«أنا والجدّة نينا»… مغامرات طالب عُمانيّ مع الاغتراب
يصف الكاتب العُمانيّ أحمد الرحبي في روايته الثانية «أنا والجدّة نينا»، حياة شاب عُماني يدرس في روسيا، وكيفيه تعاطيه مع الحياة والمجتمع هناك. «سعد الله»، بطل الرواية وراويها، كان طموحه أن يدرس في إحدى الجامعات الأوروبية، وتحديداً في فرنسا، لكن مماطلة السفارة الفرنسية دفعته إلى قبول دعوة الدراسة في روسيا. «وجهتي كانت إلى الغرب، إلى فرنسا، واسطة العقد ومنتهى الأحلام الوردية. أنفقت وقتاً لتعلّم لغتها وأبديت حماستي لثقافتها، ولكن ذلك لم يقنع موظفي السفارة الفرنسية في مسقط، وبدلاً من مِنحة الدراسة التي كنت أطلبها وأترقبها، كانوا يمطرونني بالمجاملات ويحثّونني على المضيّ خلف سرابهم الجميل، حين لاحت في الأفق دعوة الدراسة إلى روسيا، كنت قد مللت الفرنسيين ولحقت المهانة بي من طرق أبوابهم».
هكذا غادر «سعد الله» بلاده متوجّهاً إلى «جنة الربّ العتيقة». هناك عاش في الفترة الأولى ضمن السكن الجامعي المشترك مع طلاب آخرين قادمين من مناطق مختلفة من العالم، متعرّفاً إلى الكثير من عاداتهم وتقاليدهم، ناقلاً انطباعاته السريعة والمكثفة التي تضيء جوانب من ثقافات هذه البلدان، كالصين وصربيا والبرازيل وغيرها.
يُبرز الروائي كيف أن المنتمين إلى جنسيات مختلفة في السكن المشترك يتصرّفون بعفوية وتلقائية في ما بينهم، من دون مشكلات تذكر. غير أن تعاطي القادمين من بلدان عربية في ما بينهم، يشوبه الكثير من الاحتقار والتعالي والصدام من دون سبب واضح، وكأن الشخص الخارج من بيئته إلى بيئة غربية يحاول أن يثبت لنفسه وللآخرين الذين يشتركون معه في جنسيته العربية أنه لا ينتمي إليهم، أو أنه يتفوق عليهم.
بعد مشاحنات عدّة مع زملائه ومضايقات في السكن، يقرّر «سعد الله» الانتقال واستئجار غرفة في منزل قريب، فيعيش مع عجوز روسية هي «الجدّة نينا»، التي يحتل اسمها جزءاً من عنوان الرواية. للجدّة حكايتها المثيرة، فهي ولدت في إحدى القرى لأبٍ روسيّ وأمّ بولندية، توفي والدها وقُطِع الرزق عنهم، ما اضطرّها هي ووالدتها وأختها للقدوم إلى موسكو، حيث ستعمل الأمّ في مصنع للورق، وتخبئ طفلتيها في مسكن المصنع من دون علم المسؤولين عنه، إذ لم يكن مرغوباً في الأطفال هناك. تصف الجدّة مقدار الذل والهوان الذي تعرّضن له في حياتهن تلك. وتقصّ على «سعد الله» الكثير من ذكرياتها التي تختزل جزءاً من تاريخ روسيا، فتروي له مثلاً عن ويلات الحرب، وعن الموت والفقدان، وكيف أنها كانت تعمل في مصنع للدبابات مع صديقتها «إيرا» بينما كانت الطائرات الألمانية تحلق في السماء وتقصف كل شيء. «كنا نسير في الغابة وبأيدينا، أنا ورفيقاتي، أواني الطعام نحملها إلى جنود الجبهة. انقبض الهواء فجأة فاجتاحني الخوف. كانت إيرا تشدّ أطراف ثوبها وتدور حول الأشجار الصامتة. عبثاً حاولت أن أكبح جماحها ولم أجد طريقة لأبلغها عن هواجسي المخيفة. حينئذ لم يكن أمامي سوى التعلل بقضاء حاجتي والتخلف عن الفوج. لكن انفجاراً قطع خلوتي فعدوت إلى حيث رفيقتي وقافلة الجنود، غير أني لم أجد أمامي سوى حفرة هائلة وكومة دخان تصعد منها».
يقسّم الكاتب الرواية إلى فصلين، الأول عنوانه «البحث عن الحورية»، ومحوره المرحلة التي يقضيها في روسيا باحثاً عن «حورية» يعشقها، لتبدّد وحشة غربته، لكنه يتعثر بأكثر من علاقة لا تستمر ولا تنجح. أما الفصل الثاني فهو «أنا وماريا»، إذ يجد بطل الرواية في شخص «ماريا» حفيدة الجدة، «الحورية» التي بحث عنها طويلاً. و«ماريا» ممثلة مسرحية عاشت تجربة حبّ فاشلة انعكست على قصة المسرحية التي ألّفتها وتؤدّيها على الخشبة. يذهبان معاً في رحلة سياحية إلى «مدينة الكنائس»، ويغرقان في حوارات شائكة حول العلاقة مع الله، والعلاقة بين الرجل والمرأة، والرغبة والشهوة، والاختلاف بين الشرق والغرب…
يشبك الرحبي في ثنايا السرد بعض الأساطير والقصص الشعبية الروسية، كتلك الحكاية التي تروي كيف ترك الروس الحياة الوثنية التي كانوا يعيشونها، بعد وصول مبعوثَين، كل واحد منهما يحمل ديناً مختلفاً لإقناعهم به، فاعتنقوا المسيحية لسببٍ قد يبدو غريباً. وأيضاً تلك الحكاية التي تروي كيف خلق الله روسيا، إذ ضرب موعداً لموفدي الأمم ليعطي كل منهم حصته من الأرض، وهكذا وزّعها بينهم، وحين انتهى، وصل المندوب الروسي متأخراً، فلم يعد هناك أي قطعة في الأرض لقومه، لكنه حين بيّن سبب تأخره، «أعجب الإله بخطاب إيفان إيفانوفيتش إيفانوف فمدّ يده خلف ظهره وأخذ قطعة من الجنة وقدّمها له فكانت روسيا».
يذكر أنّ رواية «أنا والجدّة نينا»، صادرة عن «مؤسّسة الانتشار العربي» ـ بيروت، وهي من القطع الوسط وتقع في 178 صفحة.