مصر مقبرة الغزاة
معن بشّور
في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، وتحديداً بعد العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي- «الإسرائيلي» على مصر، كنت ككثير من زملائي في مرحلة الدراسة الإعدادية، من هواة جمع الطوابع نتعرّف من خلالها إلى أقطارنا العربية والعديد من دول العالم.
في تلك الأيام استوقفتنا مجموعة طوابع أصدرتها وزارة البريد المصرية تحت عنوان «مصر مقبرة الغزاة» وهي عبارة عن رسوم لمعارك وملاحم خاضها المصريون ضدّ غزاة بلادهم بدءاً من الهكسوس حتى الفرنجة والمغول وصولاً إلى الفرنسيين والبريطانيين و«الإسرائيليين»، ولاحظت في ما بعد أنّ صحراء سيناء كانت ميدان تلك المعارك، فمنها كان الغزاة يحاولون التسلل إلى مصر، ومنها كان يخرج القادة المصريون لتحرير بلاد الشام من الغزاة على أصنافهم، كما كان الأمر في معركة حطين 1187م وعين جالوت 1260م .
بقيت تلك العبارة «مصر مقبرة الغزاة» ومعها عبارة «سيناء ميدان المواجهة» تتردّدان في البال طيلة العقود الستة الماضية، لا سيما مع كلّ حرب تخوضها مصر، أو في كلّ مواجهة تشهدها سيناء، وكانت ترتبط بهما دوماً تلك الوحدة في الأمن القومي العربي بين مصر وسورية حيث إضعاف أيّ قطر منهما هو إضعاف للآخر، وانه ما من مرة تلاقى القطران أو الإقليمان الشمالي والجنوبي كما في الجمهورية العربية المتحدة إلا واعتزت الأمة بلقائهما، وما من مرة تباعد القطران إلا واهتزت الأمة بكلّ مقوّماتها ومكوّناتها.
وفي الأيام الأخيرة الماضية وإثر عدوان جماعات الغلوّ والتطرف والتوحّش على القوات المسلحة المصرية في سيناء المتزامن مع تفجيرات واغتيالات في العاصمة والحواضر المصرية الأخرى، بالإضافة إلى تفجيرات الكويت وتونس ومذابح تدمر وعين العرب، تقفز إلى ذهني عبارة «مصر مقبرة الغزاة» ولأتذكر أيضاً وحدة المواجهة بين مصر وبلاد الشام في وجه مخطط تدمير دول ومؤسسات ومجتمعات وحضارات في هذه الأقطار.
وبقيت قناعتي أنّ مصر ستنتصر على «غزاتها الجدد» كما انتصرت على الغزاة القدامى، بوحدة شعبها وجيشها، كما بإجماع المصريين على استنكار هذه العمليات الوحشية الإجرامية التي تستفز مشاعر كلّ إنسان، فكيف بالإنسان المصري الطيّب المعروف بتعلقه بالسلام والأمن والاستقرار.
لقد أخطأ مرتكبو الاعتداءات في مصر في حساباتهم حين تجاهلوا حقائق كبرى في طبيعة مصر وخصائصها وأولها قوة الدولة المصرية وعراقتها، إذ هي من أقدم الدول في العالم كله، وثانيها تعلق المصريين بجيشهم خصوصاً وقواتهم المسلحة عموماً، فأبناؤهم هم أفراد هذه القوات ورتباؤها وضباطها، ثم أنّ في مصر غالبية ساحقة تنتمي إلى دين واحد ومذهب واحد ولا يمكن اللعب على النعرات الطائفية والمذهبية واستثارتها عبر استثمار الجهل والتعصّب وتحريض أبناء المجتمع الواحد على بعضهم البعض.
ربما قد يكون مرتكبو الاعتداءات قد بالغوا في الرهان على حساسيات «سينائية» تاريخية نتيجة إحساس بالتهميش، وربما يكونون قد استفادوا من منع «اتفاقيات كمب ديفيد» للجيش المصري من التواجد بقوة على أرض سيناء مما أتاح لمجموعات مسلحة أن تعبث بأمن المنطقة لسنوات وعقود على غير نحو، ولكن سيكتشفون خطأ رهاناتهم أمام إحساس أهل سيناء بواجباتهم الوطنية ومسؤولياتهم تجاه وطنهم وبلدهم.
إلا أنّ المواجهة الشاملة الاستراتيجية لهذه الجماعات المسلحة لا يمكن أن تكون أمنية أو عسكرية فقط، على أهمية الخيار الأمني والعسكري في هذه الحالة، بل يجب أن تقترن بخطة سياسية واجتماعية وإنمائية وتربوية وثقافية متكاملة، بل أن يكون عمادها الحوار الشامل داخل مصر بين كلّ مكوّنات المشهد السياسي المصري التي كانت وراء نجاح ثورة 25 يناير، طبعاً ما عدا الأطراف التي تورّطت بلعبة الدم والتفجير والاغتيالات.
ولكي ينجح هذا الحوار، فإنّ القيادة المصرية والمعارضة مدعوّتان لأخذ مبادرات لاستعادة الثقة بينهما عبر الامتناع عن أيّ تصعيد يسهم في تأزيم الأوضاع وفتح الأبواب أمام أزمة بلا سقف ومحنة تطول وتطول.
كما أنّ هذه المواجهة لكي تنجح مدعوّة لأن تكون عربية وإسلامية ودولية شاملة يشترك فيها كلّ الأطراف المعنية بالساحات المتفجرة في الوطن العربي، خصوصاً في سورية واليمن والعراق وليبيا، حيث تتوجه الأنظار نحو الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لكي يستكمل مبادرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالدعوة إلى تشكيل تحالف موسّع لمكافحة قوى الغلوّ والإجرام والتوحّش ويضمّ كلّ الأطراف العربية والإسلامية المعنية بهذه المكافحة.
هنا تبرز الأزمة السورية كمفتاح لحلّ الأزمات الأخرى، وكمدخل لمواجهة قوى التطرف في أهمّ ساحاتها، خصوصاً في ظلّ الارتباط التاريخي والاستراتيجي والقومي بين مصر وسورية أولاً، ثم بين البلدين وسائر أقطار الوطن العربي.
إنّ قمة مصالحة عربية وإسلامية موسعة في القاهرة، أو بمبادرة منها، هي الخطوة الأولى على طريق تفكيك ألغام التطرف والغلوّ المزروعة في جسم الأمة. وتسبقها قرارات من جامعة الدول العربية تلغي كلّ الإجراءات التعسّفية والعقوبات المتخذة بحق سورية منذ خريف 2011، وتواكبها مبادرات لإطلاق حوار غير مشروط بين الدولة السورية وقوى المعارضة لصياغة رؤية جديدة لسورية ما بعد المحنة في تأكيد على وحدة الدولة السورية بكلّ مؤسساتها وعلى رفض أيّ تقسيم داخلي أو رسمي، وفي الاستجابة لمطالب الإصلاح والتحديث المشروعة التي تطالب بها غالبية السوريين.
لقد نفذت قوى التدمير والتطرف والتوحّش بالتحالف مع القوى المتربّصة بأمتنا من خلال ثغرات وخلل في أنظمتنا وعلاقتها بشعوبها، كما نفذت من حال الانقسام السائد في العلاقات بين دول عربية وبينها ودول إقليمية، بالتالي فلا يمكن التخلص من هذه القوى إلا عبر مثل هذه المصالحة التي تغلق أبواب الانقسام وتعيد تصحيح البوصلة، وتوجهها نحو العدو الرئيسي والحقيقي للأمة المتمثل بالكيان الصهيوني.
إنّ التاريخ قد علمنا أنّ الأمة تستقرّ إذا استقرّت مصر، وتنهض إذا نهضت مصر، وتصون استقلالها من خلال صون استقلال مصر، وتحقق تنميتها عبر التكامل مع مصر، وتحمي وحدة مجتمعاتها الوطنية عبر الاعتماد على دور مصر وإشعاعها. فألمنا مع جراح مصر كبيرة، وأملنا بانتصار مصر أكبر.
ا لرئيس المؤسس للمنتدى القومي العربي