أهالي القرى المحاذية لعرسال يؤكّدون أن لا أحد يستطيع إلغاء التاريخ والعبث بالجغرافيا في البقاع الشمالي ـ الهرمل… شعبٌ يتقن صوغ النصر
تحقيق ـ عبير حمدان
أن تقف عند «ملفى الغيم» وتترك العنان للعين كي تضمّ تلك البقاع الرحبة، فهذا فِعل وجود. وتبدو التلال قاب قوسين أو أدنى من لحظات الحسم. طبيعة الأرض لا تنفصل على أصحابها، جميعهم يتمسّكون بالسنابل المتمايلة وأشجار الخوخ والتفاح والمشمش، حتى حبّة قمح الأخيرة، والثمرة الأخيرة الملفوحة من الشمس.
بين تفاصيل القرى المحاذية لخطّ النار، حكايا كثيرة وإرادة أكبر، فالحياة وقفة عزّ وفقاً لقناعاتهم. لذلك، هم لن يتركوا قراهم ولن يسمحوا لأيّ طامع بولاية وهمية أن يحرق أرزاقهم ولو اجتمع الكون بأسره ليقاتلهم. يقولون في أمسيات السمر التي تأتي بعد نهارات العمل، إنّ أموال النفط الخليجي ولو اتّحدت مع أطماع دول الاستعمار الداعية إلى ولادة شرق أوسط جديد، لن تثنيهم عن حماية أرضهم وحضارتهم وتاريخهم. هنا نلمح صدق التلاحم بعيداً عن إسقاطات السياسة. والصمود قوامه الإيمان بالقضية ولا شيء سواه، تبدو السماء أقرب حيث يتفيأ مزارع أشجار بستانه، وحيث يسير راعٍ بمحاذاة أغنامه، وحيث يحمل الأطفال أقلامهم ليكتبوا حروف الأيام الأخيرة من عامهم الدراسي بانتظار شهادة النجاح.
يشرّع سهل البقاع الشمالي قلبه لمن يدرك قراءة التاريخ بحروف من نار ونور، ويضمّك نسيجه الاجتماعي بقوة، قلِّة قليلة من الناس فيه يسيطر عليها من يتقن التحريض على منابر الفتنة، والغالبية الساحقة تتمسك براية المقاومة حتى الطلقة الأخيرة. ولأنها مجبولة بالطيبة، تسعى إلى استيعاب القلِة الضالة بعزيمة لا تلين. من الصعب أن ترى أيّ مظهر للتسلّح، ولكن هذا لا ينفي أن العيون الساهرة على أمن أهل المنطقة تراقبك، ولعل حضورها يبعث بالطمأنينة.
لا يمكن حصر المقاومة بإطار فئوي، فهي وليدة هذا الشعب بمختلف مشاربه الدينية والحزبية، هذا ما يؤكده أهالي القرى بدءاً من النبي عثمان وعرسال والعين ورأس بعلبك والقاع، وصولاً إلى الهرمل وما بعد حدودها الجغرافية، حيث التداخل واقع طبيعي اعتاده أبناء هذه الأرض، ولم يلغه التقسيم الذي فرضه الاستعمار تمهيداً لاغتصاب فلسطين.
عند مشارف الغيم، رأينا المقاومين يعبرون برايات النصر، فأدركنا أن على هذه الأرض لا مستقرّ للغزاة، حملنا أوراقنا وآلة التسجيل، فتفوقت عدسة الكاميرا على اللغة. ما حفظناه في إطار مصوّر يشكل رصيداً لتحقيق صحافي يتماهى مع قرى المواجهة من لبنان إلى سورية، ولكن ما حفظته العين يتناغم والوريد المتقد غضباً أمام جرح بلاد الشام النازف. ومن لم ير، لا يسعه أن يروي قصصاً افتراضية عن شعب يبرع في صوغ النصر ولو أنكره المارقون.
«البناء» لامست سلسلة جبال لبنان الشرقية لتنقل المشهد الاجتماعي ـ الإنمائي المقاوم بالتزامن مع معركة الجرود وبعض خفاياها العسكرية.
رأس بعلبك حسمت أمرها
يلاقينا رفعت نصر الله، ابن رأس بعلبك، بالترحاب. في منزله يسكن الوطن كما رسمته أغنيات الزمن الجميل، نرتشف القهوة ونسترق النظر حيث تتوزع الصور، وكأن ابتسامة سيد المقاومة تحدّثنا، ووجه حمزة الحاج حسن يخبرنا عن أصالة المكان إلى جانب السبحة المتدلية من عنق الصليب، يقابلها ذاك العماد قائد النصرين. مضيفنا يختصر المشهد بنبرة الواثق فيقول: «أنا من أهل المقاومة وجمهورها، وأنحني أمام شهداء هذه المقاومة وأفتخر بإنجازاتها. أنا لبناني أعيش في هذا المشرق، وصحيح أنني مسيحيّ، لكن إنجازات المقاومة تزيدني عزماً وشرفاً. ومن يهاجم هذه المقاومة غامزاً من قناة ما حصل في 7 أيار، أقول له، قبل هذا التاريخ هناك 5 أيار، وجميعنا نعلم ما حصل في حينه. وما يجري الآن حساب مفتوح منذ 2006، وفي مكان ما يرتبط بإنجاز 2000. هذا الاستكبار العالمي المتمثل بالولايات المتحدة الأميركية التي يمكن تشبيهها بالأخطبوط الساعي إلى التمدد في كل مكان، لم يتقبل حقيقة أن فئة قليلة مؤمنة بقضيتها تمكّنت من تغيير مسارها، وكان التحول المفصلي في تموز وآب 2006».
لكن هل لرأس بعلبك خصوصية؟ يجيب نصر الله: «خصوصية رأس بعلبك أنها حسمت أمرها بالغالبية الساحقة أنها جزء من بعلبك ـ الهرمل، وجزء من الوطن. وبالتالي، إذا ربحت المنطقة المعركة ستربحها معها، وإن خسرتها لا سمح الله ستكون الخاسرة. هذه المعركة معركتنا، وأنا لم أذهب إلى أي مكان، أنا هنا في أرضي، ولكن هؤلاء القادمين من الشيشان وأفغانستان وكل دول العالم ماذا يفعلون هنا؟ هل يمكن لمن يدّعي أنها ليس معركتنا أن يخبرني ما الذي يفعله هؤلاء المرتزقة في جرود قريتي؟ بالأمس كانوا على بعد ستة كيلومترات من رأس بعلبك، قريتنا تعرّضت للقصف وخُطف أبناؤها، وأرزاقها مهددة باستمرار، لدينا 2400 سهم من الأرضي التي ورثناها عن أجدادنا، ليتفضل كل من يعتلي المنابر ويطلق البيانات حول النأي بالنفس، ويرافقنا إلى أراضينا التي لا يمكننا الوصول إليها».
ويؤكد نصر الله أن «أهل الراس» كما يطيب لأهالي البلدة والمنطقة أن يسمّوهم ، لم يختاروا الحرب، لكنهم لن يسمحوا لأحد بالاعتداء عليهم، فيقول: «نحن لسنا هواة حرب ولا نفتح الجبهات على حسابنا ومزاجنا، ولكننا مهدّدون في أرضنا وناسنا وأعراضنا وكنائسنا. أنا لا أحتاج إلى إذن كي أحمل سلاحي وأحمي منزلي، وفي النهاية لا أحد يخسر الحرب بإرادته. واجبنا أن نقاتل من يعتدي علينا، ومن لا يريد القتال فهذا شأنه. نحن أمام مقولتين: الأولى تدعونا إلى المواجهة، والثانية تدعو إلى التخاذل، ومن الطبيعي أن نختار المواجهة».
وعن علاقة أهل رأس بعلبك بالنازحين السوريين يقول نصر الله: «من لجأ إلينا طلباً للأمن أهلاً وسهلاً به، إنما من يتبنّى الفكر التكفيري ويسعى إلى التعاون مع دعاته، فلا نحتاج إلى إذن كي نحاسبه، والقوى الأمنية كفيلة بذلك».
ويختم نصر الله بكلمة مختصرة إلى وسائل الإعلام فيقول: «الإعلام الذي يقف مع محور الشرق الأوسط الجديد جَهُد في تشويه الحقائق بشكل مؤذٍ، وظلم أهل المنطقة كثيراً، وهذا يدخل في إطار الحرب المفتوحة بين محورين. أما وسائل الإعلام التي تُصنّف في خانة محور الممانعة، فيؤسفني القول إنّها قصّرت ولم تتمكّن من مجاراة الواقع كما يجب».
العرجا: العدو المستفيد الوحيد
يعتبر وجدي العرجا، ابن رأس بعلبك، أن من لا يعرف هذه الأرض لا يحق له إطلاق المواقف. ويؤكد أن الخلاص الوحيد لأهالي رأس بعلبك والقاع يتمثل بالمقاومة حتى اللحظة الأخيرة فيقول: «لولا المقاومة لكان المشهد الأخير الذي رأيناه في إدلب قد تكرّر هنا. ومن يقول إننا بمنأى عمّا يحصل في سورية، شخص معتوه بكل ما للكلمة من معنى، وهو طائفي ومذهبي ومعتوه سياسياً».
وعن عرسال يقول العرجا: «عرسال محتلة، هذه القرية يبلغ عدد أبنائها 45 ألف نسمة في مقابل 200 ألف نازح على أراضيها، ناهيك عن المسلحين المنتشرين في جرودها. وقد يكون من حضن هذه المجموعات التكفيرية قليلين، لكن جزءاً كبيراً من العراسلة مغلوب على أمرهم ومحاصرون ومهدّدون في أرزاقهم وأعراضهم ولقمة عيشهم. وكل من يعمل على التجييش الطائفي يسيء إلى أهالي عرسال، والمستفيد الوحيد مما يحصل هو العدو الإسرائيلي».
أما عن القوى الحزبية الفاعلة على الأرض فيقول العرجا: «للأسف، في ظل الانقسام الحاصل لا وجود لكل القوى الحزبية على الأرض. ومن يقاتل اليوم في الجرود فعلياً حزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي، وأنا مسؤول عن كلامي. وأهل القرى لن يبرحوها وسيدافعون عنها، التعايش يحكم هذه المنطقة ولو أن رأس بعلبك قرية مسيحية، لكنها لا تنفصل عن محيطها الاسلامي. فنحن نسيج متكامل. وأكثر من ذلك، أقول لك إن الروايات التاريخية المتناقلة بين الأجيال تشير إلى أن رأس الحسين ابن علي بن أبي طالب ـ حين عبر موكب السبايا ـ مرّوا به من هنا. وأجزم أننا لم نشعر يوماً أن حزب الله ـ بما يمثله على الأرض ـ يفرض على ابن الراس أو القاع أي نمط حياة، ولم يتدخل إلا في الإطار الاجتماعي، إذ كان يعطي من هم بحاجة، من دون المجاهرة بعطاءاته».
منصور والاستعداد الكامل
يؤكد توفيق منصور، مدير مديرية رأس بعلبك في الحزب السوري القومي الاجتماعي، أن حماية المنطقة أولوية لجميع أبنائها فيقول: «نحن على كامل الاستعداد لصدّ أي اعتداء. ونعمل على رفع معنويات الناس بشكل كبير في إطار المواجهة المحتملة. أما التنسيق العسكري فيتم مع سرايا المقاومة والأحزاب الوطنية في المنطقة. والغالبية الساحقة هنا تدرك مدى خطورة هذه الجماعات التكفيرية، وفي ما يتصلّ بعرسال، المشكلة الحقيقية تكمن في الفريق السياسي الذي يعمل على إثارة النعرات المذهبية وتغيير الواقع وفقاً لمصالحه الفئوية. المعركة الأخيرة ستكون في جرود رأس بعلبك والقاع، ونحن مستعدون لها وسنحقق النصر بهمة شباب هذا الوطن».
القاع وعقيدة الدفاع عن الأرض
يؤكد الياس التوم، منفذ عام منفذية البقاع الشمالي في الحزب السوري القومي الاجتماعي، أن الأمن الذاتي حالة استثنائية قد يلجأ إليها أهالي المنطقة، ولكن تبقى الكلمة الفصل للجيش اللبناني الموجود اليوم على الأرض لحماية هذه القرى وعن ذلك يقول: «القاع هي نموذج حي للتعايش في بلد سيطر عليه شبح التقسيم الطائفي والمذهبي. نحن لا ننفصل عن محيطنا، لا بل هناك تداخل بين أهالي القاع والقرى المحيطة بها. وما نعيشه اليوم يعني كل اللبنانيين بمختلف انتماءاتهم. وعلاقتنا بجميع الأحزاب الوطنية والمقاومة جيدة جداً. هذه المقاومة التي حققت الانتصار ولم تزل تدافع عن قرانا تستحق أن نقف إلى جانبها، وحزب الله استشهد شبابه في أراضي القاع، وهذا يكفي كي نحتضنهم. فالدماء التي سالت روت تراب حقولنا لنبقى هنا. هذه المعركة معركتنا جميعاً ولو نجح أي تسلل لهذه المجموعات إلى قرانا لكان المشهد مرعباً جدّاً، ولا يُخفى على أحد أن في مخيمات النازحين بيئة حاضنة لهذه الجماعات، وهنا تكمن الخطورة. أضف إلى ذلك أنّ لدينا فريقاً سياسياً معروفاً لدى الجميع، يشجّع هذه البيئة الحاضنة، سواء كانت من النازحين السوريين أو بعض اللبنانيين المستفيدين مما يحصل للأسف. نحن في القاع نثق بالجيش اللبناني والمقاومة وجميعنا مستعدّون للدفاع عن أرضنا».
الحياة تسير بوتيرة طبيعية وأهالي القاع لا يبدو عليهم الخوف، هم يتسامرون في المقاهي ويحضرون المؤونة كما كل موسم، ويبتسمون للضيف القادم ولو كان يحمل آلة التسجيل. ومع النساء اللواتي يتحلّقن لرصف «ورق العريش»، تصبح الصورة أجمل.
جورج نجيب عوض، أحد أبناء بلدة القاع، يؤكد أن الجميع هنا متفقون على رأي واحد وهو الدفاع عن الأرض فيقول: «جميعنا في القاع مستعدون للدفاع عن أرضنا وأعراضنا وبيوتنا، وهذا دفاع عن حدود الوطن قبل كل شيء. وأي تهديد يأتينا من الخارج، خصوصاً من جبهة النصرة وداعش، نحن جاهزون لردعه والتصدّي بعزم وإرادة بمختلف أطيافنا وقناعاتنا. نحن ندعم جيشنا الذي يقف على خطوط المواجهة ولا نخشى شيئاً بوجوده، وسنبقى فوق هذه الأرض مهما حصل».
تثق نساء القاع بأننا شعب لا يُهزَم، وفيما هن منهكمات برصف «ورق العريش» ومن دون أي تعريف شخصي، يتحدّثن سوياً وبوتيرة حازمة فيقلن تباعاً: «نحن لا نخشى شيئاً، هذه قريتنا ولدنا فيها وسنبقى فيها. ونحن مع كل من يحمي قريتنا، لا بل نسهر على راحته ونحضّر الطعام للشباب المرابض في الجرود وندعو له بالنصر».
الأب نصر الله
يشير الأب ليان نصر الله ـ كاهن رعية القاع ـ إلى أهمية التفاعل بمحبة بين رعيته والمحيط ويتحدث عن العلاقات التاريخية التي تربط بين بلدة القاع وباقي أبناء المنطقة فيقول: «الدين المسيحي دين تسامح ومحبة. والقاع تاريخياً ارتبطت بمحيطها ضمن علاقات محبة وتفاعل حقيقي، وما تشهده سورية منذ سنوات أثّر بشكل سلبي على بلدتنا من حيث عدم قدرة المزارعين على العمل في أراضيهم التي تعرّضت للقصف، إضافة إلى حجم النزوح السوري الذي ترك أثره الاقتصادي على البلد، ناهيك عن غياب الدولة اللبنانية التي لم تنظم هذا النزوح بشكل جيد. والأمر المستغرب أن بعض هؤلاء النازحين شكّل بيئة حاضنة للمسلحين التكفيريين المنتشرين اليوم في جرودنا وهذا أمر مؤسف. نحن ندعم جيشنا اللبناني، وإذا شعرنا أننا مستهدفون بشكل مباشر سنقاتل إلى جانبه».
وعن الأحزاب الموجودة على الأرض يقول نصر الله: «في هذه المنطقة لا تفرقة، وجميعنا أبناء هذه الأرض ولا نخشى الوجود العسكري لحزب الله وباقي الأحزاب الوطنية التي تدافع عن الحدود. لا بل على العكس، نحن نمنحهم ثقتنا ودعمنا. وأحبّ أن أشير إلى أن الانقسام الذي عشناه في وطننا خلال الصراعات الأهلية، لم يصل إلى منطقتنا ولم يلغ علاقات المحبة بين قرانا. الأديان بريئة من الصراعات. ومن يقتل الأبرياء بِاسم الدين أجزم أن الدين منه براء، كل الأحزاب الوطنية في المنطقة موجودة لحماية القاع والقرى. وفي تشرين حصل تسلل إلى مزارع القاع، وكان أبناء الهرمل وشباب حزب الله موجودون إلى جانب أبناء القاع لصدّ هذا الهجوم. هذه هي الصورة الحقيقية للمنطقة وستبقى كذلك على الدوام».
هل يعتبر الأب نصر الله أن عرسال محتلة؟ يجيب: «نحن نعرف أهالي عرسال جيداً، هم يعيشون معنا وبيننا وفي مدارسنا منذ زمن، وأنا كنت أزور عرسال ليلاً ولا أخشى شيئاً. أهالي عرسال مغلوب على أمرهم، والأعداد الكبيرة من المسلحين والإرهابيين في بلدتهم تصادر قرارهم وإرادتهم، جميعنا نعرف كم قدّمت عرسال من شهداء لهذا الوطن، وهي اليوم تحتاج لأن تعود إلى حضن هذا الوطن».
قلعة الصمود والتحدّي
ندخل إلى قلب الوطن من بوابة الصمود الآني، في قرية النبي عثمان ـ قلعة الصمود والتحدّي كما تعُرف لدى الكبير والصغير ـ ورشة عمل نسائية بامتياز. فكما باقي قرى البقاع، اجتمعت نساء النبي عثمان ليشحذن الهمم، ويحضّرن الطعام للشباب المرابضين في الجرود، ونحن زرنا البقاع قبيل حلول شهر الصوم بأيام معدودة، لكن هذه الورشة ستستمر بحسب النساء الماجدات طالما اقتضى الأمر منهن ذلك. من كلّ الأحزاب أتين، محجّبات وغير محجّبات، كلّهن يشمّرن عن السواعد السمراء، لتحضير وجبات غذائية لرجال الله في الميدان.
لا يختلف النبض في النبي عثمان ومحيطها. ولسان حال الأهالي نفسه. هم يجزمون أن كل القرى المحاذية لضجيج المعركة تستعد ليوم الحسم والنصر، ولا يفرقها أي بيان سياسي مشبوه أو مرتهن للإستعمار القديم الجديد.
لا تخشى حوراء حسن 7 سنوات ، من التكفيريين. فهي تثق بمن يحمي القرية وتقول بكل براءة: «لا أخاف من أحد بوجود المقاومة وشبابها، وأنا أحب شباب حزب الله وباقي أحزاب المقاومة لأنهم يحموننا. ولن نترك قريتنا مهما حصل، وأنا أحب أن أزور شباب المقاومة في الجرود، وحين يحررونها سنزورهم».
طي: التخاذل يخدم العدو
من جهته، يؤكد خليل طي حركة أمل أن ما يحصل لم يكن في الحسبان قبل الأزمة التي تعيشها سورية ويقول: «لم نكن نتوقع أن نصل إلى هذه المرحلة، وهذه الجماعات التكفيرية خطر حقيقي على المنطقة بكاملها. لكن بوجود المقاومة والجيش اللبناني لا نخشاهم. نحن في حركة أمل نشارك كل الأحزاب الوطنية في حراسة القرى والقتال ضدّ كل من يفكر بالاعتداء على أرزاقنا. وكوني ابن حركة أمل، أتوجه برسالة إلى كل إنسان شريف، أدعوه فيها إلى دعم المقاومة والجيش اللبناني حتى تحقيق النصر. فهذه المعركة معركتنا جميعاً، ومن يتخاذل اليوم إنما هو يخدم العدو الإسرائيلي وعملاءه، وفي ذلك خيانة فاضحة للوطن».
الحجيري: نحن بين أهلنا
حماسة الشاب محمد الحجيري حثّتنا على الإصغاء. فهو أراد وبإصرار التعبير عن رأيه بالحوادث التي تعيشها المنطقة. وبعفويته قال: «أبي في العمل، ولكنني أستطيع أن أجيبكم على أسئلتكم وكأنه موجود، نحن تركنا عرسال لأن الحياة أضحت صعبة هناك. فقد وصلنا إلى مرحلة لا يمكن لأي أحد أن يخرج من منزله. بيتنا تعرض للقصف أكثر من مرة، وأظن أن المسلحين دخلوه بعد خروجنا منه، أنا أتمنى أن يأتي أعمامي جميعهم إلى هنا ويعيشوا معنا بين أهلنا وناسنا في النبي عثمان. وبوجود الجيش وحزب الله لا نخشى شيئاً ولا أحداً، ونحن على ثقة بأنهم سيحموننا من الجماعات التكفيرية وسينتصرون عليها».
الأهالي
زينب نزهة، لا تخاف من المعركة الدائرة، وتجيب بكل ثقة: «لا شيء نخشاه، ومن تمكّن من هزيمة إسرائيل سيحقق النصر اليوم على الجماعات الإرهابية المتطرّفة المجرمة. المقاومة والجيش ضماننا الوحيد، وإذا اقتضى الأمر أن نحمل السلاح سنحمله ونقاتل إلى جانب الشباب، ولن نترك قرانا مهما حصل».
أما شادي نزهة، الذي يحمل الجنسية الألمانية إلى جانب جنسيته اللبنانية، فيؤكد أنه باقٍ في النبي عثمان مهما حصل. ويتوجه إلى كل السياسيين الذين يعتلون المنابر ليهاجموا المقاومة بالقول: «الأمر الأخير الذي نفكر به هو داعش وأمثاله لأننا لا نخشاهم، إنما عتبنا على السياسيين الذين يعتلون المنابر للتحريض على المقاومة وشعبها، لقد تناسوا كيف تعرضت قرانا للقصف وتناسوا السيارات المفخخة وكل الشهداء الذين سقطوا والجرحى، كل ما حصل هنا لا يعنيهم، وجلّ تركيزهم على ذهاب المقاومة إلى الجرود، هذه المقاومة قصدت الجرود لتحمي الوطن وتردع الموت القادم برايات التكفير والتطرّف وقطع الرؤوس وبقر البطون وأكل الأكباد. في أميركا وأوروبا يخشون الإرهاب الموجود في الشرق الأوسط، ونحن هنا على قاب خطوة واحدة من الإرهاب لا يحق لنا الدفاع عن أنفسنا والتصدي له. كل من يقول أن المعركة ليست معركتنا هو صاحب فكر خليجي أو أميريّ ملكي ولا يحق له الكلام بِاسمنا، من يرسل أولاده إلى الخارج للاستجمام ويجلس في المنازل الفخمة تحت جهاز التبريد، ليس مثل أهالي النبي عثمان والعين والفاكهة والقاع ورأس بعلبك وكل القرى المواجِهة، فليأتِ هؤلاء إلى هنا وبعدئذٍ سنرى ماذا سيقولون».
أما عن النزوح السوري فيقول شادي نزهة: «سأخبرك أمراً قبل أن أتحدث عن النازحين السوريين. أنا لبناني، وفي الوقت نفسه مواطن ألماني، إذ ذهبت إلى المانيا كلاجئ. كنت أقيم ضمن نطاق تحدّده الدولة الألمانية ولم أتخطاه، لا بل احترمت القوانين. ما يحصل هنا أن جزءاً كبيراً من النازحين صار يقاسمنا إن لم نقل يأخذ القسم الأكبر من لقمة عيشنا. والمطلوب من دولتنا تصحيح هذا الخلل، لكن منذ البداية كان النزوح بلا حسيب أو رقيب. لا أنكر أن هناك من هرب رغماً عنه من جرّاء الحرب الدائرة، ولكن هناك جزءاً لا يُستهان به منهم خان بلده. وهذا رأيي الشخصي، ومن يخون بلده لا يمكن أن أشعر بالأمان قربه».
ويعتبر نزهة أن الإعلام يتبع لأهواء من يموّله وسياسته، وعن ذلك يقول: «الإعلام لم ينصف المنطقة كما يجب، هناك جزء كبير من وسائل الإعلام تصرّ على تصوير عرسال وكأنها الضحية الوحيدة في المنطقة. وهنا أحب أن أشير إلى أن مستلزمات عرسال المعيشية والإنمائية تمرّ من هذه القرى التي تتجوّلين فيها. ولو كانت الصورة معكوسة لكانت عرسال قطعت علينا طريق الخدمات والماء والكهرباء. لأن فيها بيئة حاضنة للمسلحين. وهذا الأمر سمعناه على المنابر وفي أكثر من وسيلة إعلامية».
ويؤكد نزهة أنه جاهز للمعركة إلى جانب المقاومين إذا ما اقتضى الأمر ذلك، فيقول: «حين نشعر أن الخطر أضحى وشيكاً سنكون مستعدّين له، وسنحمل السلاح إلى جانب المقاومة والجيش، ولن نلتفت إلى ما يروّجه الطاقم السياسي من خطابات تحريضية وفتنوية، حربنا مع المتطرفين الإرهابيين، لا مع أي أحد آخر».
الهرمل تُسقط حدود الاستعمار
تسير الحياة في الهرمل بوتيرة طبيعية. هذه المدينة التي قدمت الشهداء على محراب الوطن لم تسلم من الإرهاب في مرحلة سابقة. ولكنها تأبى وناسها الانكسار. في الطريق إلى قلب مدينة الشهداء كما يسمّونها، نرى ورش العمل الإنمائية والتمديدات الكهربائية والمائية، ويصلنا صوت صخب الأطفال عند ضفاف العاصي وزحمة المقاهي المنتشرة على ضفتيه، وتدعونا الجغرافيا المتداخلة إلى متابعة جولتنا إلى ما بعد منطقة «القصر»، لنلامس أطراف حمص من مشارف البساتين المثمرة. لكن قبل الوصول إلى القصير وقراها، كان لنا لقاء مع منفذ عام الهرمل في الحزب السوري القومي الاجتماعي محمد الحاج حسين، الذي وصّف لنا المشهد في قرى المواجهة بالقول: «أبدأ من عرسال لأؤكد أنها منذ القِدم هي بيئة حاضنة للمقاومة. ومنها انطلقت المقاومة الوطنية ولا يمكن أن تُتّهم بأنها تحضن الإرهابيين، لكن ما يحصل اليوم أن هناك جزءاً من العراسلة مغلوب على أمرهم بسبب وجود الجماعات التكفيرية في جرودها، ومنهم من وصل إلى بيوتها. حتى أن الكمّ الهائل من النازحين أثّر بشكل سلبي على واقع البلدة. وبين هؤلاء مسلحون للأسف، وهناك قلة من العراسلة مع هذه الجماعات لكن الغالبية تؤيد المقاومة بكامل أطيافها وتدعمها. المعركة بدأت الآن في كامل السلسلة الشرقية، والهرمل ستتأثر بالطبع بتداعيات ما يحصل. هذه الجماعات تنفّذ مشروع خارجي استعماري لا يتعارض مع المشروع الإسرائيلي، إسرائيل هدفها ضرب المقاومة وكل عناصر القوة والامكانيات الموجودة في هذه الأمة كما هؤلاء التكفيريين. الهرمل قدمت الشهداء وقاومت الاستعمار والاحتلال، ونحن كحزب سوري قومي اجتماعي موجودون على الأرض وفي الجبهات، وهذا أمر لم يعد خافياً على أحد ولا نخجل به».
لكن، هل عرسال مستهدفة بشكل فئوي كما يتم التسويق سياسياً وإعلامياً من قبل شركاء لنا في الوطن؟ يجيب الحاج حسين: «نحن لا نفكر على الإطلاق بشكل فئوي ومذهبي، وحزبنا عابر للطوائف والمذاهب وموجود على كل مساحة الوطن. أهل عرسال أهلنا كما أهل الهرمل، وكما قد يكون هناك أناس في عرسال يحضنون الإرهابيين، ربما نرى في الهرمل من لا يؤيد أفكارنا ونهجنا المقاوم. خلال الاحتلال الإسرائيلي في الجنوب اللبناني كان هناك عملاء أيضاً، ولكن الغالبية الساحقة كانت من الناس الشرفاء والمقاومين. لذلك من المستحيل أن تكون المعركة مذهبية، وفي عرسال سقط شهداء في مواجهة التكفيريين».
وعن الوضع الاقتصادي في المنطقة يقول: «في ما يتصل بالوضع الاقتصادي الصعب في المنطقة، لا يمكن أن نلقي باللوم على النزوح الكبير من سورية إلى لبنان فحسب، وموضوع النازحين متشعب جداً ويطول شرحه. منذ بداية الأزمة في سورية، بدأ التردّي الاقتصادي يطرق الأبواب في الهرمل والبقاع الشمالي بشكل عام. لأن لمنطقتنا ارتباطاً بحمص والقصير أكثر من الارتباط ببعلبك وبيروت. وهذا الارتباط يُسقط مقولة النأي بالنفس التي يروّج لها البعض، هنا لا حدود بين لبنان والشام، ولا يمكن أن يكون هناك فصل بين البلدين، منذ العشرينات قال سعاده إن المسألة اللبنانية هي مسألة شامية في الصميم كما إنها مسألة فلسطينية في الصميم وعراقية أيضاً في الصميم. ما يحمي الشام اليوم المقاومة في العراق إذا ضُربت هذه المقاومة هناك ستتأثر الشام وإذا تم ضربها في الشام سنتأثر في لبنان، إنه محور واحد ومترابط من لبنان إلى الشام والاردن وفلسطين».
وعن الفرق بين معركة القصير ومعركة الجرود يقول: «المعركة تبقى معركة في كل أحوالها، هذه الجماعات تملك الدعم الدولي الأوروبي والأميركي وحتى العربي ولديها تمويل مالي ضخم حتى أن أسلحتها متطورة جداً. وفي المقابل نحن نملك سلاح الإرادة. والحزب الذي استعمل سلاح الأجساد من المستحيل أن يركع أمام هذه الجماعات المسلحة، الحزب الذي ضم سناء محيدلي ووجدي الصايغ ونورما أبي حسان ومالك وهبي وخالد الأزرق لا يمكن أن يسمح للإرهابيين بالدخول إلى المنطقة. هذه المنفذية الموجودة هنا، وهي معنية بكل تفاصيل المعركة كما منفذيتَي العاصي والبقاع الشمالي. في النهاية نحن حزب موجود وهناك تنسيق تام بيننا وبين حزب الله الموجود في الجبهة بشكل مباشر، وأيضاً يتم التنسيق مع الجيش اللبناني الذي يلعب دوراً أساسياً في مواجهة الأرهاب. وهناك وجود لباقي الأحزاب الوطنية كلٌ بحسب قدراته وإمكانياته، والجميع جاهزون للحسم».
حوض العاصي
ننطلق من الهرمل إلى قرى حوض العاصي والقصير، وقبيل عبورنا نسأل عن الورشة القائمة، فيجيبنا أحد المواطنين المعنيين: «ما ترونه من أعمال حفريات وتمديدات يدخل ضمن إطار مشروع خط توتر كهربائي ينطلق من محطة تحويل الهرمل بقيمة 800 ألف دولار لتسفيد منه بلدة القاع التي تعاني من نقص في هذا القطاع. وهي من قرى المواجهة، إضافة إلى مشروع كبير تقوم به شركة kva بتوجيهات من مؤسسة كهرباء لبنان ومديرها العام مدير كمال حايك من محطة تحويل اللبوة حتى رأس بعلبك لتستفيد منه كل القرى المحيطة ومنها عرسال
والجديدة وزبود والفاكهة. ومشروع مرافق أيضاً ستسفيد منه مزارع القاع ومدخل الهرمل والشواغير».
في الطريق إلى قرى حوض العاصي، يصعب اختصار المشهد بلقطة مصوّرة. قبل سنتين كانت هذه القرى في مهب المعركة ولكن عزيمة أهل الأرض حققت النصر. وقبل أن نصل إلى ربلة، كانت لنا وقفة في منفذية العاصي في «القومي»، ليستعرض لنا ناظر التدريب حسين الهق الوضع بشكل سريع فيقول: «المتطرفون موجودون اليوم في جرود القرى الممتدة من رأس بعلبك إلى القاع ومزارعها، والمفروض أن تكون الدولة جاهزة للتصدّي لهم. وفي حال غابت الدولة، فإن أهالي هذه القرى سيحمون قراهم. أما هنا وضمن الأراضي السورية، هناك وجود للجان الشعبية والجيش السوري والمقاومة اللبنانية والحزب السوري القومي والجميع حاضرون للمواجهة. هذه المجموعات تحاول أن تعود إلى القصير ومنطقة جوسة ولكنها لن تتمكن من ذلك، الخوف لم يعد عاملاً فاعلاً. اليوم بعد تحرير القصير ومحيطها، الناس متمسكون بالبقاء حتى تحقيق النصر. لا أنكر صعوبة المعركة الدائرة الآن إذ إنّ طبيعة الجرود قاسية لمن لا يعرفها، ولكن إرادة المقاومة أقوى».
وعن الفرق بين «داعش» و«جبهة النصرة» يقول الهق: «داعش من جنسيات مختلفة أجنبية وعربية، ولديه قدرات عسكرية وقتالية كبيرة، ويتفوّق على النصرة من الناحية الإجرامية، كما أنّ عناصره صاروا يعرفون طبيعة الجرود وخفاياها، إنها معركة وجود. وفي النهاية من يملك الحق سيحقق النصر ونحن أصحاب الأرض والحق».
القصير والطريق إلى حمص
حين تدخل إلى قلب الجرح النازف، لا يسعك إلا أن تتحسّس نبض من امتزجت دماؤه بالتراب، وتدرك أن ما تنقله الصور المتلفزة جزء صغير من حجم الهجمة الكونية على بلاد الشام. لكن الحياة تتفوّق على مشاهد الدمار. فالمزارعون يحصدون سنابلهم ويودعونها البيادر، وينتظرون موسم قطاف المشمش والزيتون. والنظام الذي يستهدفه العالم بأسره بِاسم الحرية، يعيد تعبيد الطرقات ويمدّ يده للناس كي ينفضوا غبار الحرب العبثية عن بقايا منازلهم المهشمة. بين أزقة القصير، نلمح الكثير ونقترب من صور الشهداء المنتشرة في كل جانب. فندرك أن الوطن الذي يُنبت مع كل زهرة برّية شهيداً لن تهزّه أموال النفط المتأمركة ولن يهزمه هذا الرتل المتصهين. نعود أدراجنا إلى الهرمل وما بعدها، وفي البال صورة لما قد يبوح به ياسمين الشام لحظة الحسم. ودعاء بأن تلفظ جرود البقاع الشمالي رتل الطارئين معلنة النصر.