الرابحون: ألفا وأوميغا الاتفاق النووي لإيران
حاتم الشلغمي – تونس
عندما سألت صحيفة «واشنطن بوست» هنري كيسنجر 92 عاماً ، أحد مهندسي السياسة الخارجية الأميركية، بشأن تحوّل موقف الولايات المتحدة من الملف النووي في إيران مقارنة بالموقف في السبعينات، وعن عدم الاكتراث بـ«إسرائيل» رغم امتلاكها رؤوسا نووية، فكان جوابه كيسنجريا محضاً: «كانت إيران حليفاً للولايات المتحدة، إذن كانت تحتاج إلى الطاقة النووية وكان لزاماً على حكومة الولايات المتحدة دعم الشاه بكلّ الوسائل لتطويرها. أما الآن فهي ليست حليفاً، عكس إسرائيل التي هي حليف استراتيجي دائم في منطقة الشرق الأوسط، بل بصفة أدق هي دولة تابعة للولايات المتحدة، لهذا فهي ترث الحقّ لفعل ما يسرّها». هكذا قام هنري كيسنجر بتلخيص المسألة سياسياً حول إيران بطريقته الخاصة والبسيطة والماكرة في آن واحد، لكي نفهم أنّ عقدة الولايات المتّحدة الرئيسية تتمثّل في أمرين متتاليين: الأول، كيف تكون الولايات المتحدة المتحكّم الرئيسي والأوحد في طاقات البلدان وثرواتها، بذلك يكون كلّ العالم تابعاً وخاضعاً لإرادة إدارتها، والثاني هو كيف تكون «إسرائيل»، وريثة الولايات المتحدة في المنطقة، أيّ مفتاح الفصل في تحقيق ذلك.
لقد شكّل التحالف الاستراتيجي العضوي بين عقل المحافظين الجُدُد، الذي لم يحد باراك أوباما عن أسس اشتغاله وعقله السياسي، وبين العقل الصهيوني الشاروني، الذي واصل بينيامين نتنياهو بناء رؤيته السياسية ومقارباته على أسسه. هذا التحالف الذي تشكّل وتعزّز على أنقاض الحرب الباردة، مستفيداً من نتاجات انهيار الاتحاد السوفياتي وخلو العالم من معدِّل لموازين القوى والسياسة الدُّوٓليتين، مما سهّل انفراد الولايات المتّحدة بالتدخّل الخارجي، عبر تعزيز نظرية «الخروج إلى ما وراء المحيطات حماية لمصالحنا أيّ الأميركيين إلى أن انكشف أساس هذا التحالف وهذه الهيمنة من خلال العبارة الشهيرة التي صرّح بها جورج بوش الإبن، الرئيس السابق للولايات المتحدة، «من ليس معنا فهو ضدّنا» لتصبح هذه العبارة مرجعية أساسية لهذا التحالف القائم على القوة العسكرية لفرض الهيمنة، ومن خلال ما سبق تقوم «إسرائيل» – «الوريث الرسمي» كما ذكرنا أعلاه على لسان كيسنجر- على صياغة السياسات ومصالح الولايات في منطقة الشرق الأوسط التي من أهمّها: تصفية الصراع العربي- الصهيوني، السيطرة على كلّ ثروات المنطقة الطبيعية من نفط وغاز ويورانيوم وغيرها، احتواء الاحتقان الشعبي في كلّ المنطقة الممتدّة من مراكش إلى باكستان لإعادة صياغة واقع جيوسياسي قائم على أساس ديني طائفي وعرقي يضمن – بطبيعة الحال- هيمنة «إسرائيل» واستراتيجيا احتواء القوى الكبرى أو المؤهلة لمنافسة الولايات المتحدة على مكانتها الدولية، ونذكر منها إيران على سبيل المثال.
مثّل الملف النووي الإيراني أحد أبرز العناوين التي رسمت وقائع المنطقة، هذا إنْ لم نقل أصل العناوين، منذ أثني عشر عاما إلى أن تُلِيٓ نصّ الاتفاق الإطار في 2 نيسان 2015 إلى حين توقيع الاتفاق النهائي المرتقب في الأيام القليلة المقبلة، لتدخل إيران نهائياً، بموجب هذا الاتّفاق، نادي التكنولوجيا النووية السّلمية الدولية مُفتكّة حقّها في تطوير أبحاثها النووية وإنتاج الطاقة في دورة متكاملة بعقل وإرادة ويد إيرانية بامتياز، علاوة على ما سيحقّقه بند رفع العقوبات عليها من كسر القيود المالية والاقتصادية التي بقيت تكبّلها منذ عقود خصوصاً بعد الإفراج عن اعتماداتها وتعاملاتها المالية التي تبلغ، بحسب مصادر، 150 مليار دولار، مما سيتيح الفرصة كاملة لتكون إيران قوة اقتصادية حقيقية علاوة على كونها تعتبر قوة عسكرية، تنظيمية، سكانية وجغرافية بطبعها وذلك أساساً بفضل قدراتها الذاتية عبر جيش العلماء والمهندسين ثم من خلال دعم من تشاطرهم إيران الثورة رؤيتهم الإستراتيجية ضدّ الهيمنة والإمبريالية الصهيونية والرجعية. ولهذا الملف الشاق والشيّق في آن جانبين اثنين:
ألفا – جانب تقني
ما أن تُلِي نصّ الاتّفاق الإطار، حتى سارع الرئيس أوباما في إلقاء كلمته حول هذا الاتفاق الذي عدّه «تاريخياً» وأخذ في تعداد شمائل الاتفاق بحسب التقدير الأميركي، بمعنى آخر رصد التنازلات الإيرانية. ومن الموضوعية أن نقرّ بطبيعية التنازل في أيّ مشهد «توافقي». فالرئيس الأميركي، الذي ظلّ مبتسماً طوال كلمته حول الاتفاق، استند عند كشف أول «تنازل» إيراني، وهوعدم توصّل إيران إلى اكتساب قنبلة نووية إلى فتوى قائد الثورة التي ترجع إلى عشر سنوات والتي تحرّم امتلاك هذه القنبلة لأسباب شرعية دينية وإنسانية إلخ… وتمّ ترويج هذا «التنازل» في وسائل الإعلام الغربية والعربية على كونه «انتصاراً» يحول دون إقدام المنطقة نحو التسلّح في المجال النووي. وبهذا يكون أول تنازلات إيران عن هدف غير موجود أساساً في برنامجها البحثي والعلمي النووي، وبهذا يكون الحديث في الميديا عن «إرغام إيران على التخلي عن هدف امتلاك قنبلة نووية» يعدّ لغطاً إعلامياً مجّانياً لترويض رأي عام لطالما تمّت تهيئته على استعداء إيران. فالمتابع الموضوعي للملف النووي يدرك أنّ التنازلات التي قامت بها إيران هي فقط ضمانات حول شفافية برنامجها السّلمي، ودفعاً لأيّ حُكم أو شبهة في نية امتلاكها للقنبلة النووية أو أسلحة دمار شامل، فلإيران قدرات عسكرية هائلة واكتفاء ذاتي من أسلحة وآليات تبرق بصر أيّ عدو محتمل، ولأنّ روسيا كانت ولا تزال الضامن لسلمية نووي إيران فإنه يتمّ الإتفاق على ترفيع نسق التعاون العسكري بين البلدين الذي سينتج عن حصول إيران على أحدث الأجهزة والتقنيات العسكرية الدفاعية الروسية. إضافة إلى أنّ روسيا متعهّدة بتأمين كلّ ما تستحقّ إيران في العملية التقنية. فعندما يتحدّث البعض عن تخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي إلى الثلث ليصل الاتفاق إلى تخصيص 6104 جهاز بعد أن كان 19500 جهاز لا يدركون أنّ أيران تقوم بتصنيع وتطوير هذه الأجهزة بقدراتها الذاتية وأنّ أكثر من نصف ما تمتلك إيران من هذه الأجهزة تنتمي إلى الجيل الأول IR-1، وأنّ بنود الاتفاق تتيح لها تركيب أجهزة متطورة طيلة الفترة المتفق عليها 15 سنة لتتمكّن إيران من استغلال حتى الجيل الثامن منها IR-8، وبهذا تكون إيران قد ضمنت كامل دورة التخصيب منذ البحث إلى غاية إنشاء الطاقة ضمن دورة تقنية بعقل وساعد إيرانيين بحت. بحيث أنّ كلّ ما تمّ التحدّث عنه من تنازلات، سواء في ما يخصّ نسبة التخصيب 3,67 في المئة أو عدد أجهزة الطرد المركزي أو إبقاء مفاعل «فوردو» على دوره البحثي الفيزيائي، أو تفعيل دور الوكالة في المراقبة الدورية، هي بمثابة ضمانات لإنجاح سلمية هذا البرنامج، فالهدف الرئيس لإيران هو افتكاك حقها في التخصيب والبحث وامتلاك التكنولوجيا، وإنْ كان الوصول إلى الأهداف البعيدة مرحلياً. بل أظهرت ايران مرونة في كلّ ذلك رغم مماطلة الولايات المتحدة واستصدارها لنقاط اشتباك تفاوضية أخرى مثل تفتيش المواقع العسكرية الايرانية، والذي تمّ الرّد عليه بالرفض التامّ من قبل ايران، وهذا حق سيادي طبيعي، لأنها تدرك جيّد أنّ الهدف الحقيقي لكلّ ذلك هو الجانب السياسي.
أوميغا- الجانب السياسي
لقد شكّل الجانب السياسي في عملية «تخصيب» الاتفاق بين دول 5 + 1 وإيران الجزء الأهمّ من محاولات ثني الولايات المتحدة إيران عن الحصول على التكنولوجيا النووية التي ستمكّنها من تطوير كلّ مجالاتها العلمية وبالتالي الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية. ولئن كانت فلسطين مرجعية للعقل الإيراني النضالي وعداء «إسرائيل» التي وصفها قائدة الثورة الراحل الإمام الخميني بـ«الغدّة السرطانية التي يجب أن تزول» وحمل على عاتقه السياسي مهمة دعم القضية الفلسطينية دعماً قانونياً ومؤسسياً علاوة على تقديم الدعم الكامل لحركات المقاومة في فلسطين، وخصوصاً في لبنان، حيث أصبح حزب الله في المنطقة القوة الوازنة «التي لا تُردٓع» ، كما جاء على لسان السيد حسن نصر الله، في مقاومة ومواجهة المشاريع الصهيو-أميركية التي تحضّر للمنطقة. ولو أنّ تصريحات بنيامين نتنياهو الرافضة للاتفاق الذي وصفه بأنه «أسوأ مما كان متوقعا»، يكفي من أن يُعدّ هذا الاتفاق ممتازاً خلافاً لما يُراد ترويجه حول «تنازلات إيران عن دعم حلفائها في المنطقة بمجرّد أنها قبلت قاعدة الاتفاق مع خصمها، وبهذا يعدّ تشكيكاً في نظرة إيران حيل الغرب، رغم أنّ الاتفاق لم يتضمّن تطبيع أية علاقات مع الولايات المتحدة، خصوصاً أنّ قادة الجمهورية الإسلامية وحلفاءها في المنطقة قد أكّدوا مراراً أنّ إيران رفضت وضع الاتفاق التقني في موازاة أيّ ملف من ملفات المنطقة، فبالعكس لقد مثّل الاتفاق تجاوزاً مباشراً لدور «إسرائيل» الوريث والمفتاح كما ذكرنا وهذا يحدث لأول مرّة منذ قيام هذا التحالف.
منذ قيام الثورة في إيران، والتي حدّدت خطوطها العريضة في إنشاء التحالفات ورسم السياسات التي تعادي مشروع الهيمنة الأميركية، عملت الولايات المتحدة على تعطيل ما أسمته مراكز دراساتها «الانقلاب العالمي في موازين القوة»، وذلك عبر تكريس نظرية جيواستراتيجية «كرة النار» القائمة على تغذية التوتّرات العسكرية في مناطق العالم، وذلك من منطلق السيطرة المبكّرة على أيّ خطر محتمل وموجه نحو المصالح القومية والاستراتيجية الأميركية المنتشرة في شتّى بقاع العالم. ولقد تحدّث جورج بوش، الرئيس الأميركي السابق، عن هذه النظرية في حزيران 2002 أمام خرّيجي الأكاديمية العسكرية قائلاً: «إنّ سياسة الردع والاحتواء التي ظلت تستخدم قوتنا طيلة القرن العشرين لا تكفي في مواجهة أنواع جديدة من الخطر، وعلينا أن نقوم بخلق سياسات جديدة تفوق ذلك»، وهذا ما يفسّر انحصار جغرافيا الصراعات في منطقة الشرق خصوصاً، أين تكمن سلسة القوة التي تمتدّ من روسيا إلى سورية مروراً بالصين وإيران. وهذا ما يفسّر كلّ تلك الأحداث التي ابتدأت من أفغانستان قصد منع تقاطع استراتيجي يجمع روسيا، الصين وإيران، وصولاً إلى مشروع «الربيع العربي» التي عدّها السيد حسن نصر الله «النسخة الثانية من مشروع الشرق الأوسط الجديد»، والذي يهدف إلى تحقيق الأهداف المذكورة أعلاه من تقسيم وهيمنة عبر نظرية «الجغرافيا المضطربة» لولا أنّ صمود الجيش العربي السوري وقوى المقاومة في وجهه للحؤول دون تحقيق أهدافه الاستراتيجية الكبرى…
من الموضوعية عدّ هذا الاتفاق الإطار اتفاق الرّابحين، خصوصاً بعد قيام الولايات المتحدة الأميركية بكلّ جهودها وطاقاتها وأدواتها لكسر إيران ومنع تعاظم قوة القوى الماضية نحو تشكيل التوازن الحقيقي في بناء السياسة الدولية الجديدة التي يبقى السلم والاستقلال أهمّ أهدافها.
فالمشكل في النووي الإيراني قد عبّر عنه الرئيس بشار الأسد سنة 2010 على كونه «مشكل معرفة، أن الغرب لا يخاف من امتلاك إيران القنبلة النووية فهو يعلم جيداً عدم حاجتها لها، ولكنه لا يريد لأيّ دولة نامية امتلاك المعرفة وخاصة في المجال النووي الذي يعتبر من أرفع المجالات العلمية الذي يكتسب مستقبلاً وأفقاً علمياً واسعاً. إذن فازت إيران، بفضل نهجها المرن، باللبنة الأولى التي ستؤمّن لها قفزة تنموية واقتصادية ستتيح لها تحقيق هدفها البعيد وهو الدخول منتخب الدول العظمى كدولة سابعة رغم محاولات الغرب وأساليبه العدائية. وما ينتظر إيران وحلفاءها طوال هذه المرحلة حتى الوصول إلى توقيع الاتفاق التنفيذي المُلزِم، وحتى بعد توقيعه، آخر خيارات الكسر من حلف الرّافضين لهذا الاتفاق، وربما ستكون أصعب مرحلة من تاريخ المنطقة، خصوصاً في سورية والعراق واليمن وفلسطين، وما على إيران وحلفائها سوى المزيد من الصمود والمواجهة للارتقاء إلى خانة الرّابحين بخطاب الحق التاريخي الذي يشكّل السلم والسيادة أهمّ حاجاته وقواماته.