قراءة نقديّة استعاديّة لفيلم إيليّا سليمان… «يد إلهيّة» تمتدّ وحيدةً إلى الفلسطينيّ في شقائه وغربته
حسام زيدان
حزمة كبيرة من الحب والألم، هي اختصار ما يمكن أن تشاهده في الفيلم الفلسطيني «يد إلهية»، الذي تلزمه قدرة عالية على تركيب الصور والمشاهد، من حب الإنسان الفلسطيني للحياة وطبيعة المكان، ومن ألم يتسبب به الاحتلال الصهيوني للإنسان المحروم من أبسط حقوقه، وفي ظل تعسف، يمنع اللقاء والانتقال بين المناطق. كوميديا سوداء ناجحة بامتياز، برع فيها إيليا سليمان مخرج الفيلم، بتصويره السوريالي المشبع بالرموز والدلالات الناجمة عن المعاناة والألم. فيلم صامت إيحائي، يعتمد على المشاهد والوقائع أكثر من الكلام، وتكاد لا تسمع فيه غير صوت خطوات قدم الأبطال، صمتٌ يشبه ما يعتري الفلسطيني أمام العالم المتجاهل ما يتعرض له على نحو مستمر قهراً وظلماً واضطهاداً. يستند الفيلم إلى سلسلة مترابطة من المشاهد الموجزة المكثفة، لتشكل صورة متكاملة عن حياة يومية يعيشها الفلسطينيّ في الناصرة، وفي المقلب الآخر حياة في حارة فلسطينية تسود فيها علاقات اجتماعية مشوّهة تعاني أمراضاً اجتماعية، مثل الأنانية والانعزالية والفضولية والنفعية.
يحاول المخرج جلد الذات الفلسطينية والعادات والتقاليد الاجتماعية البالية، في مجتمع يعاني ظلم الاحتلال وظلم المجتمع لنفسه وللإنسان فيه.
ولا يخلو الفيلم من المشاهد التي تفجّر العديد من الدلالات السياسية التي تمنح المتلقي القدرة على القراءة الدقيقة لما يريده كاتبه ومخرجه، تحديداً المشهد الذي تسأل فيه سائحة أجنبية شرطياً صهيونياً في أحد شوارع القدس عن بعض الأماكن المقدسة والأثرية، لكنه يعجز عن مساعدتها فيسرع إلى السيارة ويحضر شاب فلسطيني أسير معصوب العينين ليدلها على الطريق بدقة. هذا المشهد بحد ذاته فكرة ثورية متكاملة، إذ برع المخرج بنقل حقيقة أن الفلسطيني هو صاحب هذه الأرض ينتمي إليها انتماءً مطلقاً، وهو أخبر بجغرافيتها وتفاصيلها من الغرباء الذين يدعون حقهم فيها، وأن هذا الصهيوني مهما بقي لن يعرف جغرافيها، ولا حتى طعم هوائها. أما البطلة فتتحوّل إلى فدائية فلسطينية، أسطورية، تقتل من الصهاينة كثراً وتدمر طائرة عمودية، وتتحول الطلقات التي تنهال عليها إلى هالة مقدسة تحوم حولها كطوق من الشوك حول رأسها فيظهر جسدها مصلوباً. رسالة واضحة جداً من إيليا سليمان إلى العالم، بأن الفلسطيني يُصلب ويُعذّب على يد المحتل الصهيوني، تماماً مثلما يورد الكتاب المقدس حول ما تعرض له السيد المسيح الفلسطيني في القدس من صلب وتعذيب، بعدما خانه تلميذه يهوذا الإسخريوطي، وأن هذه الأرض هي لمن صُلب فيها وليس لمن صَلب. هنا اتفق مع المخرج في الفكرة لكني لا أتفق معه في أسلوب تنفيذها، إذ شعرت بأن المشهد دخيل على الفيلم ببنيته التركيبية، تحديداً عندما تؤدي البطلة بعض حركات النينجا التي لا تتناسب مع حال الصمت والسكون المعبّرة التي تسود الفيلم، هذا المشهد المنتج كمبيوترياً يبدو غريباً عن بنية الفيلم. وسط مشاهد الأحياء القديمة والشوارع والحواجز الخشبية البسيطة، والأحياء الهادئة الساكنة. ومن الطبيعي ألاّ ينسى إيليا سليمان أن يذكر الحب، وإن يكن هذا الحب في الفيلم صامتاً، بل شديد التعبير، خاصة عندما روى قصة حب بين شاب فلسطيني من سكان الأرض المحتلة عام 1948 وصبية فلسطينية من سكان الضفة الغربية المحتلة، لا يلتقيان إلا على «المحسوم» أي على حاجز الصهاينة، وعيونهما تراقب الوجع المتناثر على حواجز الاحتلال. الكلام كلّه يرد عندما تتشابك أيديهما في علاقة حسية حميمية. تتقاطع هذه اللقطات بين الحبيبين مع مشاهد الإذلال على الحاجز. ويختم إيليا سليمان الفيلم بمشهد لا يقل رمزية عن السابق، حيث نجد أنفسنا في المطبخ، وعلى النار طنجرة «ضغط» تنفث الدخان، في دلالة على حالة الضغط والاحتقان لدى الشعب الفلسطيني التي لم تصل إلى درجة الانفجار، ليذكرنا بما صنعه الثائر الفلسطيني غسان كنفاني في «رجال في الشمس». «يد إلهية» هو عبارة عن نقوش صغيرة مجمعة في قالب وإطار يشكل صورة عن لا معقولية وعبثية ضغوطاً الحياة اليومية التي تواجه الفلسطيني، من خلال لغة بصرية تبلغ سلوكاً مبالغاً فيه، عارضاً لنا الإنسانية في حالة بغيضة جداً، تحديداً بعد مشهد لرجل يقود سيارته عبر البلدة مبتسماً لكل من يمر به وملوحاً، بينما هو يلعنه ويشتمه بألفاظ نابية وبصوت هامس. يضحكنا هذا الموقف، لكن ما أن يتلاشى الضحك ونفكر ملياً في ما شاهدنا نفقه أن المشهد حزين على نحو مفجع. والجدير ذكره أن «يد إلهية» الذي أنصحك بمشاهدته متوافر في أقراص دي في دي ، من إخراج إيليا سليمان، إنتاج مشترك فرنسي ـ فلسطيني ـ مغربي ـ ألماني، سنة 2001، مدته ساعة واثنتان وثلاثون دقيقة، نال عدة جوائز أهمها جائزة لجنة التحكيم الكبرى وجائزة النقاد العالميين، وجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كانّ السينمائي عام 2002 وجائزة «سكرين» العالمية في مهرجان السينما الأوروبية لفيلم غير أوروبي.