«كريستوفر كولومبوس الحياة الداخلية»… عندما يستكشف الشاعر «أميركاهُ الحميمة»
منصف الوهايبي
هذا العنوان «كريستوفر كولومبوس الحياة الداخلية»، ليس لي إنّما هو عبارة مأثورة عن نيتشه، تذكّرتها وأنا في جنوة في إيطاليا، بمناسبة انعقاد مهرجان شعرها. كان الشاعر والكاتب اللبناني الصديق عيسى مخلوف، وهو العارف بإيطاليا، والأدرى بشعابها، بهندستها ومعمارها ومتاحفها وفنونها، هو الذي اقترح عليّ زيارة بيت كريستوفر كولومبوس في جنوة، وتحديدا مسقط رأسه وهو بيت بسيط يقف إلى جانب أنقاض كنيسة «سان آندريا»، وبوّابة سوبرانا القديمة. وأنا هنا لست بصدد وصف هذا البيت الذي ولد فيه مكتشف العالم الجديد، وعاش فيه طفولته الأولى وإنّما كلامي على الشعر العالمي الحديث، وقد أتيح لي في جنوة أن ألتقي بعض شعراء عالم اليوم، من أوروبا والبلاد العربيّة، وأجاذبهم أطراف الحديث.
تشعّب بنا الحديث، كما هو الشأن في أكثر الأمسيات الشعريّة التي أقيمت في أماكن مفتوحة، حتّى في الشارع والفضاءات التجاريّة، أو على قارعة المتوسّط إلى وضع الشعر عندنا وعندهم في زمن العولمة التي تضاعف من تمزّقات البشر، وتتهدّد الأوضاع اللغويّة والثقافيّة، وقد أضيف إليها هذا التطرّف بلَبُوسِه الديني، ولا هدف له سوى تحقير الإنسان وتسييد الجهل والرعب، وإشاعة منطق الحرب والضغينة. وبعض هؤلاء الشعراء، مطّلع على نماذج من الشعر العربي الحديث: أدونيس ودرويش وسعدي وبنّيس خاصّة، وآخرين وإنْ بدرجة أقلّ مثل عبّاس بيضون وغسّان زقطان أمّا شعرنا القديم، نحن أهل الضفّة الأخرى من المتوسّط الذين نشاركهم الكثير من عاداتهم وتقاليدهم فهو مجهول عندهم، أو يكاد، على الرغم من أنّ نقلة نوعيّة في الشعر الأوروبي في العصر الوسيط، لا يمكن تسويغها إلاّ بأثر من الشعر العربي في الأندلس. وأستحضر في هذا السياق، ما قلته لـ«آلِكس سوسانا» من برشلونة، في لقاء سابق فقد عرفت أنّه قرأ الشعر الأندلسي في ترجماته الاسبانيّة والكاتالونيّة، وكان رأيه أنّ قصائد الحبّ الأندلسيّة جميلة تنمّ عن حسّ حضاريّ مرهف. وذكرت له أنّ أكثر هذا الشعر، حشد من الصور البيانيّة والمحسّنات البلاغيّة. وأمّا الجماليّة فمسألة خلافيّة، وأقدّر أنّ كثيرا من شعرنا القديم ـ وأستثني الجاهلي ـ أفسده فائض البلاغة فلعلّ الترجمة هي التي خلّصته من هذا الفائض. ومثلما يمكن أن يحجب الأب عن أب غير شرعي ، يمكن أن تحجب اللغة عن اللغة. وأذكر في هذا السياق ما قاله لي، منذ سنوات، الفرنسي جون إيف كازانوفا، من أنّ أكثر الجامعيّين في فرنسا، يخفون الأثر الأندلسي في ثقافة أوروبا الوسيطة، وفي شعراء التروبادور، عن طلبتهم وهم يدركون أنّ في شعر التروبادور، ناحية من الشعريّة لا تُستجلى إلاّ في ضوء الأثر العربي.
والحقّ أنّ المستشرقين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وإلى حدود الثلث الأوّل من القرن العشرين، كانوا يعترفون بهذا الأثر، ولم يجحفوا بحقّ العرب في الأندلس. على أنّ ما يُحمد لمهرجان جنوة، وقد أقيم بمشاركة من مهرجان سيت الفرنسي، أنّه ضمّ شعراء من ضفّتي المتوسّط، ومن أقلّيات عرقيّة وثقافيّة فالذات هي الآخر أيضا، و«الأنا» ـ مهما تكنْ درجة النقصان، لأنّ النقصان رجاء في مَا سيأتي، كما هو الشأن في رجاء الشعر ـ تلوي على «الأنت»، على نحو ما تجري جميع مفارقات الوجود البشري. هذا بعض ما استشعرته حقّا في أكثر من ملتقى في أوروبا، فنحن «نجهل» بعضنا بعضا ثمّ نكتشف عند إنشاد الشعر أو قراءته، أو خلال الأحاديث الجانبيّة، أنّ شوابك القرابة بيننا أو ما أسمّيه الجوار الروحي، هي أكثر من أن ألِمّ بها ولو مجرّد إلمامة في ورقة خاطفة كهذه، فما بالك بتفصيلها تفصيلا.
لقد اكتشفت مثلا أنّنا نشترك في حبّ شعر كفافي وأنّ كلاّ منّا كتب عنه أو استوحى بعض قصائده ـ وكنت وقفت على ذلك من قبل في أفيرو «فينيسيا البرتغال»، حتّى أنّنا قرأنا شعره، كلٌّ بلغته: أنا التونسي بالعربيّة، وجورجيو سوميليو بالمجرية ثمّ بالفرنسيّة في ترجمة لغيّفيك ، وأجيتو غونسالفيس بالبرتغاليّة، وآلِكس سوسانا بالكاتالونيّة ـ وكنت أسأل ولا أزال: ما الذي يشدّ واحدا مثلي إلى شعر كفافي، أنا الذي قرأته في غير لغته الأمّ أعني في الفرنسيّة، وبعضه القليل في العربيّة. بيْد أنّي أعرف من دراسات في شعره، أنّ اليونانيّين كان عليهم، بعد أن تحرّروا من النيْر العثماني أن يختاروا بين لغة صفويّة هي لغة الصحافة والإدارة، ولسان متداول هو لاشكّ أكثر عفويّة وحياة وسجيّة وهو الذي يستخدمه كتّاب اليونان المعاصرون. على أنّ كفافي زاوج بين الاثنين، وجمع بين الشتيتيْن، واستطاع أن يجترح لنفسه لغة خاصّة. ومحاولته هذه ظلّت وقفا عليه.. ظلّت بمثابة «حادث جماليّ» في تاريخ اللغة اليونانيّة. وأظنّ أنّ هذا ما يشدّ عربيّا مثلي: لغة صفويّة تراثيّة من جهة، ولسان مأنوس متداول من جهة أخرى.
ومع ذلك فأنا لاأزال أستغرب عزوف كفافي التامّ ـ وهو الذي عاش في الإسكندريّة ـ عن كلّ الحضارات المصريّة القديمة مثل حضارة الفراعنة وحضارة الفاطميّين فلا أثر لأيّ منهما في شعره. وكم يبدو مختلفا في هذا عن الشاعر الإيطالي أنغريتّي الذي نشأ ودرج مثله، في مدينة الإسكندريّة حيث تتجاور ثقافات مختلفة فأنغريتّي يعترف بأنّه يدين بشاعريّته للأناشيد العربيّة التي كان يسمعها في طفولته في الإسكندريّة. على أنّي أقول إنّ كفافي كان منصرفا إلى عالمه الداخلي، وما يتجاذب فيه من معيش وأسطوري.. حيث تنهض الأسماء والأشياء بـ«طوبوغرافيّة متخيّلة» تصِل بين متحوّل الأزمنة ومتغيّر الأمكنة، وتكتنه الفضاء من حيث هو مكوّن جماليّ لـ«شعريّة الأثر»، وتؤسّس الكتابة تغريبا لأوضاع طبيعيّة أو لأشياء مألوفة.
وفي كثير من شعره كما هو الشأن عند آخرين ترسّموا خطاه، نجده لا يلغي «الموضوع» أي موضوع القصيدة من حيث هو قادح معنى أو حامل دلالة. وكثيرا ما يتبلور التعبير الشعري لديه، على أساس من حاجات فنيّة يمليها «الموضوع» أو «الثيمة»، حتّى إن تهيّأ لنا أنّ القصيدة تضع نفسها خارجه، أو هو ليس إلاّ جماع كلمات تومض هنا وهناك.. أو تشعل ظلاّ هنا وهناك.. لتؤدّي معنى ما أو دلالة ما.. ولعلّ هذا ما يجعل نصّه محكوماً بنية وإيقاعاً ـ ولا أنسى، من أجل تنسيب هذا الحكم أنّني أقرأ هذا الشعر في غير لغته ـ بالتوازن والتناسب والتناغم، ومحكوما جملة وصورة بالحذف والإضمار والإيجاز، وبما هو غريب مستبهم النشأة، يترامى من أكثر من ناحية من نواحي الاستقبال والقِدم. وفي كليهما غموض لا ينضب. وأقدّر انّ عبارة نيتشه عن نفسه، وهي التي افتتحت بها هذا المقال «كريستوفر كولمبوس الحياة الداخليّة»، تنطبق على هذا الشاعر الفذّ أكثر من غيره.
والشعر في تجربته ليس مسلّطا على الحياة، وإنّما هو طريقة في أن نجعل الحياة تفكّر باللغة في نفسها وبنفسها ولنفسها، وأنّ الحقيقة المنشودة طريقة في الرؤية.. أفقٌ.. وليست مكانا أو نقطة.. طريقة في أن نَرى في ذات الآن الذي نُرى فيه، كما يقول البرتغالي فالتار هوجو ماي، فالشعر مخبر للتأمّل أو تأمّل فعل التأمّل، ومشاركة الأشياء عالمها الداخلي. وربّما كان الشعر ولايزال طريقة في تأنيس المروّع.. في الاحتماء منه، حتّى إنْ شارف الغرابة فهو الذي يبعث في القارئ تصديقا أعمى بأنّ الشعر مضاهاة لـ«النصّ» من الشيء، أعني منتهاه، أو هو حدث في الشعر ذاته لا يُستنفد ولا يُستوفى في معنى، لأنّه ناتج المعنى أو ناتج القراءة.
إنّ غنيمتي من كلّ هذه الملتقيات هي هذه «الحقيقة». لأقلْ الظاهراتيّة حيث تتكلّم اللغة عن ذاتها، وتجعل الأشياء تستأنف لحظة ميلادها، وتستعيد طزاجتها الأولى، أعني قدرتها على التجلّي عسى أن نرى الأشياء، بذات القدر الذي نرى به العلاقات الناشبة بينها.. عسى أن يكون الواحد منّا «كريستوف كولمب حياته الداخليّة»، وأن يستكشف بالشعر، وفي الشعر «أميركاه الحميمة» أعني وطنه الخاصّ. وما الشعر إن لم يكن ملامسة المكان باللغة؟
كاتب تونسي