المطلوب لاعبون من خارج الملعب…
د. عصام نعمان
لبنان ملعب ولاعبون. الملعب هو النظام السياسي، واللاعبون هم متزعّمون في طوائف، ورجال أعمال وأموال يمتهنون السياسة، ومتنفذون في الجيش وقوى الأمن.
الملعب هو نفسه مذّ أنشأ المفوض السامي الفرنسي بقرار منه في أول أيلول 1920 «دولة لبنان الكبير». اللاعبون هم أنفسهم تقريباً مذّ وضعت سلطات الانتداب الفرنسي، عبر مجلس النواب، دستوراً للبلاد عام 1926، ونظاماً لتوارث السلطة بين أمراء الطوائف والعشائر وأغنيائها وكبار موظفيها.
ما كان هذا النظام ليبقى كلّ هذه العقود لولا أنّ أركانه كرّسوا قانوناً للانتخابات قام، وما زال، على أساس التمثيل الأكثري الطائفي والتصويت الجمعي في دوائر متفاوتة الأحجام والمقاعد. هذا القانون السائد منذ نحو سبعين عاماً لم يطرأ عليه أيّ تعديل سوى زيادة عدد المقاعد النيابية أو تقليصها، وتوسيع الدوائر الانتخابية أو تضييقها.
بهذا القانون اللاديمقراطي تمكّن أهل النظام والشبكة السياسية الفاسدة التي تحكمه من إعادة إنتاجه محنّطاً على مرّ الزمن. تحنيط النظام حال دون تجديده بعناصر شبابية وعصرية ما أدى إلى ترهّله واستشراء الأزمات المرَضية المزمنة في بنيته.
آخر أزمات النظام عجز أهله عن انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. لشغور سدة الرئاسة تداعيات سياسية واجتماعية مربكة ومؤذية أهمها ثلاثة:
أولاها، مسألة الشغور في سدة الرئاسة وجواز أو عدم جواز التشريع خلالها. ذلك أنّ فريقاً وازناً من الحقوقيين الكبار، كما من النواب، يعتقدون أنّ استبعاد رئيس الجمهورية حكماً بفعل خلّو سدة الرئاسة من دائرة المراجع التي يحق لها مراجعة المجلس الدستوري لإبطال قانون ما، إنما هو سبب دستوري يحول دون ممارسة مجلس النواب سلطة التشريع. فالقانون ليس مجرّد عمل معبّر عن إرادة الشعب إذ أضحى بعد إنشاء المجلس الدستوري الناظر في دستورية القوانين، «لا يمثل الإرادة العامة إلاّ بقدر توافقه وأحكام الدستور». غير أنه يحق لمجلس النواب التشريع خلال خلو سدة الرئاسة في «حال الضرورة التي تعرّض الدولة أو مؤسساتها للخطر أو عندما يقتضي إصدار قوانين تتوقف عليها ممارسة او حماية حقوق دستورية» كما سبق وأوضحت هيئة التشريع والاستشارات في رأيها تاريخ 26/6/2013 في ما خصّ التشريع في ظلّ حكومة مستقيلة .
ثانيتها، مسألة الصلاحيات التي يحق لمجلس الوزراء ممارستها وكالةً عن رئيس الجمهورية بعد خلو سدة الرئاسة. ذلك أنّ فريقاً من كبار الحقوقيين، كما من النواب، يرى أنّ مجلس الوزراء عندما يمارس وكالةً، بموجب المادة 62 من الدستور، صلاحيات رئيس الجمهورية فإنما يمارسها بصورة انتقالية وموقتة وبالحدود التي تمكّنه من تسيير شؤون البلاد على أن لا تمسّ الصلاحيات اللصيقة بشخص الرئيس مثل إصدار مرسوم بقبول استقالة الحكومة أو اعتبارها مستقيلة، أو إجراء استشارات نيابية لتسمية رئيس الحكومة المكلّف، أو تولي المفاوضة في عقد معاهدة دولية، أو طلب حلّ مجلس النواب، أو اقتراح تعديل الدستور… غير أنّ ثمة من يعتقد بين النواب أنّ ممارسة مجلس الوزراء صلاحيات رئيس الجمهورية بعد خلو سدة الرئاسة تبقى حرّة وكاملة وليس ثمة نص دستوري يقيّدها.
ثالثتها، مسألة انقضاء ولاية مجلس النواب من دون تشريع قانون انتخابات جديد تبعاً لتبني الرأي القائل بعدم جواز التشريع في حال خلو سدة الرئاسة. ذلك أنّ ولاية المجلس تنتهي في مطلع شهر تشرين الثاني المقبل ما يستوجب إجراء الانتخابات وفق القانون النافذ الذي سبق لمعظم رؤساء الكتل النيابية أن رفضوه كلياً من دون التوافق على قانون بديل.
يواكب هذه المسائل الدستورية المعقدة مشاكل سياسية واجتماعية لا تقلّ عنها تعقيداً. ذلك أنّ مجلس النواب دُعي إلى جلسة للبت في مشروع سلسلة الرتب والرواتب المحفوف بالخلافات والمخاطر في وقت بدا أنّ فريقاً من النواب يميل إلى مقاطعة الجلسة إيماناً منهم بعدم جواز التشريع في ظلّ خلو سدة الرئاسة. إنّ عدم انعقاد الجلسة بسبب المقاطعة، أو انعقادها من دون إقرار السلسلة المذكورة، أو إقرارها على غير ما تشترطه «هيئة التنسيق النقابية» سيؤدي إلى اضطراب اجتماعي وسياسي. فالهيئة أعلنت أنها ستواجه أياً من الحالات السلبية المار ذكرها بالامتناع عن وضع أسئلة الامتحانات في المدارس الرسمية والخاصة وعدم تصحيح المسابقات ما يؤدي إلى شلّ قطاع التربية والتعليم.
إلى ذلك، فإنّ عدم إقرار السلسلة قبل انتهاء الدورة النيابية آخر الشهر الجاري، تطرح مشكلة جديدة هي جواز أو عدم جواز قيام مجلس الوزراء بفتح دورة استثنائية لمجلس النواب، كما جواز أو عدم جواز اتخاذه قرارات أساسية أثناء خلو مدة الرئاسة. فمن شأن انفجار هاتين المشكلتين أن يؤدي إلى تلاحم الساخطين على النظام لأسباب اجتماعية مع الساخطين عليه لأسباب سياسية وتعاونهم تالياً في الشارع بالضغط لتحقيق مطالبهم.
كلّ هذه الأزمات والمشاكل والتطورات المحتملة تشكّل فرصةً نادرة يقتضي أن تغتنمها القوى الوطنية والديمقراطية الحية لإدخال لاعبين جدد إلى ملعب النظام بغية تغيير «قواعد اللعبة» لما فيه خير المشاهدين، أي المواطنين. كيف؟
لعلّ أولى التدابير الواجب اتخاذها تحويلُ المشاهدين المواطنين في مدارج الملعب إلى مشاركين في اللعبة. يتحقق ذلك بطريقتين: الأولى، مسارعة القوى الوطنية والسياسية الحية إلى احتضان «هيئة التنسيق النقابية» ومساندة نضالها المطلبي بدعم شعبي قويّ وتطوير التعاون معها إلى عمل سياسي جبهوي متعاظم على مستوى البلاد كلها. الثانية، بالتزامن مع الطريقة الأولى، تقوم القوى الحية ببناء هيئة تنسيق سياسية لإقامة أعرض تحالف شعبي سياسي بغية الضغط على الحكومة، خلال الظروف الاستثنائية السائدة، لحملها على اتخاذ قرارات إصلاحية استراتيجية استثنائية ثلاثة:
أولاً، وضع قانون ديمقراطي للانتخابات باعتماد البلاد دائرة انتخابية واحدة، على أساس نظام التمثيل النسبي أو نظام التمثيل الأكثري وفق قاعدة «لكلّ ناخب صوت واحد»، وإحالته بصيغة مشروع قانون معجل على مجلس النواب وفق أحكام المادة 58 من الدستور ليصار إلى إصداره بمرسوم اذا تعذّر البت به خلال مدة الأربعين يوماً المنصوص عليها في المادة المذكورة، أو إصداره بمرسوم إذا تعذّر على مجلس النواب الانعقاد، وذلك عملاً بنظرية الظروف الاستثنائية وأحكام الضرورة. بعد ذلك، تقوم الحكومة، خلال المدة التي حدّدها قانون الانتخابات الجديد، بإجرائها تحت إشراف المنظمات غير الحكومية العالمية المختصة بحقوق الإنسان والحريات العامة، ووسائل الإعلام اللبنانية والعربية والأجنبية، وحتى بإشراف الأمم المتحدة إذا اقتضى الأمر.
ثانياً، ينتخب المجلس النيابي الجديد رئيساً جديداً للجمهورية، فيقوم لاحقاً بإجراء الاستشارات النيابية اللازمة لتأليف حكومة جديدة.
ثالثاً، يقوم المجلس النيابي الجديد، وقد أضحى له طابع تأسيسي ومشروعية وطنية جامعة، بمباشرة عملية حوار شامل من خلال لجانه المتخصصة لتحديد الأولويات الوطنية، السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية، ويتولى تحويلها إلى تشريعات بالتعاون مع الحكومة.
قد تبدو هذه المبادرات والقرارات، في منظور تجارب الماضي التقليدية العقيمة، ثورية وصعبة التطبيق. لكنها ليست كذلك في منظور الظروف الاستثنائية التي تستوجب قرارات استثنائية وشرعية استثنائية.
… وإلاّ فإنّ الحاجة العارمة للتغيير قد تستولد مطالبة شعبية متعاظمة بتدخل الجيش.
أليس آخر العلاج الكيّ؟
وزير سابق