«الإخوان» من نهج التمسكن الى خطاب التمكّن
فؤاد عيتاني
يعتقد البعض أنّ «الإخوان المسلمين» لغزٌ يصعب فكّ طلاسمه أو تفسير آليات تحرّكه أو طريقة تعامله مع الوقائع، يختزل البعض المسألة بالقول إنه عقل غيبي يتبنّى النص ويبالغ في تجلياته وإيحاءاته، من دون أن يفسّر لنا لماذا يفكر هذا العقل بهذه الطريقة؟ وكيف يتشكل تصوّره؟ وكيف يرى العالم حوله؟ وكيف يدير معاركه مع خصومه؟ وما هي استراتيجياته؟ كيف كانوا يفكّرون قبل السلطة؟ وكيف يفكّرون الآن بعد الخروج منها؟ «الإخوان» ليسوا مجموعة من المخطوفين ذهنياً على حدّ ما تذهب إليه بعض الدعايات المنصرفة إلى شيطنتهم في الوعي الجمعي، أو مجموعة ممن غرقوا في إنكار الواقع ويحيلون على نصر سيأتي دونما أسباب، والعكس قد يكون صحيحاً لديهم بنية معرفية وذهنية قد نختلف معها تماماً لكنها تبقى قادرة على توفير التماسك للتنظيم وقادرة على تحريكه في ما تراه القيادات من معارك، بصرف النظر عن تعارض ذلك مع العقل أو المنطق. فنحن في الأحوال كلّها نتعامل مع العقل «الإخواني» الذي يبدو غير عقولنا جميعاً، وسنحاول أن نفهم لماذا هو عقل آخر.
منهج التفكير «الإخواني»
ينطلق «الإخوان» في نظرتهم إلى العالم حولهم من منطلق رئيسي، هو أنهم تنظيم حركي يستلهم المنهج النبوي في التغيير لاستعادة مجد الإسلام وسلطته في الحكم الدنيوي سبيلاً إلى الفوز في الدارين، ويعتقدون أنّ السبيل الرئيسي للوصول إلى تحقيق الأهداف هو ما حدّدته الآية من سورة الرعد «إنّ الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم» فتراجع المسلمين عن سيادة الدنيا هو نتيجة طبيعية لانحسار سلطان الدين عن النفوس واستعادة هذه السيادة هو في استعادة الشخصية المسلمة الأولى التي تقترب من جيل الصحابة في سماتها والتي فتح الله بهم الدنيا، ورغم أنهم يقولون عن أنفسهم أنهم فقهياً جماعة من المسلمين إلّا أنهم يستبطنون أنهم جماعة المسلمين التي هي صاحبة الحق الحصري في الدفاع عما يعتقدونه قيماً للدين وطريقاً لتمكينه في دنيا الناس وأنهم يملكون في ذلك الأساس المعياري الذي يقيسون به الجماعات الإسلامية الأخرى التي تعمل للغاية نفسها وهي تمكين الدين من الحكم.
في تعريف موقفنا من الدعوات، وموقفنا من الدعوات المختلفة التي طغت في هذا العصر ففرقت القلوب وبلبلت الأفكار، أن نزنها بميزان دعوتنا فما وافقها فمرحباً به وما خالفها فنحن براء منه ونحن مؤمنون بأن دعوتنا عامة محيطة لا تغادر جزءاً صالحاً من أي دعوة إلّا ألمّت به وأشارت إليه.
ثم يفصل في تلك الدعوات التي يصفها بأنها فرّقت القلوب، مثل الوطنية والقومية في تدليل واضح على العداوة معهما، والتأكيد على أن لا مكان لتلك الدعوات في الدولة التي ينحاز إليها ويؤمن بها.
يتوافر يقين لدى العنصر «الإخواني» بأنه في تصوّره عن الإسلام على الحق المبين وغيره على الضلال المبين وبالتالي، هو لا يعتقد في تصوره عن الإسلام باعتباره صيغة تدين ضمن صيغ أخرى تقترب وتبتعد عن حقيقة الدين، فشتان بين الدين الذي هو مطلق كامل «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا «وبين التديّن الذي هو نسبي» وكل الذي نريده من الناس أن يكونوا أمامنا واحداً من أربعة: مؤمن، متردد، نفعي، متحامل. ثم يعرف المؤمن بأنه من يقبل تصورهم عن الدين ويعمل معهم. والمتردد ذلك الشخص الذي ينبغي أن يتردد عليهم وأن يسمع منهم فسيزول تردّده ويؤمن معهم في النهاية بتصورهم.
وإما نفعي وهو من يسأل عما سيجنيه أو يناله من متاع إن التحق بهم فيقولون له إنهم مغمورون مالاً وجاهاً وليس لديهم شيء من ذلك ليعطوه له. وإما متحامل فذلك لا يراهم إلاّ بعين التحامل. عند هذا الحد أصناف الناس الثلاثة في مواجهة تصورهم، بين متردّد ونفعي ومتحامل، لكن لا يوجد شخص آخر أو جماعة أخرى تملك من الحق مثلهم وتملك من الباطل أيضاً، فالحديث عن صيغة للتدين وليس الدين مثلما أسلفنا، لكنه يقدم نفسه باعتباره من يملك حقيقة الدين وعندما يستقيم ويستقر هذا التصور في نفوس «الإخوان» هل يمكن أن يزهدوا في ما لديهم لحساب تصور آخر يعتبرونه بعيداً عن التصور الصحيح الذي قدمه إليهم إمامهم؟
لم يبخل الشيخ حسن البنا بإعطائهم حصانة لهذا التصوّر ضدّ من يستشعر خطرهم في خلخلة أفكارهم، وقد يدفعهم إلى مراجعة تلك الأفكار أنه يبصرهم بأن الناس سيعادون هذا التصوّر بل وسيعاديه العلماء: «أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية وستجدون أمامكم كثيراً من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات وفي هذا الوقت وحده تكونوا قد سلكتم سبيل أصحاب الدعوات»، ثم يقول «سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام».
إذن، الرجل يضع كوابح ذهنية لأعضاء الجماعة تجعلهم مهما واجهوا من معارضة أو استدراك أو مناقشة لأفكارهم أو وسائلهم لا يأبهون بها ولا يقفون ليفكروا في معتقداتهم، فقد أعلمهم الإمام بذلك قبلاً، وأن ما يواجهونه هو المآل الطبيعي لأصحاب الدعوات. أليسوا هم الامتداد الطبيعي للجماعة المسلمة الأولى يواجهون ما واجهته من «كيد الكفار والمشركين»! لذلك ستجد هذا التوحد مع حالة الجماعة المسلمة الأولى في الحالة النفسية التي ألمّت بهم وهم يعتصمون في رابعة كأنهم الجماعة الأولى المحاصرة في شعب أبي طالب يدعون على الكفار والمنافقين على لسان أحد مشايخهم قبل ثورة 30 يونيو، يوم دعا الشيخ محمد عبدالمقصود على من هم خارج «رابعة» من عموم الشعب المصري الذي تدين أغلبيته بالإسلام قائلاً: «اللهم اجعل يوم 30-6 يوم نصر للإسلام والمسلمين على الكفار والمنافقين».
لذلك يتوحّد العقل «الإخواني» مع هذه المقولات ويعتبر أنه على خير ما دام يبتلى ويستدعى من الآثار النبوية أو النصوص القرآنية ما يعزز لديه هذا الشعور بالمظلومية الممتدة عبر التاريخ.
ينعى «الإخوان» غياب الإسلام الطويل عن الحكم وبروز اتجاهات وأفكار وقيم بعيدة عن الدين مثل الديمقراطية التي قبلت بها بعض فروعهم مرحلياً من دون أن يترسخ ذلك الإيمان في نفوسهم. إن قبولهم بالديمقراطية رغم اعتقادهم أنها باطل لا تعني التعايش معه.
هل من حق الحركة الإسلامية أن توقّع على تحالف بأن يكون الحكم ديمقراطياً؟
وهل من حق الحركة الإسلامية أن توقع على تحالف بقيام حكومة موقتة ومؤتلفة؟
نحاول الإجابة عن السؤال الأول: قد يتبادر إلى الذهن مباشرة أن يكون الجواب بالإيجاب، لأن النظام الديمقراطي لا يحدّد فرداً أو جهة يخوّلها تسلّم السلطة، وهذا يعني أن الأمر لله يضعه حيث يشاء ثم يكمل أي الكاتب إنني أستبعد جواز ذلك ويقول والذين يجيزون التحالف على القبول بالنظام الديمقراطي وسيلة للحكم ينطلقون من فكرة أن الإسلام لا يفرض نفسه بالقوة على الناس، وأن على الدعاة أن يعملوا لكسب قلوب الناس وثقتهم من خلال الدعوة، وبعدها تأتي مرحلة الدولة التي تقوم على حب الناس لهم وثقتهم بهم ليكونوا حكاماً لهم « ثم يفصل حيثيات رفضه بقوله:
أولا: النظام الديمقراطي يقتضي من الحركة الإسلامية أن تقبل بالفئة أو الحزب الذي ينتخبه الشعب وأن تبادر فتعترف بشرعيته طالما فاز بالأكثرية وأن تخضع لنظامه، وقد يكون هذا الحزب أو التجمع معادياً للإسلام أو لا يتبنى الإسلام في أفضل الإحتمالات بالطبع فهم وحدهم يتبنّون الإسلام ويعرفون أحكامه الحقيقية، أما غيرهم فلا يشاركونهم هذا الفهم ومن ثم ليسوا أمناء على حكم البلاد. نستطيع من خلال هذا الكلام اكتشاف نوايا «الإخوان» حيال الاستمرار في الحكم إلى الأبد ثم يستطرد قائلاً ولنفرض جدلاً أننا قبلنا بالنظام الديمقراطي فإن الشعب هو مصدر التشريع في هذا النظام وقبولنا بذلك يعني قبولنا بكل تشريع لا يرضاه الإسلام واعتباره شرعياً في الوقت نفسه طالما أنه صادر عن هيئة تشريعية منتخبة.
ثانياً: لنفترض جدلاً أن الحركة الإسلامية اشترطت قبول نظام الإسلام حتى تقبل النظام الديمقراطي فهي في هذه الحالة قبلت بالمتناقضات في البنود نفسها تجعل حجة لخصوم الإسلام عليها في المستقبل أن هذا الحكم وهو نظام الإسلام لا يمثل رأي الشعب وبالتالي لا يجوز أن يفرض عليها.
يكشف لنا النص السابق كيف هو إيمان «الإخوان» بالديمقراطية وكيف أن المسألة لا تعدو شكلاً من أشكال التقية السياسية المرحلية ودرباً من الانتقال بين خطاب التمسكن وخطاب التمكّن بحسب الأحوال، لذلك لم يكن غريباً أن «الإخوان» يتحدثون كثيراً عن الشراكة الوطنية في مصر مثلا بينما هم منخرطون في مغالبة لا تعرف الرحمة.
نتيجة هذا الفقه الحركي الذي يجعلهم معتقدين دوما أنهم أصحاب المنهج الأصيل وأقدر الناس على تجسيده في الواقع من سواهم.
قيادة الجماعة وسرّية التنظيم
تعتبر السرّية من أهم أساليب العمل داخل الجماعة، ورغم أنها حكمت مصر لعام وأشهرت العديد من المواقع الجغرافية والإلكترونية المعبرة عنها، إلاّ أنها حرصت دوماً على أن يكون تنظيمها سرياً، ورغم أنها تحدثت في أدبياتها عن التزامها بالمنهج النبوي في التغيير الذي حدده كتاب المنهج الحركي بين المرحلة الأولى سرية الدعوة وسرية التنظيم إلى جهرية الدعوة وسرية التنظيم ثم مرحلة قيام الدولة فتأسيس الدولة وتثبيت دعائمها، وأخيراً ما سماه الجهاد السياسي وانتصار الرسالة ومواصفات كل مرحلة ومقتضياتها.
يفصل تلك المراحل ثم لا يجد حرجاً في أن يعطي قيادة «الجماعة» الحق الحصري ألا تتقيد بموجبات كل مرحلة، بحسب ما ترى، حتى أنه لا يحدد سقفاً للعمل السري، بل يترك ذلك للقيادة قائلاً: «ننتهي بهذا إلى أن السمة الأولى لهذه المرحلة امتدادها الزمني ثلاث سنوات، وإن كنا في واقع الأمر لا نبني شيئاً على هذه المدة ولا نفهم أن الحركة الإسلامية اليوم لا بد أن تمر في مرحلة سرية هي ثلاث سنوات، فهذا أمر لا نص فيه يدعونا إلى الاقتداء به ولا نحجر واسعاً، إنما نفهم أن انتهاء هذه المرحلة قد كان، لأنه صارت للمسلمين قاعدة صلبة مستعصية على الإفناء إذا قيست بنوعياتها من جهة ونسبتها إلى المجتمع المكي آنذاك من جهة ثانية، ومن هذا الجانب تكون القدوة. ثم يقول فقيادة الحركة المسلمة الراشدة هي المسؤولة عن تقدير هذه المرحلة وإمكاناتها للانتقال إلى مرحلة لاحقة. ويحدد مناط القدوة بالطريقة التي تصادف تصوّره، ثم يترك للقيادة أن تقرر مدة السرية ومداها بحسب ما ترى. وحافظت جماعة «الإخوان» على السرية طوال تاريخها حتى اليوم ولم تتخلّ عن ذلك حتى وهي في الحكم فلم تتقيّد لا بثلاث سنوات ولا حتى بثلاثة عقود.
رؤية «الإخوان» للمواطنة ونظرتهم إلى الأقباط
في إطار التقيّة السياسية التي أدمنها «الإخوان»، من المهمّ أن نسلط الضوء على نص كاشف يؤكد كيف ينظرون إلى الأقباط ولماذا لم يزر محمد مرسي كاتدرائية الأقباط ولو لمرة واحدة حتى في أعيادهم؟
الرجل إبن الحالة القطبية، التي ترى أن التقيد بالمنهج الحركي الذي أكدته السيرة النبوية، هو في الإعراض عن المشركين «لا يجوز أن تتميع الدعوة وتضيع معالمها بحجة مسايرة المشركين ومراعاة ظروفهم وتأليف قلوبهم، كما يلجأ كثير من الناس اليوم وهم يتعايشون مع النصارى»، ثم يقول إنّ جميع الدول في عصرنا الحاضر التي توجد فيها الأقليات الدينية تنهج هذه السياسة في إذاعاتها المرئية والمسموعة والمقروءة،ويسمون هذا دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة إن الإعراض عن المشركين يعنى فكرتين في وقت واحد :
الفكرة الأولى: المسيرة بالدعوة من الداعية وإيضاح معالمها، غير عابئ بغضب خصومها أو مشاعرهم أو آرائهم.
الفكرة الثانية: عدم مواجهة أذاهم المادي والمعنوي وعدم الرد على تجريح الداعية.
إذا كان الناس في الوطن إمّا مسلمون جاهلون بدينهم لا يعرفون حقيقته ولا يقفون على أحكامه ولا ينفّذون مقتضياته، فعليهم أن يكون صنفاً من أصناف أربعة حدّدها الشيخ البنا، وإمّا مشركون لا يجوز مسايرتهم أو مراعاة ظروفهم أو تأليف قلوبهم. ماذا يعني ذلك في مواجهة النص القرآني الذي يقول: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين».
ماذا يعني البرّ والقسط في اللغة العربية سوى أعلى درجات الصلة وأرفعها، وكيف نقرأ قول الله تبارك وتعالى في موضع آخر من كتابه العزيز «ولتجدن أقربهم مودّة للذين آمنوا، الذين قالوا إنا نصارى، ذلك أن منهم قسيسين ورهبانا، وأنهم لا يستكبرون».
لذلك سقط وجه الجماعة الزائف، كما رأينا في منصة رابعة العدوية التي تعتبر حال تحليل خطابها، كتاباً مفتوحاً لما تضمره الجماعة تجاه المجتمع، وكيف أنها تراه أدنى منها في كلّ شيء في الاعتقاد والتصور والسلوك، فإيمان الناس لدى الإخوان ليس إيماناً واحداً، بل إيمانان كما وصف البنا، إيمان حي يدفع صاحبه إلى العمل، هو إيمانهم وإيمان خامل هو إيمان الناس، هذا إذا كانوا مؤمنين «والفرق بيننا وبين قومنا بعد اتفاقنا بهذا المبدأ يقصد الإسلام أنه عندهم إيمان مخدر نائم في نفوسهم لا يريدون أن ينزلوا على حكمه وأن يعملوا بمقتضاه، على حين أنه إيمان ملتهب مشتعل قوى يقظ في نفوس الإخوان المسلمين».