فلسفة الانعزال… العروبة الانفلاشية نموذجاً ٢/١

نظام مارديني

منذ البداية جاءت الفكرة العربية استيعابية بالإكراه، خالقة فجوة معرفية بالنسيج الوطني، وفاشلة في إدارة التنوع الديني والإثني، في مجتمع أقل ما يوصف بأنه مجتمع «التنوع الخلاق». كانت فلسفة ركمت تحت الرماد انقسامات إثنية ومذهبية حاولت تغطيتها سياسات عزل وتمييز ضد الجماعات التي قاومت هذا العزل بالانكفاء إلى هويتها الخاصة على الهوية العربية العامة للدولة ـ الأمة.

فالفكر العروبي الانفلاشي بدأ في جوهره استعادياً يقوم على التاريخ، وانتقائياً يقوم على انتقاء المتماثلات من الحوادث والأشخاص والحقب التاريخية والأقوام والمذاهب والإثنيات، ووضعها في صورة نمطية واحدة يستبعد على أساسها المختلف من دون مراعاة للزمن أو المتغيرات التاريخية أو السياق الحالي الذي يتحرك فيه الفكر… إن هذا الفكر هو الذي أدى إلى إقامة أنظمة شمولية في أكثر من مكان في الهلال الخصيب على أساس تفسيرات جعلت من القومية العربية «قوميات» أو الهوية «هويات» وكثيراً ما كانت هويات متعادية ومتصادمة.

حاول الفكر أن يسكت التنوعات أو الاختلافات من خلال عدم الاعتراف بوجودها وبتاريخها وبحقها في المواطنة الواحدة. وفي هذا الصدد يقول عالم الاجتماع النهضوي أنطون سعاده «كل بحث في وحدة سورية ونهضتها لا يتناول بالدرس قضية تركيبها الاتنلوجي لا يصل إلى نتيجة ناجحة». أما النتيجة الناجحة فهي الحل الروحي، قال: «إن الطريقة الوحيدة لصهر هذه العناصر هي طريقة تسليط عامل روحي اجتماعي ثقافي عليها» جريدة سورية الجديدة ـ 29 تموز 1939 .

وعنى سعاده بذلك أنه ما دامت العناصر مختلفة فلا وحدة فيزيائية لها وهذه حقيقة علمية واضحة. فلم يبقَ، لصهر الجماعات الإثنية، وإحداث تغيير في تلك الحال، إلا الحل التربوي المفيد المنتج لأن تلك العناصر مقيمة في القطر ذاته، والحل التربوي يكون بنشر ثقافة تفاعل اجتماعية جديدة.

بعيداً من هذه الرؤية العلمية، أخفقت الفلسفة العربية الانعزالية في تفعيل وحدة الحياة في المجتمع السوري، فهي كانت قومية انفلاشية تطورت عبر سلالة بدوية انعزالية فئوية شكلت في ما بعد المولد الأكبر لحركات الانعزال في بلادنا، وهذه العروبة التي بدت للوهلة الأولى وحدوية في الشكل، إلا أنها في الواقع كانت تقسيمية إقصائية في صميم مبادئها وثقافتها وسلوكيتها، بل انقسامية في جوهرها. ولعلنا نرى مشهد الخرائط الانعزالية الوهمية التي بدأت تتكاثر مثل الفطر السام في الهلال الخصيب وتتصدر سوق المزايدات في جهل مطبق لأصول العلوم السياسية والاجتماعية ولمنهج التطورات والتحولات التاريخية الحضارية التي تحكم بدورها مسار صيرورة الدول وتطورها وآثارها على شعوب ومصائرها.

مشهد الخرائط الانعزالية هذا سيجعل من أنموذج «دويلة» الجماعات قبراً للهوية السورية التي تضم السرياني والآشوري والكلداني والكردي والعربي، وستتحول كل جماعة في هذا المشهد الانعزالي من جماعة مضطهَدة إلى جماعة مضطهِدة في انعطافة انتكاسية محزنة وخطيرة على مجتمعنا السوري. ومن يرد أمثلة على سلوكيات الانعزاليين تجاه شركائهم في الوطن والمصير أو اتجاه بعضهم البعض، فليدقق في واقع الجماعات الاثنية والمذهبية في الكيان العراقي، وسيرى الأمثلة الدامية على نتائج انعزال الجماعات.

تحت هيمنة هذه الفلسفة جاء مصطلح «المكونات» ليقضي على فكرة بناء وحدة الحياة في الهلال السوري الخصيب، واطلاق هذا المصطلح لا يقل سوءاً عن مصطلح «أقليات»، فهو غامض ومخادع ومخاتل، وهو يدفع إلى خطاب شيطنة الآخر لكي يطغى على الفضاء السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع السوري، وهذه مقاربة عكستها الاسئلة القلقة حول الهوية، مثلما عكست التباساً في فهم الهوية الواحدة التي بنيت على أساس الأرض لا اللغة او الدين او العادات والتقاليد، التي هي نتاج طبيعي لتفاعل الانسان مع الارض.

في غياب فكرة المواطنة في مجتمعنا نبتت فكرة «المكونات»، التي استدعت من التاريخ «أشباحاً وقصصاً وأساطير» واستحضرت هوية «مستقلة» متمايزة في نزعة انعزال وانسلاخ عن ذاتها الثقافية الحضارية الوجدانية. بمعنى ان هذا الانعزال نشأ من حالة فقدان الانتماء الطبيعي للحياة، وللدلالة على حالة الصدام الانعزالي، وتشير حروب التسميات على مناطق مثل كركوك وسهل نينوى والقامشلي ـ قامشلو وعين عرب ـ كوباني إلى أي مدى ذهبت هوية المناطق ضحية للمواجهة بين أكبر إثنيتين العرب والكرد على الأرض والنفوذ. وتأخذ هذه المواجهة جاذبيتها حين تدور أساطير وتروج روايات حول تحميل الجماعة جماعة أخرى مسؤولية ما يحدث لها من العنف.

لقراءة هذا الواقع علينا أن نحدد مستويين في طرح مُشكل الجماعات الأقليات :

المستوى الأول هو الذي يأخذ الأقلية الإثنية معرّفة بالتقابل مع الجماعة المهيمنة.

المستوى الثاني من مستويات مقاربة مشكل «الأقليات» هو حق المواطنة، أي التعامل مع جميع رعايا الدولة الواحدة كأفراد متساوين في الحقوق المدنية والسياسية وفي الواجبات.

كان واضحاً منذ البداية أن الفلسفة العربية الانعزالية عمدت إلى إذابة «الهويات» الصغرى المكونة للجماعات، في هوية أكبر تحكم باسم العروبة، وشكل ذلك مفتاحاً لمشاريع الخارج، ولعل أهم هذه المشاريع ما قدمه الجنرال الأميركي المتقاعد رالف بيترز في مشروعه لتقسيم المنطقة وقد جاء تحت أسم: «حدود الدم: ما هو شكل شرق أوسط أفضل؟» Blood borders: How a better Middle East would look والذي نشر في مجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد حزيران 2006. وتتحول الجماعات الإثنية والمذهبية إلى مجرد دويلات أنابيب مشوهة تخدم المشروع كما يقترحه بيترز وذلك عبر تحويل نسيج المجتمع في الهلال السوري الخصيب إلى مشروع فتنة وحروب أهلية، من أجل «الوصول إلى منابع النفط بمنطقة مقدر لها أن تحارب نفسها». وخص بيترز الأكراد بقراءة مستفيضة عبر قوله: «ان كردستان حرة، تمتد من دياربكر الى تبريز، ستكون الدولة الأكثر دعماً للغرب بين بلغاريا واليابان!».

إن الاسئلة عن خطورة ظاهرة الانعزال الكردي هو ما ستجيب عنه قراءتنا للجزء الثاني من موضوع «الفلسفة الانعزالية» وذلك بعدما قرأنا ظاهرة الانعزال العربي في الهلال السوري الخصيب. وقبل أن نقع فريسة «أسطورة سيزيف»، الذي كُتب عليه أن يدحرج الصخرة من أسفل الجبل إلى أعلى قمة فيه، وما أن يصل «سيزيف» بصخرته إلى القمة حتى تتدحرج الصخرة نزولاً وعليه أن يُعيد الكرَّة المرَّة تلو المرَّة وذلك إلى ما لا نهاية.

فهل سيعيش مجتمعنا ترددات هذه الأسطورة؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى