نتنياهو بين تصريح عباس والضحيّة الحقيقية للمحرقة
تحسين الحلبي
كتب أفيعاد كلاينبيرغ، الصحافي «الإسرائيلي» في صحيفة «يديعوت أحرونوت»، قبل أيام قليلة، أن التصريح الذي أطلقه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وقال فيه: «إنّ المحرقة التي وقعت لليهود هي أبشع جريمة عرفتها الإنسانية في زمننا الحديث « لم يبد نتنياهو نتنياهو إزاءها الترحيب المطلوب، رغم أن عباس أعلنها بالعربية وليس بالإنكليزية فحسب، وهو الشرط الذي فرضه نتنياهو على عباس في موضوع الاعتراف بـ»المحرقة» منذ وقت. ويكشف المحلل «الإسرائيلي» كلاينبيرغ أنّ نتنياهو وحكومة «إسرائيل» وحدهما المخوّلان بتحديد كيفية وزمان استخدامهما مثل هذه الاعترافات أو التنازلات في ميدان العلاقات العامة واتجاهات توظيف التصريحات في المكان والزمان المناسبين، وهذا ما لم يعرفه عباس الذي كان يتوقع ردّ فعل إيجابيّاً بارزاً من نتنياهو على الاعتراف والوصف الفريد.
يبدو أنّ رئيس السلطة الفلسطينية لا يعرف أنّ تصريحه هذا سيصبح أحد الوثائق التي ستضمّها ملفات المفاوضات الفلسطينية «الإسرائيلية»، وسوف تستلزم منه متطلبات وتنفيذ شروط شديدة الارتباط بها، بل أن هذه المتطلبات ستشكل خدمة مجانية مؤلمة وقاسية للفلسطينيين الذين لا يستطيع أحد في العالم أجمع التشكيك في أنهم ضحية حقيقية للحركة الصهيونية ولكلّ من تبنى أهدافها ودعمها على تحقيق هذه الأهداف العنصرية التي يفوق وصفها أي وصف في تاريخ جرائم الحرب المؤكدة. فـ«إسرائيل» فرضت على كل دولة اعترفت بالصيغة التي وضعتها للمحرقة وعدد ضحاياه شروطاً مرافقة أهمها:
1 ـ منع أي مواطن في هذه الدولة من نفي وجود المحرقة أو العدد الذي حدّدته الحركة الصهيونية لضحاياها ستة ملايين ومعاقبة من ينفي المحرقة بموجب قانون عقوبات ساهمت في وضعه «تل أبيب».
2 ـ منع نشر أي مطبوعة أو رأي ينفي المحرقة أو يشكك في أرقامها أو يحاول تفنيد المعلومات والمطبوعات التي نشرتها الحركة الصهيونية عنها.
3 ـ الخضوع لزيارة متحف «يد فاشم» أي «يد واسم» ووضع إكليل من الزهور على نصب تذكاري للضحايا.
4 ـ تدريس مادة «المحرقة» في المناهج التعليمية من الابتدائية حتى الثانوية، بموجب الصيغة التي تقدمها «تل أبيب».
الملاحظ أنّ الحركة الصهيونية فرضت على دول أوروبا وأميركا معاقبة كلّ من يتعرض للمحرقة بالتشكيك والتفنيد، وحوكم عشرات في أوروبا من الكتاب وزجّ بعضهم في السجن مثل ديفيد إيرفينغ الكاتب البريطاني المشهور. وستطالب «تل أبيب» جميع الدول العربية بتدريس المنهج نفسه المفروض على الفلسطينيين الذين يمثلون الضحية البارزة والواضحة لهذه الحركة الصهيونية منذ قرن تقريباً بكل ما حملته لهم من مذابح بعدما سلبت لهم وطناً كاملاً بكل ما فيه من تاريخهم ومسحت عنه هويته الوطنية وتراثه الديني والاجتماعي والتاريخي.
فنحن عرباً وفلسطينيين لا علاقة لنا بـ«المحرقة» التي يتحدثون عنها، بل إننا كنا في زمنها نفسه في الأربعينات نتعرض لمذابح على أيدي المنظمات الصهيونية التي كانت تسلب أرضنا داخل فلسطين وتحوّلنا إلى ضحية حقيقية لمجرمي الحرب الصهيونيين اليهود، وهي المنظمات نفسها التي ستطالبنا الآن ونحن الضحية للعنصرية ذاتها والتطهير العرقي نفسه، أن ننحني أمام متحف «يد فاشم» الذي بنته فوق أرضنا السليبة وجثث شهدائنا باسم «المحرقة».
السؤال المطروح هنا: لماذا ونحن ضحية الصهيونية قبل ما يسمى بـ«المحرقة» لم ننشئ في عواصم الدول العربية نصباً لذكرى ما حدث في نكبتنا وما بعدها من جرائم ارتكبتها «إسرائيل»، ولماذا لم نفرض على العالم كلّه الاعتراف بنكبتنا وتدريسها في المناهج ومعاقبة كل من ينفي وجودها ووجودنا. فالجلاد الصهيوني لم يعترف حتى الآن بنكبتنا ولا بأي صيغة أو طريقة، بل عرضنا على العالم «مغتصبين لفلسطين»؟! وها هو يريد منا الآن الاعتراف بأنه ضحية «محرقة» كان أثناءها ينفذ ضدّنا في فلسطين مشروع أشرس وأفظع «محرقة» إبادة في التاريخ.