حلفان ومنهجان يتقابلان في هذه الحرب
د. فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السورية
خلال أربع سنوات ونصف من الحرب على سورية تقابل حلفان، انقسم العالم بينهما، حلف يملك المال والسلاح ويعمل لإسقاط سورية ويظن لكونه يضمّ الدول الأوفر مالاً وسلاحاً ومقدرات في العالم والمنطقة، والأقلّ تمسكاً بالقيم والأخلاق في السياسة، فهو الأقدر على تحقيق النصر، لأنه يقابل حلفاً تتوسطه سورية لا قدرة له على المنافسة بالمال والسلاح والمقدرات، وتقيّد حركته حسابات المصالح الوطنية لدوله ومصالح شعوبها، والطبيعي أن تحسب هذه الدول كثيراً كلّ قرش سيدفعه شعبها في أيّ مواجهة وكلّ مخاطرة بقطرة دم ستتكبّدها، وهو حساب لا تقيمه الدول الاستعمارية أمام الفرص التي تراها لتحقيق أطماعها على حساب شعوب العالم، ولا الدول التابعة لها في المنطقة والتي تتحرك بأوامر أسيادها من جهة، وبحساب أنها قادرة بالمال الذي تحرم شعوبها من التنعّم بخيراته أو بتخطي الأخلاق، أن تستأجر من يدفع الدماء عنها، وبالتالي أن تحقق ما تريد.
تقابل حلفان، حلف يملك المال والسلاح والأطماع ومتحرّر من موازين القيم، وحلف لدول مستقلة تعمل وفقاً لمصالح شعوبها وتقيّدها الأخلاق والقيم ومصالح شعوبها ومقدراتها محدودة، حلف يملك خططاً جاهزة وإمكانات مرصودة بلا حدود، وحلف يُصاب بالذهول لما يرى ويحتاج وقتاً ليرسم صورة الحقيقة واضحة أمامه ويضع خططاً للكيفية التي سيتصرّف بها وحدود المخاطر التي ستمسّ بشعوب بلدانه إذا انكفأ عن المواجهة، وحدود الاستهداف الذي يطاول قراره المستقلّ إذا أصابه التردّد، ولما يحسم خياراته ويحدّد موقعه وقراره، يصير حلفاً يحتاج إلى تحديد حجم الموارد التي يستطيع رصدها للمواجهة، ورسم خطط دفاعية لصدّ ارتدادات هذه المواجهة وتدعيم مواقع القتال فيها، وصولاً إلى امتلاك وصفة صناعة النصر .
مع بداية الحرب أدركت القيادة السورية وعلى رأسها الرئيس بشار الأسد أنّ سورية تواجه حرباً عالمية إقليمية كبرى، وليقينها بمعرفتها بشعبها أدركت أنّ المبادرات الإصلاحية الجادّة والصادقة ستعزل مشروع الحرب عن أيّ بيئة شعبية حاضنة يراهن عليها، وأنّ الوقود الوحيد لمواصلة الحرب هو استجلاب التنظيمات الإرهابية من أصقاع الدنيا للقتال بالنيابة عن أصحاب قرار الحرب، وأدركت في المقابل أنّ لهذه الإصلاحات دوراً أيضاً في تسهيل فهم صورة ما يجري في سورية بين كونه أزمة داخلية أو حرباً خارجية، بين كونه نزاعاً حول مفهوم السلطة أو على تسلّمها، أو كونه حرباً عالمية إقليمية لتغيير مكانة سورية في الجغرافيا السياسية للمنطقة من جهة، وتصفية حساب معها كرمز للدول المستقلة في الشرق الأوسط والعالم من جهة أخرى، وأدركت بالتالي أنّ الزمن اللازم لتبلور وعي حقيقة الحرب، وأهدافها الاستعمارية، وأدواتها الإرهابية، هو زمن يفترض بسورية أن تحمل أوزاره وأعباءه وحدها وأن تصمد وهي تضع المبادرات السياسية في المقدمة، بينما أعداؤها يستفيدون من الوقت لتنظيم خطط وإمكانات حربهم عليها .
وعندما تتحدث سورية عن حلف مقابل حلف الحرب عليها تدرك أنه حلف غير موجود وأنّ عليها إنشاءه بالصبر والمثابرة والاستثمار على صمودها من جهة، ووضوح الصورة بكلّ أبعادها من جهة أخرى، واستنهاض وعي شعبها وقدراته من جهة ثالثة، لكنه في النهاية حلف حدّدت سورية قواه منذ البداية من موقع فهمها لطبيعة الحرب وأهدافها والقوى المتورّطة فيها والأدوات المستخدمة لتحقيق أطماعها اللاأخلاقية والمعادية لكلّ ما هو إنساني والبعيدة عن كلّ معايير القانون والقيم والأخلاق.
حدّدت سورية حلفاءها، باختيارها وتقديرها وحساباتها، فتوجهت بثقل عملها الديبلوماسي نحو كلّ الدول المتمسكة بقيمة الاستقلال الوطني، والتي تنبع قراراتها من مصالح شعوبها، كدول مستهدفة بكسر الحلقة التي تمثلها سورية في سلسلة الدول المستقلة والرافضة لسياسات الهيمنة والاستتباع، وكلّ الدول المدركة لخطورة تنمية التنظيمات الإرهابية وتقديم التسهيلات لها رهاناً على استعمالها في تحقيق مصالح سياسية ضيقة، ونحن هنا نتحدّث عن جبهة واسعة من الدول والحركات السياسية على مساحة العالم، لكننا نتحدث بصورة مباشرة عن مثلث يتقدّم هذه الجبهة العالمية يضمّ روسيا كدولة رائدة في مفهوم الاستقلال الوطني وهي واحدة من الدول الكبرى في العالم وإيران الدولة المستقلة الصاعدة إقليمياً بقوة خيارها الاستقلالي وحزب الله القوة الشعبية التي تمثل روح المقاومة العربية التي تملك إرادة الاستقلال الوطني وتعبّر عنها.
لا حاجة اليوم إلى استعراض يوميات نمو هذا الحلف وكيفيات توسع مجالاته وتكامل أطرافه، وقد صارت الحقائق أشدّ وضوحاً للعدو والصديق، لكن المهمّ أنّ سورية أدركت أنّ الاستثمار على عناصر القوة في هذا الحلف، يبدأ من كونه حلف الصدق والمصداقية والأخلاق ومصالح الشعوب وقرارها المستقلّ، وبالتالي تحويل هذه العناصر التي يراها معسكر الأعداء نقاط ضعف في سورية وحلفائها إلى أسباب مضاعفة للقوة .
يكفي أن نتذكر كيف تكامل موقف وسلوك سورية وروسيا وإيران وحزب الله يوم جاءت الأساطيل الأميركية إلى البحر المتوسط بنوايا العدوان والحرب على سورية قبل عامين، ويكفي أن نتذكر كيف ولد التفاهم على الحلّ الديبلوماسي للسلاح الكيماوي السوري، وأن نتذكر معارك القصيْر ويبرود والقلمون، وأن نستعرض مواقف الحلفاء بدعم اقتصاد سورية وجيشها وموقفها السياسي، وفي المقابل إسهام صمود سورية في صناعة مشهد إقليمي دولي جديد منح الحلفاء فرص الدفع نحو تغيير نمط العلاقات الدولية والإقليمية باتجاه صيغ تتسع فيها شروط شراكة الدول المستقلة في صياغة القرارات الدولية والإقليمية، ومن سيؤرّخ لمرحلة التحوّل الكبير في الوضعين الدولي والإقليمي حيث يقول أصدقاؤنا الروس بثقة أن لا قدرة للولايات المتحدة على حلّ أيّ أزمة في العالم بمفردهم بعد اليوم، ويتصرّف أشقاؤنا الإيرانيون باعتبارهم قوة إقليمية عظمى لا يمكن تجاهلها في كلّ ملفات الشرق الأوسط، وكيف يعيد حزب المقاومة صياغة موازين الردع في وجه كيان الاحتلال والعدوان، سيضع كلّ ذلك مرادفاً للحرب التي صمدت واستبسلت فيها سورية شعباً وجيشاً ورئيساً في وجه غزوة القرن الواحد والعشرين التي تعادل حرباً عالمية ثالثة .
اليوم وقد بدأ الذين تورّطوا في الحرب على سورية يرون في موسكو محجة لهم ويقدّمون على كرسي الاعتراف فيها وأمام قادتها شهاداتهم بالقلق من تمدّد خطر الإرهاب إلى بلدانهم، ويستشعرون أنّ سورية تخوض الحرب بالنيابة عنهم وعن العالم حتى لو لم يعترفوا بذلك، وتتقدّم موسكو لملاقاتهم بمبادرة لحلف في وجه الإرهاب، فهذا يفرح سورية بأنّ يكون صمودها وحسن إدارة شؤون الحرب والأدوار فيها قد أوصل الذين تورّطوا بالحرب إلى موسكو يقصدونها حائط مبكى وكرسي اعتراف، ويفرحها أن يكون الحلّ في سورية أساسه مبادرة روسية كانت أول من اطلع على تفاصيلها وأول من بارك وانفتح على مضامينها، تأسيساً على الثقة بصدق نوايا وصوابية منهج صاحبها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صديق سورية ورئيسها وشعبها، فإنّ سورية المنفتحة بكلّ إيجابية على هذه المبادرة تنتظر اليوم لترى الأفعال التي تترجم معنى استشعار خطر الإرهاب بوقف هذه الدول لكلّ أشكال التمييز بين الإرهابيين، والكفّ عن العبث بالرهان على استخدامهم في وجه سورية، وإيقاف كلّ أشكال التسهيلات الممنوحة لهم مالاً وسلاحاً وإعلاماً وملاذاً آمناً، خصوصاً أنّ سورية تعلم بالتفاصيل كيف يجري تزويد منظمات كجبهة «النصرة» و«داعش» بالمال والسلاح والرجال، وكيف يجدون لهم في الأردن القواعد وغرف العمليات بالتنسيق مع الاستخبارات «الإسرائيلية»، وكيف تقدم حكومة رجب أردوغان لهم كلّ أسباب القوة وتبيع النفط المنهوب لحسابهم وتمرّر لهم أحدث أنواع السلاح، وكيف تضع حكومات أخرى منابرها الإعلامية والدينية في خدمتهم وتسخرها لخوض حربهم النفسية والإعلامية.
إنّ سورية بالتفاهم مع حلفائها في روسيا وإيران وحزب الله وسائر الحلفاء على مساحة العالم ستواصل في آن واحد حربها المفتوحة على الإرهاب حتى اجتثاثه من التراب الوطني لسورية وإعادة بسط سلطة الدولة وجيشها وأجهزة أمنها وحدها فوق هذا التراب، وفي الوقت نفسه الانفتاح والاستعداد لتطوير كلّ فرص إيجابية لحلف يضمّ الراغبين الصادقين بمكافحة الإرهاب على مستوى العالم والإقليم، ومواصلة السعي إلى حلّ سياسي يفتح الباب لمصالحة وطنية ويوسع القاعدة الشعبية لمكافحة الإرهاب لتضمّ المعارضة الوطنية بكلّ مكوّناتها، وتطوير المبادرات الديمقراطية التي تنطلق من الدستور السوري وتمنح مؤسساته المزيد من مصادر القوة الشرعية والشعبية وتجعل الدولة بمؤسساتها الإطار الجامع لكلّ المكوّنات التي يتشكل منها الشعب السوري .
سورية الماضية نحو نصرها الأكيد والقريب لا تريده نصراً على أيّ من الأشقاء بمن فيهم من ظلموها وآذوها ولا كذلك على أيّ من السوريين بمن فيهم الذين ألحقوا الضرر ببلدهم وفتحوا أبوابه لكلّ أنواع التدخلات، لكن سورية لا تستطيع أن تضمّ إلى جبهة المنتصرين من يصرّون على البقاء في جبهة المهزومين، كما لا تستطيع المساومة على استقلالها وسيادتها، القيمتان اللتان سقط من أجلهما آلاف الشهداء والجرحى .
سورية وهي تمضي إلى نصرها وتراه نصراً لحلفائها معها، باستيلاد قواعد جديدة حاكمة للمعادلات الدولية والإقليمية الجديدة، تدعو إلى أخذ العبر من مقارنة بسيطة عادلة ومنصفة، بين مشهد حلفين تقابلا منذ بداية هذه الحرب، حلف لم يكن جاهزاً لها ولا يملك مقدرات خوضها، وتقيّده الأخلاق والقيم وحسابات مصالح شعوب دوله، وحلف يمتلئ مالاً وسلاحاً ومقدرات حتى التخمة، وقراراته سهلة بلا حساب للقيم والأخلاق ومصالح الشعوب، وخططه جاهزة، لتسأل أيّ من الحلفين يبدو الأثبت والأشدّ تماسكاً واقتراباً من بلوغ النصر؟