تركيا أردوغان… تخبط… فتقهقر
العميد د. أمين محمد حطيط
أقامت تركيا مشروعها الإقليمي الحديث على فرضية نجاحها في وضع اليد على سورية للسيطرة على المنطقة وإعادة إنتاج السلطنة العثمانية البائدة بتسمية أردوغانية عصرية تمسح عن العثمانية تسمية الرجل المريض. وبني «مشروع السلطان الجديد» أردوغان على الإخوان المسلمين كونه برأيه تنظيم عالمي يملك القوة والطاقات الكفيلة بتحقيق حلمه من دون أن يكون في هذا الأمر ما يعاب عليه أن يقاتل رفضاً له، أي لا يكون فيه احتلال واستعمار بل إنتاج كيان سياسي يشارك فيه «إخوان من كل الأقطار» يبعد وجودهم في السلطة الحديث عن أي تفكير بالاستعمار. لهذا انطلق أو انخرط أردوغان في العدوان على سورية منذ أكثر من أربع سنوات ولكن…؟
بعد صولات وجولات ومواقع كر وفر عسكرية وسياسية وجد أردوغان نفسه اليوم في وضع الاستحالة المطلقة عن تحقيق هذا المشروع لأسباب ثلاثة أولها الصمود السوري الأسطوري الذي قطع الطريق على نجاح مشروع الإخوان، ثم المتغيرات الدولية الكبرى التي قطعت الطريق على إقامة أي كيان إقليمي من الطبيعة التي يحلم بها أردوغان، وثالثها داخلي تشكل نتيجة العاملين الأولين مضافاً إليهما حزمة الخطايا الإجرامية التي ارتكبها بحق الحرية ومبادئ دولة أتاتورك العلمانية ما جعلت الشعب التركي يقرر في صندوق الانتخابات عقاباً يناسب خطايا أردوغان فيفقده حلم السيطرة المنفردة على البلاد ويجعله مضطراً للتعاون مع آخرين إن رغب في البقاء حاكماً ولكن بصفة شريك.
في ظل هذا الوقع الذي بدأ أردوغان يكتوي بناره، تفاقمت المتغيرات على الحدود الجنوبية والشرقية لتركيا. وكان من العناوين الرئيسية لذاك التغيير الوضع في محافظتي الحسكة والرقة السوريتين حيث يتركز الوجود الكردي الرئيسي في سورية. وقد استطاع الأكراد بدعم متعدد المصادر من الداخل السوري وعبر الحدود براً وجواً أن يوقفوا تقدم داعش أولاً ويمنعوها من احتلال عين العرب، ثم طردها من الكثير من القرى والبلدات في المحافظتين ثم قطع خط أمداد رئيسي لها من تركيا عبر تل أبيض، تقدم كردي رأى أردوغان أن يتخذه ذريعة للتدخل العسكري المباشر في سورية بزج الجيش التركي في ميدانها الشمالي.
حاول أردوغان أن يروج لفكرة «الخطر الكردي الزاحف من الجنوب على تركيا والمهدد لوحدة أراضيها»، وأن يستغل ذلك ليظهر «بطولته» في الميدان ويثبت «حزمه» في المحافظة على المصلحة والأمن القومي التركي، عبر زج الجيش في الميدان السوري، زجاً يبتغي منه في العمق والحقيقة تحقيق مصالح ذاتية تخفي خيباته وتعوض خسائره وتحيي أماله الضائعة. فأردوغان أراد التدخل العسكري في سورية من أجل:
حجب مأزقه الداخلي المتشكل من تراجع الاقتصاد إلى حد التصدع ومن هزيمته في الانتخابات الأخيرة إلى حد فقدانه عصا السيطرة المنفردة، وهو يظن أن بالحرب يمكنه اختلاق واقع يمس بالأمن الوطني ما يبرر الإطاحة بما أفرزته الصناديق، ويتيح لحكومة تصريف الأعمال البقاء في الحكم حتى يجني «نصراً في الميدان» يصرفه في صناديق الاقتراع عندما تفتح في انتخابات مبكرة يدعو إليها. أي أن صفارة الانطلاق إلى الحرب كانت ستعني صفارة الانتهاء من العمل بنتائج انتخابات 7 حزيران الماضي والاستعداد لانتخابات جديدة.
حجز بطاقة حضور أي حلقة نقاش أو مؤتمر دولي يبحث في مصير المنطقة إثر الحريق الذي يلتهمها، وبعد المتغيرات الدراماتيكية فيها وسقوط أو ترهل صيغة سايكس بيكو التي عمل بها لقرن من الزمن وشعور المعنيين في المنطقة والعالم بأن الخروج من الواقع القائم يستوجب البحث في صيغة تلائم ما أفرزه الميدان. ويشعر أردوغان انه حتى هذه اللحظة تصنف تركيا دولياً وإقليمياً في لائحة من خسروا رهاناتهم، ما يعني أن إعادة النظر بالأوضاع والخرائط ستكون على حسابها لا لحسابها، وأردوغان لا ينسى وإن تناسى أن لسورية أرضاً تحتلها تركيا في الإسكندرون، وأن أي أعادة نظر بالخرائط لن تستثني هذه المنطقة إن كانت تركيا من الخاسرين.
امتلاك ورقة قوة ميدانية تمكنه من منافسة إيران في الإقليم أو تقليص المسافة عنها، خصوصاً أن إيران ستكون أكثر قوة وأوسع نفوذاً بعد التوقيع المحتمل والقريب للاتفاق حول الملف النووي الإيراني والذي كما يبدو لن يتجاوز أمر إنجازه في كل الأحوال الأول من أيلول المقبل، وهو يدرك أن إيران بعد التوقيع ستكون في وضع القوة الإقليمية العظمى الأولى التي يصعب مجاراتها بسبب قوتها الذاتية المضافة وقوتها التحالفية التراكمية وفضائها الاستراتيجي المتشكل.
هذه الأسباب أو الدوافع الحقيقية التي جعلت أردوغان يلوّح بالتدخل العسكري في شمال سورية ويأمر بالتحضير الجدي له، لكن غاب عن أردوغان وهو يتصرف هكذا أن المتغيرات التي ذكرنا داخلياً وخارجياً أفقدته القدرة أو حرية القرار المنفرد في شأن تركي قومي بحجم الدخول في الحرب، حيث أن موقفه ذاك فهم من قبل منافسيه السياسيين كما من قبل العسكريين أنفسهم بأنه قرار منافع شخصية وليس قرار مصالح وطنية أو قومية، كما أن ذوي الاختصاص المباشر بتنفيذه أي العسكريين رأوا فيه قراراً أحمقاً يضر بمصلحة تركيا خلافاً لما يروج أردوغان. لأن أي تدخل عسكري تركي في سورية سيدخل تركيا في مستنقع لن تخرج منه سالمة، لا بل أن تدخلها سيكون مبعثاً للندم ومنتجاً للخسارة على غرار تدخل صدام حسين في الكويت والسعودية في اليمن.
أن تلويح أردوغان بإدخال جيشه إلى سورية لمنع الأكراد فيها من تشكيل خطر على الأمن القومي التركي ووحدة البلاد، هو برأينا تهديد لن يكون مصيره أفضل من مصير مشاريع أردوغان السابقة الفاشلة بدءاً بإنشاء المناطق العازلة وصولاً إلى الممرات الآمنة أو مناطق الحظر الجوي الفاشلة. وقد كون رد فعل قيادة الجيش التركي برفض الاستجابة لطلب أردوغان، كما واعتراض أحزاب المعارضة التركية المرشحة للدخول في حكومة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة اعتراضها على هذا التدخل مخرجاً لتراجع أردوغان وحماية له من ارتكاب هذه الحماقة.
وفي كل الأحوال يجب أن نسجل أن أردوغان – رجل الرهانات والمشاريع الخاسرة – بدأ مشروعه بحلم بناء السلطنة الواسعة وانتهى به الأمر إلى المجاهرة بالخوف على وحدة الأراضي التركية فهل يتعظ من حجم خسارته ويتجه للبحث عن سبل حماية الأمن القومي التركي في شكل جدي؟
إذا كان أردوغان جاداً في حماية تركيا كما يدعي فعليه أن يبدأ من داخل تركيا بالذات عبر تطبيق قرارات مجلس الأمن لمكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه ومصادره التي تتفجر عنده وعبر بلاده ، ثم الإقلاع عن سياسة الكيد والعداء للجيران سورية والعراق، وإن شاء جدية أكبر عليه الانخراط في منظومة أمن إقليمي فاعلة لمحاربة الإرهاب كما اقترحت روسيا، منظومة تشمل جميع دول الإقليم المتضررة من الإرهاب أو المرشحة لاستهدافه، وعندها تحفظ الحدود الوطنية للدول القائمة ولا يكون عندها خطر من حالة كردية هنا أو خطر على حدود دولة هناك.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية