الدولة ومكوّنات المجتمع القطري تفاعلات التهميش السياسي-الاجتماعي ٤/٣
ورقة قدمت إلى المؤتمر القومي العربي الدورة 26 المنعقدة في بيروت في 2-3 حزيران 2015
د. ساسين عساف
الإسلام السياسي
الدولة القطرية الواحدية والمركزية الصلبة قبل التحوّلات الحاصلة في الوطن العربي: العراق سورية مصر – الجزائر اليمن ، بدأت تشهد حركات احتجاجية متنامية طابعها فئوي طائفي ومذهبي وإتني، جاءها الإسلام السياسي فعمّق الانقسامات بين مكوّناتها ورسّخ فروقات بنيوية وثقافية حادّة. الإسلام السياسي كما تمارسه بعض الحركات هو حكماً إسلام مذهبي من شأنه تعميق الانقسامات بين مكوّنات المجتمع القطري وفرض سلطة حاكمة فئوية وتغييب مفهوم الوطنية عن الدولة والمجتمع أفراداً وجماعات ما أوجد تناقضاً بين الوطنية والإسلام. قبائل وطوائف وأعراق ومذاهب ولغات لم يستطع الإسلام كدين وثقافة بما له من قوّة تأثير أن ينجز تكاملها الوطني ما يثبت أنّ الدين ليس عاملاً توحيدياً بالضرورة بل له من يستغلّه لجعله عامل تفرقة. منظومة القيم العربية والإسلامية تعرّضت لاختراقات واسعة بفعل العولمة الثقافية ما أفقد المجتمعات العربية منعتها في صراع الهويات الحضارية.
غياب دولة الحقّ وحكم القانون
فقدان التجانس الاجتماعي له آليات ضبط وعلى رأسها القوانين العادلة التي تضعها دولة الحقّ وشبكة علاقات إنسانية ومصالح ومنظومة قيم وعادات تبسط التوازن والتكامل بين مكوّنات المجتمع. الدولة القطرية لم تعرف حكم القانون العادل ما انعكس سلباً على شبكة العلاقات ومنظومة القيم. الدولة القطرية بفضل أنظمة الاستبداد والحكم الفئوي فشلت في تحقيق التكامل الوطني. السلطة المركزية المطلقة والمتغوّلة توظّف مؤسسات الدولة لحسابها الخاص وتمنع مؤسسات المجتمع من تشكيل السلطة البديلة. هنا المجال العام يتحوّل إلى ملكية خاصة يتصرّف بها الحاكم كيفما شاء. التناقض بين الدولة/السلطة الاستبدادية والمجتمع من أهمّ الديناميات التاريخية الفاعلة في انهيار الدولة القطرية.
عدم الكفاءة في إدارة التنوّع والتعدّد
التعدّدية في المجتمعات القطرية ليست مفتعلة بل هي من طبيعة تكوينية وجودية. تكون مصدر قوّة وغنى ثقافي وحضاري وتماسك وطني في دولة تحسن إدارة التعدّد أو التنوّع وتكون مصدر نزاع وتفكّك في دولة نظام حكمها لا يعترف بالتعدّد والمشاركة كما كانت عليه أنظمة الحكم في الدولة القطرية. بعض هذه الأنظمة راهن على نجاحه في خلق اندماجات أو انصهارات مصطنعة سرعان ما انكشف زورها فتصدّعت فور ضعف الأنظمة أو انهيارها.
مجتمع أهلي لا مدني
غلبة معايير المجتمع الأهلي على معايير المجتمع المدني مسألة سهل رصدها في المجتمعات القطرية آخذاً بالاعتبار التفاوت النسبي بين مجتمع وآخر. المجتمع الأهلي مفكّك بطبيعة تكوينه والمجتمع المدني يقوم على فرضية التماسك بشرط الاستقلال عن السلطة والتمتّع بثقافة مقاومة التوظيف والتمويل الخارجي. إنّ بعض التجارب خصوصاً في مصر لبنان لا تؤشّر إلى إمكان التعويل على مؤسسات المجتمع المدني لبلورة متّحد اجتماعي فاعل وقادر على بناء دولة متماسكة.
الدولة ومكوّنات المجتمع القطري… تفاعلات التهميش السياسي ـ الاجتماعي
انعدام مفهوم المواطنة في تحديد علاقة الدولة بالمواطنين وعلاقة المواطنين ببعضهم البعض، ظاهرة تكاد تكون عامة في مجمل الدول العربية. وهو أحد أهمّ عوامل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها، فالتهميش بأشكاله كافة خصوصاً التهميش السياسي وإلغاء الحقّ في المشاركة بفعل تحكّم العوامل الإيديولوجية بالسلطة أيّاً كان شكلها أو عقيدتها لعدم اعترافها أصلاً بتعدّدية المكوّنات السياسية في المجتمعات العربية إذ أنّ الفكرة الاندماجية كما كانت عند التيّار القومي أو السلطوية المطلقة كما هي عند الحاكم الفرد كانت هي المسيطرة على المنهجين الفكري والعملي، ما أشعر بيئات الإسلام السياسي وبيئات الشباب العربي الليبرالي بأنّها المستهدفة من هذين التهميش وإلغاء الحقّ في المشاركة.
هذا الخلل البنيوي في تركيب السلطة الوطنية مشدوداً إلى خلل بنيوي آخر من طبيعة اجتماعية طبقية رافق الدولة القطرية حتى انهيارها أو حتّى وصولها إلى شفير الانهيار أو هي في الطريق إليه بفضل ما أنتجه من هويات وطنية منقوصة ومتصادمة.
بدأت تفاعلات التهميش السياسي ـ الاجتماعي باحتجاجات قابلة للاستيعاب فتمكّنت منها السلطات القائمة وفق تدابير خاصة تراوحت بين حدّي القمع والاستجابة.
في السنوات الأربع من عمر «الربيع العربي»، تحوّلت تفاعلات التهميش إلى «ثورة» قادتها في البداية حركات شبابية متحرّرة وطنية نزيهة عربية وحدوية سيادية حضارية سلمية ثمّ التحقت بها واستغلّتها تنظيمات إسلامية بدعم خارجي أميركي ـ غربي ـ تركي واضح وفق أجندات تقود إلى تسلّم السلطة في غير قطر عربي.
في مصر واجهتها ثورة شعبية مضادّة حظيت بدعم الجيش المصري. في تونس دخلت في ائتلاف حاكم لتمرير المرحلة الانتقالية. في سورية انكفأت لمصلحة تنظيمات إسلامية مسلّحة. في اليمن تحوّلت إلى ثورة حوثيّة. في ليبيا تحوّلت من أطلسية إلى قبلية ـ إسلامية إلى حروب مركّبة. أمّا في البحرين فالقيادات الشيعية تقود حركات الاحتجاج والتظاهر.
كيف لهذه التفاعلات أن تعود إلى المسار الطبيعي «للثورة الشعبية» التي بشّرت بإطلالة «الربيع العربي» وحالها انتهى إلى ما انتهى إليه من تدمير وفوضى واحتراب ما أدخل الدولة القطرية في مصير مجهول.
لقد عملت التدخّلات الخارجية الدولية والإقليمية على تغذية التفاعلات الضدّية في المجتمعات العربية باسم العدالة وإنصاف الطوائف والقوميات وإقامة الأنظمة الديمقراطية، فعمّمت العنف والإرهاب وأغرقتها في الحروب الأهلية فأصاب التفكّك بعض الدول العربية فأعيد تركيبها على أساس طائفي لبنان أو على أساس طائفي ـ إتني العراق أو على أساس ديني السودان ، ما يعني أنّ الدول المرشّحة للتفكّك سيعاد تركيبها وفق هذه النماذج، ما يعني تالياً أن الوحدات الوطنية القطرية لن تبنى على أساس وحدة الشعب. فكيف لمشروع الوحدة العربية أن يعبر إلى حيّز الواقع ومنه إلى مساحة الوطن العربي كلّه والشعوب القطرية لم تقم لها وحدة؟!
من هنا، نفهم أنّ الأسس التي ستبنى عليها الوحدات الوطنية تؤشّر إلى عدم إمكان إنجاح المشروع الوحدوي أو توفير فرص إنجاحه.
فضلاً عن التدخّلات الخارجية العاملة على إعادة صياغة الدول القطرية دينامية التفاعلات الذاتية داخل الأقطار تغذّي بدورها أرجحيّة التفكّك والانهيار. إذا كانت مصر قد نجحت في إنقاذ وحدتها بتلاحم الجيش وأكثرية شعبية موصوفة، وإذا كانت تونس قد نجحت في إنقاذ وحدتها بائتلاف وطني واسع وبدستور إصلاحي مدني متقدّم وبانتخابات نيابية حرّة ونزيهة، فالأمر نفسه قد لا يصحّ في ليبيا واليمن وسورية ما يقدّم أطروحة التفكّك على أطروحة الوحدة.
تماهي الدولة القطرية بالنظام السياسي، مصير الدولة القطرية من مصير الأنظمة، العراق نموذجاً
تماهي الدولة بالنظام يختلف بين دولة عربية وأخرى. الدولة في مصر وتونس لم تتفكّك بانهيار النظام أو تغيير الحاكم على خلاف ما هي عليه الدولة في ليبيا واليمن والعراق.
في مصر وتونس لا مؤشرات لوجود نزعات انفصالية على خلاف ما هي عليه الحال في شرق ليبيا وجنوب اليمن وشمال العراق.
الأنظمة الاستبدادية الفئوية كل نظام استبدادي مدني هو حكماً فئوي، وكلّ نظام استبدادي ديني هو حكماً مذهبي تقسّم المجتمع إلى أديان وطوائف ومذاهب وسلالات وقبائل وعشائر وقوميات وأقليات للسيطرة عليه، تحتكر الهوية الوطنية وتوزّع على مكوّناته الهويات الفرعية وتغذّي تناقضاتها فيتعذّر بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة الحقّ والمشاركة المتاحة لجميع المكوّنات، وتبقى سلطة الاستبداد الفئوي قائمة. سلطة قويّة ومجتمع ضعيف تلك هي المعادلة الناتجة من تطبيقات الأنظمة الاستبدادية.
النظام العراقي السابق تمكّن من ضبط التناقضات البنيوية في المجتمع العراقي وتفاعلاتها فأنجز وحدة قسرية لم تندمج فيها جميع مكوّناته الدينية والقومية ولم تتعامل معها على أساس المساواة في الحقوق وفي الواجبات فقامت الدولة واستمرّت بقوّة النظام لا بقوّة المجتمع. لذلك ما أن سقط النظام حتى انهارت الدولة وعمّ الانقسام وراح كلّ مكوّن يبحث عن الصيغة الضامنة لحقوقه ومصالحه الذاتية.
الصيغة الفيدرالية كرّسها الدستور العراقي الحالي والتزمتها المكوّنات الأساسية المنخرطة في العملية السياسية منذ الاحتلال حتى اليوم. ولكن التطوّرات الميدانية بعد إعلان «الدولة الإسلامية في العراق والشام» وبروز دور إقليم كردستان العراق في مواجهتها مدعوماً من جهات إقليمية ودولية تجعل السؤال مشروعاً عن مصير الصيغة الفيدرالية.
الصيغة الفيدرالية على مستوى مكوّنات الدولة القطرية تؤدّي إلى كيانات سياسية مفكّكة وهزيلة ومرتبطة بأجندات خارجية ما يلغي إمكان تجاوز هذه الصيغة إلى صيغة الدولة الوطنية المستقلّة القويّة بقوّة مجتمعها وليس بقوّة نظامها. قوّة الأنظمة ما لم تستمدّ قوّتها من قوّة المجتمع تدمّر الدولة والمجتمع معاً.
وعليه، تغيير الأنظمة يصاحبه دائماً البحث عن الدولة بحيث يبدو أنّ المطلوب هو إعادة بنائها لذلك تبدو الدولة القطرية في وضع تشكّلي دائم. اللاّ استقرار هو الصفة الملازمة لها. مصير النظام الحاكم يحدّد مصير الدولة. تلك مفارقة خاصة بالدول العربية. من طبيعة الأمور أن تتغيّر الأنظمة السياسية وتبقى الدولة الكيان السياسي ثابتة. هذا في الدول التي اكتسبت شرعية وجودها من إرادة أبنائها، في حين أنّ الدول العربية اكتسبت شرعية وجودها إمّا بإرادة استعمار وإمّا بإرادة حاكم. من هنا جاء هذا الربط العضوي بين نظام الحكم والدولة. تفكّك النظام ينذر بتفكّك الدولة هذه هي القاعدة المستمدّة من تجارب تغيير الأنظمة في الدول العربية، فأمسى النظام أكبر عدو للدولة.
«الربيع العربي» الذي كان له أنّ يغيّر أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية انتهى إلى مكان آخر، بات يطرح فيه مصير الدول المعنية ومصير الدول المنتمية إلى الإقليم الجغرافي نفسه بداعي التداخل بين مكوّنات الإقليم الديموغرافية والجيوسياسية. بهذه الوظيفة التفكيكية يرى بعض المحلّلين «الربيع العربي» ولأجلها لاقت قواه الأساسية الإسلامية الدعم الإقليمي والدولي الساعي إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط فزعزعة استقرار الأنظمة تمهيداً لإسقاطها تخطّت الرغبة في إسقاطها إلى إسقاط الدولة العراق، ليبيا، اليمن، سورية .
مصر تمكّنت من تخطّي إسقاطها. والنظام الحالي يستقرّ تدريجياً بنسج علاقات دولية متوازنة وبعملية سياسية داخلية متاح دخولها أمام جميع القوى المؤمنة بالديمقراطية، وبالتشدّد في ضرب الإرهاب في سيناء وسواها فضلاً عن الدعم الاقتصادي الذي توفّره لها السعودية والكويت والإمارات. هذا لا ينفي وجود القبضة العسكرية والأمنية على مفاصل النظام لأنّ مصر لم تعد تتحمّل أيّ معارضة مسلّحة أو عنفية تقودها إلى انهيار أمني واقتصادي وسياسي.
من هنا إنّ احتمالات تمكّن مصر من مواجهة الفوضى المسلّحة التي قد تأتيها من الحدود الليبية أو من سيناء قويّة للغاية. والولايات المتحدة حتى اليوم لم تجد في علاقات مصر الإقليمية والدولية ما يهدّد مصالحها الحيوية ما يعدّ عاملاً مؤاتياً لاستقرار النظام.
تونس بدورها تمكّنت من تخطّي الانقسام الداخلي والحرب الأهلية في مرحلتين مرحلة الحكم الائتلافي الانتقالي ومرحلة إقرار الدستور الجديد وإجراء الانتخابات الرئاسية. أصلاً تونس كدولة لم تكن مستهدفة من أيّ مخطّط تفكيكي لا داخلي ولا خارجي. الهدف منذ البداية كان واضحاً: إسقاط النظام الأمني. وإسقاط النظام في تونس لا يمكن أو يفضي إلى انهيار الدولة لأنّ مكوّنات الشعب التونسي هي أقرب إلى التجربة المدنية الحديثة في إدارة النزاعات والتنوّع.
سورية
أما سورية فنظامها ما زال يقاوم السقوط وثمّة تعادل في موازين القوى قد يسمح لاحقاً للنظام بأن يسجّل بعض النقاط الإيجابية لمصلحته خصوصاً بعد سيطرة مقاتلي «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على مناطق واسعة من سورية. لقد تمكّن النظام من إدارة الحرب في الاتجاه المعاكس: من حرب كونية عليه إلى حرب كونية على داعش من دون التخلّي عن خطّة إسقاطه فالتبدّل أصاب الأولويات ما يشير إلى أنّ النظام لن يسقط في المدى المنظور. هذا لا يعني أنّ الخطر على وحدة الدولة السورية قد زال. فتقسيم سورية مشروع حيّ ومستمرّ بصرف النظر عن إرادة الشعب السوري سواء منه المؤيّد للنظام أو المعارض.
«… علينا إحراق سورية من الداخل. وهذا ما يحدث الآن». كيسينجر، من مقابلة له مع صحيفة نيويوركر، آب 2012 .
لقد دخلت سورية مرحلة لم يعد فيها النظام قادراً على حماية نفسه من تفاعلات العوامل الداخلية والخارجية بما فيها التدخّل العسكري الدولي إنّه ضدّ داعش في المرحلة الراهنة. من يضمن ألّا يتحوّل ضدّ النظام في مرحلة لاحقة؟ وخطر هذه التفاعلات على وحدة الدولة السورية يتعاظم ما دامت المواجهة قائمة على أرضها بين المحور الأميركي ـ الصهيوني ـ الغربي والمحور الروسي ـ الصيني ـ الإيراني وحلفائهما الإقليميين والمحلّيين.
هذه التفاعلات جعلت الوضع في سورية معقّداً ومركّباً لدرجة بات فيها وضع بلاد الشام برمّته أمام خرائط جيو – سياسية جديدة يرتاح لها الكيان الصهيوني.
اليمن… من القبلية إلى المذهبية إلى الحروب المركّبة
العملية السياسية التي أعقبت سقوط علي عبد الله صالح وضعت اليمن على أبواب حرب أهلية وعرّضته لحرب تشنّها عليه قوى التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية. الوضع الراهن في اليمن ينذر بمزيد من التفكّك وانهيار الدولة وليس أمام اليمنيين سوى خيارين إمّا العودة إلى الحوار بإشراف الأمم المتّحدة والتفاهم على إعادة تركيب الدولة ونظامها السياسي وإقامة سلطة شرعية تمثيلية وإمّا الدخول في حرب أهلية معقّدة التركيب والولاءات والأهداف يستحيل معها اجتناب مغامرات التقسيم والانفصال.
مخرجات مؤتمر الحوار الوطني واتفاق السلم والشراكة يؤكّدان حق الشعب اليمني بمكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية كافة في العودة إلى الحوار والتصدّي لما يهدد وحدة اليمن وأمنه واستقراره وتماسكه في وجه المؤامرات الخارجية التي تريد الزج باليمن في حروب أهلية.
وحدة اليمن لن تتحقّق بدون تسوية سلمية والعودة إلى طاولة الحوار وإشراك جميع القوى في العملية السياسية.
ليبيا
«الربيع الأطلسي» دمّر ليبيا نظاماً ودولة وقادها إلى احتمالات السقوط النهائي. القوى السياسية مفتّتة. الثروة منهوبة والاقتصاد ينزف. والشعب الليبي يبدو أنّه العدو الأكبر لنفسه. سلطة حكومية لا سيادة لها وجيش ليبي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية وحوار لتسوية شاملة على قاعدة الوحدة الوطنية مؤشّرات نجاحه تبدو ضئيلة: صراعات بين القبائل، صراعات بين قوى الثورة، بين عرب وأفارقة، بين سلفيين جهاديين والجيش الليبي.
السعودية
السعودية ليست في مأمن من تفاعلات الحرب على اليمن وفيه ، وليست في مأمن من تفاعلات الحروب في العراق وبلاد الشام فاستقرار نظام الحكم فيها العائد أصلاً إلى قوّة اقتصادها يواجه تحديات تأتيها من خارج حدودها لتجد في الداخل ما يحدّ ويضعف إمكان التصدّي لها: الفجوات التي هي على اتساع مطّرد بين الطبقات الاجتماعية، الحراك الشيعي في المنطقة الشرقية قد يخرج عن «الطاعة» إلى الثورة في حال لقي الدعم الكافي من إيران على شاكلة ما هو قائم في اليمن والبحرين، الدعوات الليبرالية الآخذة في التصعيد خصوصاً لجهة حقوق المرأة والتعبير السياسي. زد إلى كلّ ذلك الخلافات البينية التي قد تنشأ داخل الجيل الثالث للعائلة الحاكمة. هذا لا يعني بالطبع أنّ النظام السعودي مهدّد بالسقوط ولكنّه سيرتبك بالطبع نتيجة الحرب التي يقودها في اليمن والحروب الدائرة في جواره ما لم يعمد إلى وقفها والإسهام الفعلي في إنهائها وإيجاد الحلول السلمية التي تؤمّن الاستقرار الإقليمي الشامل.
ما أردنا قوله هو أنّ معادلة سقوط النظام وتفكّك الدولة صحيحة حتى في الدول العربية المستقرّة التي لم تصبها تداعيات «الربيع العربي».
الدولة القطرية وصيغ الحكم القومي ـ جدلية الانهيار
إنّ أخطر ما يواجه مشروع الوحدة العربية هذا السؤال: لماذا انهيار الدولة القطرية أو ملامحه أصاب الدول التي قامت فيها صيغ الحكم القومي كالعراق وسورية والسودان واليمن ومصر والجزائر؟
صيغ الحكم القومي للدولة القطرية انهارت وبانهيارها انهارت الدولة أو هي فقدت تماسكها الداخلي. من يتحمّل المسؤولية؟ صيغ الحكم القومي أو بنية المجتمع القطري؟ سوء إدارة أم عطب في الصيغة؟ أم عدم التزام للفكر القومي أم عدم صلاحية هذا الفكر للتطبيق في الواقع القطري؟
نسأل وقد تتعدّد الإجابات بتعدّد وجهات النظر عند أصحاب الفكر القومي وعند خصومه إنّما الثابت واقعياً أنّهما معاً الصيغة والدولة في جدلية انهيار متبادل.
الإيديولوجيا القومية القائمة على فكرة الوحدة لم تهزم وهي تغطّي مساحة الوطن العربي.
الأحزاب والحركات القومية التي حكمت باسمها لم تتمكّن من تغطية ما يتجاوز حدود دولتها القطرية فارتدّت إلى الداخل القطري وصرفتها عن مشروع الوحدة العربية موجبات تثبيت سلطتها في مجتمعات معقّدة التركيب ومتعدّدة الانتماءات الما فوق والمادون وطنية الانتماء الديني والانتماء العشائري فضلاً عن الإتني وما يرافقها من نزاعات متأصّلة في بنياتها الفكرية والعقيدية والقيمية فاستخدمت «عنف الدولة» تحت عنوان حماية الوحدة والسلم الأهلي. العنف يستجرّ العنف في مجتمعات لا تنطبق عليها مواصفات المجتمع السياسي ما أدّى إلى عسكرة الأنظمة وقيام سلطة الاستبداد المطلق.
التفاعلات الضدّية في المجتمع القطري والعربي عموماً يقوّيها تياران: التيّار القومي بمكوّناته كافة والتيّار الديني بمكوّناته كافة على الرّغم من محاولات التنسيق والتعاون التي قامت بها مكوّنات من الطرفين. مثال تلك التفاعلات الأظهر ما حصل منها والحاصل راهناً في مصر وسورية منذ عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد امتداداً حتى اليوم.
بهذا المعنى بنية المجتمع القطري لا تتقبّل بسهولة الصناعات الإيديولوجية الجاهزة والمسقطة عليها من بنية ثقافية طموحة أو انقلابية على السائد. بالنظر إلى هذه المسألة المعقّدة في العلاقة بين بنية المجتمع القطري وبنية الإيديولوجيا وصيغ ترجمتها إلى أنظمة حكم تمّت استدراكات على المستويين العملي والنظري لإيجاد مساحة ائتلاف وتوافق أو مصالحة بين التيّار القومي من موقع السلطة والقيادة والتيّار الديني من موقع المعارضة، خفّت في إثرها حدّة التباينات ولكنّها عادت وطفت على سطح الواقع مع مجيء «الربيع العربي» على قاعدة أنّ «الإسلام هو الحلّ البديل».
ذهب البعض إلى تحميل صيغ الحكم القومي في الدول التي حكمتها مسؤولية التردّي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري والأمني وذهب البعض الآخر إلى أبعد من ذلك حين تجاوز صيغ الحكم واعتبر أن الإيديولوجيا القومية القائمة على فكرة الوحدة العربية تحمل في ذاتها عطباً تكوينياً بتخطّيها مكوّنات المجتمعات والدول القطرية.
بسلاح الديمقراطية ووجهت صيغ الحكم القومي. وفشلها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع أعاده البعض إلى طبيعة الحكم الاستبدادي. هذا الرأي صحيح ولكنّه لا يمتلك كلّ الحقيقة لأنّ قراءة حفرية سوسيو ـ ثقافية في قاع المجتمعات القطرية تظهر كمّية التراكم التسلّطي المتحكّم بمفاصل الحياة العامة والمركون في أذهان القيّمين عليها. هذه المقاربة العلمية لا تبتغي تسويغ الحكم الاستبدادي بل لتظهر أنّ السلطة من خارج الحكم لا تقلّ شراسة عن السلطة في الحكم.