الإسقاط الثقافي
د.نسيب أبو ضرغم
الثقافة التي هي المُحصّلة إبداعات شعب، هي بماهيتها حاملة نفسية الشعب الذي أبدعها، وبالتالي، تمثل روح هذا الشعب المواكبة لصيرورته، والمتشكلة بنيوياً في بنيته المادية الروحية.
حينما تظهر الثقافة في الحالة المشار إليها، تكون إذاك شأناً أصيلاً، وطاقة إيجابية، وصفة عميقة الغور، تتصف بها حضارة ما، لتميزها عن سواها. إن للثقافة بعداً آخر، هو أكثر فعلاً وتأثيراً في الصيرورة العامة، هو يُعدّ إخراج الرؤية الشاملة لمجتمع ما، الرؤية التي تحدّد له الخيارات والآليات والموقع والغاية.
إن الشعب الذي يعيش ثقافته المنتوجة من تاريخية وجوده الخاص، شعبٌ يعرف موقعه ويعرف خياراته، وتكون هذه المعرفة بالنسبة إليه، عاصماً يقيه الإنحراف والانزلاق في متاهات الثقافات الغريبة عنه.
لقد شهد التاريخ البشري كثيراً من التجارب التي أخذت بها شعوب عدّة، تجارب اعتمدت الاستناد إلى ثقافات غريبة عنها، منتوجة وفق شروط زمانية ومكانية لا صلة لها بها، إذ جرَّ عليها ذلك الويلات والانكسارات التي طاولت أعماق كينونتها.
والسبب الكامن وراء هذه الانكسارات، في أن الإرادة وقد تكون إرادة أقلية قمعت ما كوّنته الجماعة بفعل صيرورتها الحرة من ثقافة، هي حياة وقوة لهذه الجماعة، فاستبدلتها بثقافة لا محل لها طبيعياً في النفسية العامة، ثقافة دخيلة، مستعمرة، مستوطنة، لا يمكنها أن تفعل أقل من محو الثقافة الأصيلة وفرض الدخيلة، وتكون إذاك عملية التهجين الثقافي قد تمت بأبشع صورها.
كما هو مؤكدٌ الوجود الفيزيائي ـ التاريخي للأمم، كذلك هو مؤكد أيضاً وجود ثقافتها الأصيلة، والعبرة ليست في أن كل العنصرين موجودان، ولكن في أن وجودهما ذا ماهية مدرحية التركيب، أي أن المظهر المادي منه، والذي هو المادة الشعبية، لم يكن له أن يأخذ طريقه الى التحقق، إلا بالتوازي مع الثقافة الخاصة به.
بين وجود الأمة الفيزيائي وثقافتها، علاقة تفاعلية متداخلة، لا يمكن الفصل بينهما من دون أن يحدث الموت الحضاري للأمة المعنية.
الثقافة هي الذات العامة، بكل ما تستبطنه من قيم ومفاهيم ورؤى، فماذا يمكن أن يتحصل لهذه الذات إذا ما أُسقطت عليه ذات أخرى، وثقافة أخرى، تقتل خلايا ثقافية أصيلة وتشوّه خلايا أصيلة.
والجدير ذكره، التأكيد على أنه ليس من قطيعة بين الثقافة القومية وبين الثقافات العالمية، ذلك ان التفاعل الفكري، والتعلم من التجارب، واستعمال المبتكرات الأجنبية، كل ذلك يشكل مُعطى ثقافي جديد، لا بد للذات القومية من التفاعل معه. إلا أن هذا التفاعل المشار إليه، مشروط، بالاختيار الواعي، وغير مفروض بالإسقاط، تفاعل قائم بين ذات واعية وقادرة، محققة نفسها، تعرف ماذا تأخذ، وماذا ترفض، في أي زمان وأي مكان، لأن في ذلك اختياراً حرّاً حددته الحاجة في النطاق الوعي، تفاعل تتحكم بآليته نظرتنا الخاصة إلى الحق والخير والجمال.
إن حضارة كل شعب، هي معطى ذاتيّ في مدى زماني ـ مكاني محدد، فليس بالضرورة ما هو صحيح ونافع من فعل ثقافي هنا، هو كذلك هناك.
إن الأمم في تكونها الحضاري المدرحي تأخذ من الحضارات الخارجية ما يصلح لأن يقوي حضارتها ويبقيها على حقيقتها، تماماً كما يفعل الجسم السليم باختيار غذائه الذي يقدم له القوة ويبقيه سليماً.
من هنا، تاتي العولمة، خطراً حقيقياً على ثقافة الأمم، ذلك أن العولمة. إن هي إلا ربط لأطرف العالم بالمركز، وهذا الربط ليس مالياً فحسب، بل يتعدى ذلك الى البعد الثقافي.
عولمة الثقافة إسقاط مدمر للذات القومية، الذات التي جردتها العولمة من كامل أسلحة دفاعها، العولمة الثقافية هي ضخ سم في خلايا ثقافتنا، لتحويلها الى ثقافة هجينة مسلوبة الذات، ثقافة فارغة، جاهزة لأن تملأها العولمة بكل سمومها.
يمكن للإمبريالية المالية وهي الإمبريالية المتمثلة بالرأسمال اليهودي أن تنتصر على قدراتنا العسكرية والاقتصادية… ولكن ببقاء ذاتنا الثقافية سليمة، نستطيع الانتصار على هذه الإمبريالية، أما أن تنجح الإمبريالية اليهودية وحليفاتها الغربية بإفراغ مضموننا الثقافي، ففي ذلك العبودية الأبدية.
عندما يفرغ المرء من ذاته، يصبح جاهزاً لأن يكون أي شيء آخر. وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الأمم.