيحها وقال له: «أنت خليفة المسلمين».
التركي بدوره فشل في الإمساك بالنظام السوري وفي إسقاطه، وفشل أيضاً في السيطرة على النظام المصري، وبهذا يكون «مشروع الامبراطورية العثمانية» قد فشل.
عوامل أسّست للعمل على إرساء نظام إقليمي الجديد
على المقلب الآخر، وفي المنظور الأميركي، فإنّ استراتيجية الولايات المتحدة قائمة على أساس استراتيجي وهو «الخروج» من المنطقة على مستوى «جاهزية عسكرية مستمرة» مع رسم اهتمامات خارجة عن منطقة الشرق الأوسط والحفاظ على مصالحها الاقتصادية التي لا تمسّ.
1 ـ مشهد المنطقة والخليج: إيران أساس
أيّ نظام إقليمي جديد يؤسّس لتسوية
الفشل في إسقاط النظام الإيراني أجبر الأميركيين على إقامة «اتفاق شراكة» معه في العراق، واليوم فإنّ الاتفاق الإيراني – الأميركي هو نظام التسوية في العراق.
في ظلّ هذا الوضع، يعيش الخليج حالة انكشاف استراتيجي هائل، فالعراق أخذ يهدّد المملكة العربية السعودية كرد فعل على تدخلاتها، وصرح رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي مراراً بذلك، هذا إضافة إلى الفشل الخليجي المدوّي في سورية، وما لهذا الفشل من انعكاسات سياسية واقتصادية واستراتيجية عدة، عدا عن مشاكل اليمن التي تعني المملكة السعودية مباشرة، ومشاكل البحرين التي تعني قلب المملكة مباشرة أيضاً، إضافة إلى التناقضات الداخلية، فضلاً عن الأمر الجوهري والعامل الأساسي وهو وجود إيران كقوة هائلة من الجانب الآخر للخليج.
هكذا يحتدم الصراع القائم اليوم وهو صراع إنتاج «نظام إقليمي» جديد، وقد ثبتت إيران نفسها كأحد عناصر هذا النظام الجديد الأساسية، بعدما تحوّلت من دولة مشاغبة وثورية، ومن دولة تصدّر الثورات بحسب المزاعم الأميركية، إلى دولة تحفظ الاستقرار، وها هو الرئيس روحاني يؤكد هذه الوظيفة الاستراتيجية لإيران بقوله: «انها دولة حفظ استقرار».
أبرز مؤشرات ثبات إيران كعامل أساس في هذا النظام الجديد نتج بعد الانفتاح بينها وبين الغرب في ما يتعلق بحلحلة الملف النووي الإيراني، فتغيّر عندها المشهد، وتغيّرت نظرة العالم عموماً إلى إيران ودورها، أيّ منذ قرّر الأميركي أن يفاوض الإيراني، ومن هنا قلق «إسرائيل» الاستراتيجي وخوفها من أيّ صفقة مع إيران، تدفع ثمنها «إسرائيل»، حيث تتدنى وظيفتها لأنّ ما تستطيع إيران تقديمه على المستوى الاستراتيجي إقليمياً ودولياً أكبر بكثير مما تستطيع «إسرائيل» تقديمه، وعليه فإنّ الوقت سيثبّت إيران كإمبراطورية حقيقية في هذه المنطقة.
السعودية أحد عناصر التسوية غير المعروفة بعد
أصبحت المملكة العربية السعودية مجبرة على أن تدخل على المعادلة كممثلة «للسنة» في المعادلة على «أنقاض» دور تركي كان مأمولاً أن يكون متصاعداً ومتقدماً.
ولا شك في أنّ للسعودية دورها المركزي والأساسي، وهي صاحبة ثقل استراتيجي في المنطقة، لكن «المرجعية السنية» لم تُحسم بعد إذا ما كانت للسعودية أو لمصر أو لتركيا، لأنّ تركيا بدورها ليست دولة كبرى في المنطقة وحسب، بل لها امتداد كبير من تونس إلى لبنان وسورية عبر الجماعات الإسلامية ويبرز هنا سبب وضع السعودية «الإخوان المسلمين» على لائحة الإرهاب، لأنهم كانوا يشكلون الرصيد الاستراتيجي الذي يمكن تركيا من أن تكون لاعباً إقليمياً أساسياً بالدور السني، على أنقاض دور المملكة، من هنا جاء دعم السعودية لمصر على أمل أن تكسب مصر كرصيد تاريخي حضاري عسكري أمني سياسي له شرعيته في المنطقة، لكي تقلل من دور تركيا.
إذاً، وُضعت التسويات على سكة النضوج، لكنها لم تكتمل نضجاً بعد بعدم حسم أبرز عناصرها «المرجعية السنية السياسية»، والتي قد تكون بعدة مرجعيات، لكنها لا شك سائرة على طريق النضوج بالتمام والكمال، وهي مظللة باتفاق روسي ـ أميركي يرعاها بالقطعة، أيّ «ملف بملف».
الإرهاب وسورية واجهة التسويات
واجهت سورية على مدى أكثر من 3 سنوات معركة أقلّ ما يُقال فيها أنها «كمين استراتيجي» لكلّ المجموعات الإرهابية في العالم حيث كانت الأراضي السورية مسرحاً واسعاً لتصفية تلك الجماعات، هذه التصفيات تشكل خدمة حقيقية لمسائل التسوية في المنطقة وأبرز مؤشراتها هي تغيير الخطاب والهدف نحو سورية بعدما تبدّل الهدف من الاتحاد على إسقاط نظامها إلى الاتحاد على مكافحة الإرهاب في سورية والمنطقة… هذا هو الخطاب الأميركي ـ الغربي اليوم وهكذا تؤكد المحاكم البريطانية «محكمة كينغستون كراون» التي أدانت أول رجل بريطاني بتهم تتعلق بالإرهاب والإعداد للقيام بأعمال إرهابية في سورية.
كلّ هذا الالتقاء غير المباشر على مكافحة الإرهاب في العراق ولبنان وسورية، وتصفية الجماعات هو بموافقة عربية سعودية،
فهل نستطيع أن نستنتج أنّ اصطفاف العالم اليوم وراء مسألة شعار مكافحة الإرهاب هو بداية نضج هذه التسوية الإقليمية؟
كاتبة وإعلامية لبنانية
النائب السابق لرئيس مجلس النواب اللبناني