عمر الفرّا… غادر طاعناً بالغياب ومشبعاً بالبخور
محمد البندر
وقف عمر الفرّا على حدّ القصيدة والصحراء، متلفحاً عباءة المعنى ومتدثّراً ببُردةٍ سرقها عن كتف عبقر حينما امتلأ الوادي بثغاء الريح وصهيل المسافة بين الصادّ وبين الضادّ.
وقف عمر الفرّا على أعتاب البادية، يرمي ببصره أطراف حمص، ويشير بعصاه على ديوك الجن، ويمسحُ الغبار عن فانوس الصبح ليوقظ ديكاً آخر غارقاً في دماء الورد.
لم تكن آثار تدمر وحدها شاهدة على الأزمنة، ولم يكن في الزمان والمكان نافذةً لزنوبيا سوى أبيات عمر وكلماته وصوته المتهدج، كما المطر الغارق في الأفق البعيد.
لعمر الفرّا الذي أثرى تدمر آثاراً جديدة، قصائد لا تسجلها إلا الأيام ولا تحفظها إلا السنوات، لتدمر التي كانت تسافر عميقاً في التاريخ، وتلبس تاج مملكة الشمس، حتى وقعت سبيّة بين براثن قطّاع الطرق واللصوص وأبناء الزنا. سقطت تدمر فسقط رويّها، وغادرها عمر الفرّا طاعناً بالغياب المشبع بالبخور، ونزل إلى قعر الجبّ ملفوفاً بثوب الرؤية والرُقية، تستعير المسافة من عينيه حبال الضوء إلى الخلاص، ومن دلو المعاني حوض الصعود إلى السماء.
عمر الفرّا لم يترك «حمدة» وحيدة في صحراء الجهل وعتم التقاليد. ولم يدع للأعراف الموغلة في الظلام مكاناً تجتمع إليه وحول القبائل.
تعرّفت إلى عمر الفرّا في أحضان الجنوب اللبناني، والتقينا أكثر من مرّة في أكثر من مناسبة. إذ كنت أواكب الاحتفالات التي يشارك فيها بحكم عملي في مهنة الصحافة والإعلام، أو مدعواً للحضور، ويوم أخبرته أنني شاعر، وكان يرشف من كوب الشاي، توقف وقال لي: لا تدع الشاشة تغيّب قلمك، ولا تدع الأضواء تجفّف منك حبر القصيدة.
كتب القصيدة ومشى، ولكنه سيعود مع كل إيقاع وكل استعارة وتشبيه، لم تأخذه الصورة بل أخذته السورة إلى تلاوة أقدس آيات الحبّ والرفض والعناد.
قرّر عمر الفرّا الرحيل عبر أقرب الأماكن اختصاراً للمسافة الفاصلة بين جسد الأرض وروح الأرض، فعاد إليها كما جاء منها مثقلاً بالنعاس الطويل.
قرّر عمر أن يكون مجاهداً، فكانت قصيدته «رجال الله» إحدى طلقاته العابرة للفوهات والخنادق والمتاريس، وأبى إلا أن يرحل هاتفاً مردّداً:
«قبل رحيلهم كتبوا كتابات بلا عنوان
ستُقرأ في مدارسنا رجال الله يوم الفتح في لبنان».
شاعر لبناني