سياحة نقديّة في قصيدة «مات حيّاً» لعبد الجبار الفيّاض
هاني عقيل
حينما يقرّر الشاعر أن يلج عتبة القصيدة ليلقي على جسدها لغة الحداثة، لا بدّ له من امتلاك الرؤى الحداثية ومخزون ثريّ من اللغة والدلالات، لبناء صورة فلسفية. فهو يعيد صوغ ما حوله لبناء رؤيته المثالية، وهو يتحدث عمّن حوله وعن نفسه. وهنا نرى أنّ الشاعر عبد الجبار الفياض في كل نصّ من نصوصه المبهرة، يحفل برؤى حداثية من طراز فريد، فهو في أحيانٍ كثيرة، يتماهى وقصيدته ليصبحا كلّاً واحداً:
لغير ما يراه
أوقفوه
طينة تخلقت على مساحة وعظ أصفر . . .
سلخوا نهاره من عينيه
أطفأوا كل الأصوات في أذنيه
شدّ لسانه بقفص ببغاء . . .
تركوا له أنفاً
جمجمة فارغة إلّا من قصاصات لا تقرأ . . .
هل كان الموتى يتابعون نسختهم الأخرى
بإمضاء معتوه؟
عبد الجبار الفياض شاعر متمرّد على قانونه الفني وفق نظام اللانظام. فقصيدة النثر لديه لا بدّ لها أن تحفل بتلك الفوضى حتى على قوانين اللغة نفسها. وهو بين هذا وذاك، يعوّض تلك القوانين ببناء منظومته الصورية والايقاعية النبرية، فشكل البروس الحداثوي لا بدّ له من الهدم والبناء في آن واحد، وهذا ما يدعونا لأن نقف أمام جمالية الأسلوب الفريد للشاعر عبد الجبار الفياض. وهو هنا يفسر لنا كل ما انغلق علينا من تلك الرؤى:
صنعوه
معولَ حرب أخرس
حاطب ليل
يتنفّس موتاً
ما ليس في مقبرة . . .
ماذا يكون الجذع الميت غير قنطرة لعبور؟
لوّثوا أرغفة الخبز بدم الذئب
وبكوا بعيونه
لرسم خطوط وهمٍ
على وجه الفجر النائم في أحضان العتمة . . .
صفّق من ليس له إلّا منقوع
يشربه كلّ صباح
ويقبّل يداً ممغنطة بأساطير طُويت
وما أخفاه كهف رقيم
مسومة
بسخام زمن متشقق عن قبلة وداع
قشطت من شفاه حياة!..
لا بدّ من حضور الإيقاع المزامن لحضور الجوّ الشعريّ. ولا بدّ من استدعاء كافة البنى الجمالية والبنائية في النصّ لمرافقة المزاج الشعري لدى الشاعر. فعبد الجبار الفياض شاعر متمكّن من توحيد تلك المرتكزات داخل نصوصه الباذخة، مع الاحتفاء باشتراطات حداثوية من انزياح لفتح نوافذ النصّ أمام المتلقّي نحو الشعر، بأسلوب يتميز بتلك الثنائية المعهودة لديه، إيقاعات صوتية وأخرى دلالية. وهو بذا يمنحنا نصّاً ذا هوية واضحَ المعالم لا ينضوي تحت أشكال الأجناس المتعدّدة.
يكفي أن أصبحت أسفلتاً تحت عربات خضار لم تأكلها…
مجمرة
تتلذّذها سيقان محظيات بأوراق البترول…
شاة
يرسم لها الجزّار خارطة للذبح!
كان ابن فرناس غائباً
احتفال شمع
تحت قبّة شمس
يرفع لها تموز قبعته
لكنها لا تزيل ما تحت عمامة واعظٍ…
إن مظاهر التجديد والحداثة تتمظهر لدى الشاعر من خلال الإيقاع النثري. فمن المسلّم به أن قصيدة النثر لا وزن لها. إنما ينبغي أن يكون لها إيقاع. وهذا الإيقاع فيما لو اجتمع والوزن الشعري، قد يكون ثقيلاً متكلّفاً. وهذا ما جعل الشاعر يفرّق بين تلك الأجناس الشعرية لبناء إيقاعه النثريّ بعيداً عن الوزن الشعري المعروف. فنصوصه تحفل بإيقاع محدود لا يمكن أن يعرف. وهذا ما نرمي إليه بقولنا إنّ قصيدة النثر إيقاعية غير وزنية. والشاعر الحاذق استطاع تثوير اللغة لبناء الإيقاع لديه من خلال المحسّنات البديعية والتراكيب المستحدثة، ما جعل نصّه يحظى بنبرات موسيقية شفيفة:
لم يستعر دانيال قدمين لمغادرة بابل
ولا عبوديا هرب من وجه إيزابيل!
أروع بتاريخ
يبصق على ما علق بنعاله!
يحدث الإيقاع في النصوص النثرية لدى الشاعر الفياض من خلال الموازنة في ترتيب الألفاظ في جمل وعبارات، وكذا بين جملة وأخرى وتركيب وآخر. فهو يقدّم لنا نموذجاً لغوياً إيقاعياً وفق مرجعيات لغوية يحتفي بها الشاعر لبناء الأواصر الإيقاعية داخل النصّ.
جحا يتعرّى
يلوي عنان حماره
يفتّت شتائمه عند كلّ نهيق…
معركة خاسرة
قربة تنضح عطشاً…
زمن صائم عن رفضه
أحرق لاءَه بباب الفرعون
أهدى نعمه لعصا هامان
شربت كلّ الأفواه الصمت!
على رغم أنّ الإيجاز والتكثيف من اشتراطات الحداثة، إلّا أنّ الشاعر العراقي يحاول أن يقدّم لنا شكله الحداثوي الذي يميّزه عمّن سواه. فمجمل تجاربه الحداثوية، وأخصّ قصيدة النثر، يلاحَظ عليها أنها نصوص طويلة. وهذا مما لا شك فيه يؤكد تمكّن الشاعر من بناء منظومية حداثوية طويلة مع احتفائها بكثافة لغوية. فكل مقطع من المقاطع يمثّل قصيدة بحدّ ذاته، في وقتٍ يتوه الشعراء في بناء نصّ نثريّ واحد. وهذا يحسب للشاعر الفياض قدرته الفذة ونَفَسه الشعري الطويل، ولغته الواسعة وتمكّنه منها، تجليات رائعة ومكينة لقصيدة النثر العربية من بناء وهدم وتشظٍّ، ما مكّن الشاعر الفياض من فتح أقانيم جديدة ذات مغزى فلسفي، ومنحنا رؤى البوح الداخلي بفلسفة متفاعلة والرؤى التي نعيشها:
كبير أنت
أيها الحزن!
ما حملك إلا نبيّ
قلب دار عشقاً
على يمين استقر…
لا يعرفك سلطان إلّا عند رحيله
ومهزوم ألفت رأسه ركبتاه…
البناء والإيقاع الفنّي
إنّ بنية القصيدة النثرية الحداثوية لدى عبد الجبار الفياض ترتبط بأواصر حقيقية وقصيدة العمودي. إذ إنّ قصيدة النثر، وإن انفصلت عن الطيف الشعري الكلاسيكي الذي سبقها، إلّا أنها ترتبط بأواصر حقيقية معها، وإن تخلّت عن إيقاع الفراهيدي. خصوصاً تلك التي يبنى عليها النصّ من معنى ولفظ وتراكيب وبلاغة. والشاعر عبد الجبار الفياض يدرك هذه، أو الأواصر. لذا، نرى مجمل نصوصه البلاغية تحتفي ببناء تلك الأواصر. وهذا ما يعطي قصيدة النثر العربية هويتها وخصوصيتها. فقصيدة النثر لديه نظام شعريّ يتكوّر حول نفسه، ينفتح ببداية كيفما اتفق، ويستمر وهو يسحّ على جسد القصيدة، تلك الرؤى البنائية المميّزة لدى الفياض، حتى يختم تلك الفيوضات الشعرية بنهايات مفتوحة:
لغير ما يراه
أوقفوه
طينة تخلقت على مساحة وعظ أصفر…
سلخوا نهاره من عينيه
أطفأوا كل الأصوات في أذنيه
شدّ لسانه بقفص ببغاء…
تركوا له أنفاً
جمجمة فارغة إلّا من قصاصات لا تقرأ…
هل كان الموتى يتابعون نسختهم الأخرى
بأمضاء معتوه؟
يتميّز البناء الشعري لدي الفياض بطول النصّ. وهو قلّما ما يكون مقطعاً أو مقطعين. إنما هو يتعدّى ذلك إلى مقاطع كثيرة. تتميز هذه المقاطع ببلاغة تراكيبها وفخامة تكوينها. تحتفي بحدود الزمان والمكان وفق اشتراطات مكانية حداثوية لتسحّ لنا هطولاً مشرقاً تتعرّش المجهول لتفتح نوافذ العبور نحو ذاك القابع خلف غلالة من طين:
أيها المستبطن صدور صعاليك كلّ العصور
لولا كنت قمقماً
ونزعت غطاءك المبتلّ
بدمع اليابسات من سنيّ يوسف
الضارعات من سنوات موسى
داميات الحجّاج…
لاختفى زبدٌ
ورمٌ
نابٌ وظفرٌ
وتبسّم الغفاري بوجه الصبح
وكان الخبز لكلّ فم!
يعمد الفياض إلى الكثافة اللغوية لدج هندسته البنائية خدمة للفكرة المطروقة في النصّ. فهي كتلة صلدة بعدّة أطياف. وهو يقدّم لنا لوناً من ألوان الشعر أشبه ما يكون بالموشور متعدّد الأطياف والرؤى. وهذا ديدنه إذ يعدّ الفياض من الشعراء القلائل الذين تمكّنوا من فهم البروس بشكل عام وقصيدة النثر الحداثوية بشكل خاص:
القابعون خلف الوجع
لا يتألّمون…
ينزعون وجوههم حين تتساقط أوراق التوت
مما يلاحَظ في نصوص الشاعر الفياض، وبشكل جليّ، احتفاء نصوصه بنوعين من الإيقاع. وهنا لا نعني بالضرورة إيقاع الفراهيدي، أو الإيقاع الداخلي. كلّا، فهذا مما لم يتيسر للبعض ممّن تناولوا تجربة الفياض الشعرية، أن يتنبهوا له. ونعني بهذين الإيقاعين: الإيقاع المعنوي، والإيقاع الشكليّ الظاهر.
الإيقاع المعنوي
لا بدّ من إدراك أنّ اللفظ كونه كلام وخطاب صادر من المتكلم، وموجّه إلى ذهنية المتلقي، هو صورة معنوية وإيقاع معنوي، على رغم مرافقته صورة شكلية وإيقاعاً شكلياً للمفردة. وقصيدة النثر الحداثوية هي أطروحة للشعر الاختزالي. فهي تختزل الشكل وتحتفي بالمعنى، سواء كان صورة أو إيقاعاً. فذهنية المتلقي تعمل على استقطاب تلك الثنائية الإيقاعية لدى تناول نصوص الفياض الحافلة بها:
لم يستعر دانيال قدمين لمغادرة بابل
ولا عبوديا هرب من وجه إيزابيل!
أروع بتاريخ
يبصق على ما علق بنعاله!
الإيقاع الشكليّ الظاهر
بعدما تخلّت قصيدة النثر الحداثوية عن إيقاع الفراهيدي المموسق، اتّجهت إلى إيقاع اللفظة والمفردة والتركيب. وهذا يؤكّد ارتكازها على اللغة كونها الميدان الذي تقوم عليه. ونصوص الشاعر عبد الجبار الفياض تحفل بإيقاع بلاغيّ هو من فيوضات تلك التراكيب البلاغية المستحدثة، وأوجه البلاغة من استعارة وتشبيه وبناء شكلي للنصّ من خلال الجمل الإسمية والفعلية وشبه الجملة، وهي في كل هذا مستحدثة بفعل الإزاحة الرائعة التي يوردها الفياض هنا:
أيها الموصول بأورام أرض أتعبتها لغرباء قدم
يكفي أن أصبحت أسفلتاً تحت عربات خضار لم تأكلها…
مجمرة
تتلذّذها سيقان محظيات بأوراق البترول…
شاة
يرسم لها الجزّار خارطة للذبح!
باحث وناقد عراقي