هم الأكثر قرباً… الأكثر إيلاماً

نغم نصر

عندَ عُزلتك عَنهُمُ تَصرُخُ مُنادياً :إليَّ بالرفاقِ أينَ هُمُ؟ مَلَلٌ رَهِيبٌ يَنتابُكَ عِندَ لُقياهُمُ… شَوقٌ فظيع يُجزّئُ شرَايينكَ عندَ ابتعادِكَ عنهمُ… لا يَلتَئمُ جُرحُكَ إلاّ بحضورِهم…

هل تساءلت يوماً عن كنه مفهومِ الجحيم؟

الجَحيمُ هُو أن تكونَ مُحاطاً بِرفَاقِ دربٍ… تَقتلكَ الوحدةُ بَعيداً عنهُم… وعندَ لقياهُم وتأمّل سُكونِهم… وصمت يَكتَنِفُ خُطوطَ وُجوهِهم ، تكتَشفُ أنّ وِحدتكَ القاتلة الّتي عانَيتَ مِنها بِغيابهم أفضَلُ من موتكَ البطيءِ أمام حَرمِ صمتِهم…

حينئدٍ تصلُ الى مرحلةِ التخبّط… تفقدُ قُدرتكَ على التمييزِ بين الوحدةِ والوحشة… تظنّ أنّك ربّما بدأتَ تشعرُ بالغربة بينهم، وبأنّ وجعاً رهيباً ينتابُك عند الابتعاد عنهم!

لا ألومُك… حَتماً رفاقُ دربكَ مثلك يكرهونَ الضّجيج… ولو كانوا غوغائيين لابتعدتَ عنهم…

تَعودُ الأفكارُ ذاتها لتساورَ مخيّلتك… بلى أنتَ لم تملّ منهم، رُبما مللتَ من ذاتك… لكن لو أنك مللت من نفسك لابتعدت عنها ولجأتَ اليهم!

بعدَ كل جدالٍ يدور بينكَ وبين بينكَ تنتهي الى حقيقةٍ مفادُها : أنّك أحببتَ ذاتكَ وأحببتهم، فقررت أن تبقى قريناً لذاتك ولصِيقاً لذواتهم، وفي تلك اللحظة الشديدة، الحميمية، تقررُ أن تقسم روحياً: باستحالةأن تنفصلَ عنهم…

وتستنتج أنَّ الدُّنيا مجرد نكتة بل مسرحية هزلية… تُعَلِّمُ الأقدار كيف تسخر منّا بحِرَفيةٍ كبيرة حين تمنحنا رفاقاً بُعدنا عنهم سَقَم وقُربُنا منهم نقمة .

يا لسخرية القدر… يأتونكَ عندما تشتاقُ إليهم… مثل الحاضِر الغائب… تستحضرُهم من غياهِب النسيان… لا يلبثون أن يجلسوا حتى نراهم رحلوا… ها هُم رحلوا فعلاً.

يعودُ الشوقُ إليهم. تبلغ مرحلة القهر وما بعد الكدر… وعند لقياهُم تأنُّ روحك من صَمتهم القاتل… تملّ منهم إلى درجة الإعياء والضجر…

تتذكر وحدتك بعيداً عنهم… تستجمعُ غربتك… تختزل آلامك… تستحضر وحشتك عندما كنت مشتاقاً إليهم… ثمَّ ترمقهم وعندما تلمح صمتهم تجدهم أمواتاً في جَسَدٍ حي.

تتذكرُ وحدتك وتجدها أرحم من صمتهم… تتمتم روحك قائلة: ليس هنالك ما هو أكثر جحيميةً من أن يصيبَ الخرسُ فاهَ رفيقنا فيكمن الغياب في حضوره… ويصبح الميت الحي!

وإذا عُدتَ الى وحدتك تجد عقلك وروحك خرجا منك اليه… إنه الحاضر الغائب… البلسم والترياق… هو العلقم…

آه يا لسخرية القدر عندما تمنحُنا الحياة رفيقاً إذا حضر قُلنا يا ليته لَم يحضر… واذا رَحَل عنَّا هنيهة… بقي في وجداننا بقاء الأمل… نطلب منه الامتثال لنا… نجده خَرج من فانوس الأَزَل… بلى، ها هو قد حضر

غريبة حال الدنيا… أكثرهم تأثيراً فينا هم أكثرهم إيلاماً لنا…

إنها الحياة… تلك سخرية القدر.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى