سهرة الأسئلة والغياب 2/2

د. محمد معتوق

كان جميل يروي القصة باسترسال كأنه يرويها للمرة المئة أو الألف. ولأنه سمع مئات الأسئلة وهو يروي هذه القصة، كانت روايته لها هذه الليلة متكاملة، فلا تكاد تبرز ثغرة حتى يسدّها بتفصيل جديد. كيف تأكد الرجل النائم من هوية السائق؟ قال إن له سناً مكسورة في مقدمة فكّه الأعلى، وكانت تلك علامة فارقة كافية. هل تأكد في ما بعد من أن الرسالة بلّغت؟ بلى، في وقت لاحق التقى جميل السائق وتبين له أن الرسالة وصلت ونفّذت.

كانت القصة مذهلة فكم من المشاكل كان حلّها يتوقف على اتصال سريع بهذا الشكل لم يمكن تحقيقه؟ كم من المآسي كان يمكن أن يتم تداركها لو أمكن إجراء مثل هذا الاتصال بهذه الطريقة. ومئة سؤال مشابه. لعلّ العالم الغربي يحلّ مشكلة الاتصالات مثلما حلّ مشكلة المواصلات. فالمترو تجاوز زحمة الشارع لأن طريقه يسير تحت الأرض. بمثل هذا الحل تحل مشكلة الاتصالات. إذا تعطلت الأسلاك أو تشابكت وتعرقلت الوسائل اللاسلكية الأخرى جيء بوسيط وأخضع للنوم المغناطيسي على يد أحد الأساتذة وأرسل في مهمة عاجلة. بدلاً من أن تعطي رقم الهاتف أو التلكس فحسب اعطِ عنوانك الواضح وكيف يمكن الوصول إليه تماماً، وبدلاً من التلكس أو الهاتف اقتنِ وسيطاً أو عالماً نفسانياً. من يشك في أن موظفين مثل هذين لن يكلفا أقل من خدمة الهاتف والتلكس. ربما أمكن في ما بعد أن تعد الصفوف والدروس الخاصة للوسطاء وكيفية تجوالهم في العالم. ستكون هناك فحسب مشكلة الوقت إذا أردت أن تتصل بالشرق الأوسط وأنت في لندن. كان عليك أن تنتظر موعد إقلاع طائرة إلى هناك وترسل وسيطك عبر النوم، وأنت تنتظر خمس ساعات أو ستاً وربما عشر ساعات. لا، لا، هذه ليست طريقة اقتصادية. لا شك أن أحداً بحث هذه القضية من قبل وإذ تبين له أن فيها هنّات وثغر لا يمكن سدّها تخلى عن الخطط كلها.

يستطيع واحدنا أن يلهو بخاطرة وسؤال: ماذا لو سقطت الطائرة التي عليها الوسيط النائم؟ هل ينجو؟ هل يمكن أن تتعرض حياته للخطر؟

لم تخطر هذه الخواطر على بال طارق للتو، فهو شخص معتدل ويكره هذه الصفة عنده ولكنه يعرف أنها جزء منه. ولذلك فهو لم يعلق على القصة ولم يلقِ أسئلة إضافية استيضاحية. كان يشعر بأن أسئلته ستتصف بالتحدي والاستفزاز وهو لا يريد لها هاتين الصفتين مع جميل، فهذا الرجل يبدو طيباً وهو يريد أن يكسبه صديقاً.

في تلك السهرة لم يعد الأربعة إلى الموضوع مرة أخرى. كانت سهرة لطيفة وقد شعر الجميع بذلك وعبّروا عن هذه المشاعر حالاً، وكذلك في اليوم التالي عندما اتصلت سلوى زوجة جميل بخديجة زوجة طارق تشكرها على لطف المعاملة وعلى كل شيء.

بقي طارق يفكر في اليوم التالي بقصة جميل ثم أشرك زوجته بالحوار الذي أقامه مع نفسه وراح يطرح أسئلة: لنفترض أن القصة صحيحة. هل كان الوسيط فعلاً في النبطية وبيروت في وقت واحد؟ وإذا افترضنا أنه كان فعلاً في النبطية باعتبار أنه غائب عن الوعي مثلما كان يجري في بيروت، فهل كان أحد يراه في النبطية؟ ربما كان لديه وعي بأنه في النبطية، ولكن هل كان لدى النبطية وعي به؟ لقد رأى السائق ذا السن المكسورة، ولكن هل رآه السائق؟ وهل يستطيع أن يتعرّف إليه إذا رآه ثانية؟ يحدث أن يرى أحدنا شخصاً ويظن أنه يعرفه من قبل، فهل تكون هذه حاله؟ هل يكون واحدنا قد سافر في الحلم المغناطيسي إلى حيث رأى ذلك الرجل أم العكس؟ وهل جاءنا الرجل مسافراً في الحلم المغناطيسي؟

بدأت الفكرة تتطوّر أكثر في رأس طارق. قد يكون الوسيط المسافر في قصة جميل استخدم جسداً آخر وظهر فيه في النبطية، إذ لا يمكن أن تكون في النبطية وبيروت في وقت واحد، وأن يكون في استطاعتك في النبطية أن تتكلم مع من تشاء وتستأجر سيارة وتشتري ساندويش ولا يكون في استطاعتك أن تقتل أحداً مثلاً أو أن تسرق أو ترتكب أي جريمة يعاقب عليها القانون. في هذه الحالة كيف يمكن ضبطك أو توجيه التهمة إليك إذا كنت تستطيع أن تأتي بأستاذك الذي نوّمك وبعض الأصدقاء الذين حضروا الجلسة وتقدمهم كشهود بأنك كنت بعيداً عن مكان الجريمة؟ وإذا كنت لا تملك القدرة على السيطرة على نفسك وكنت تحت تأثير أستاذك الذي نوّمك، ألا يمكن أن ترتكب جريمة بإيعاز منه وتكون الجريمة الكاملة لعدم ثبوت الدليل ضدك؟

انزعج طارق لأن تفكيره كلّه توجّه نحو الجريمة ومخالفة القانون. لماذا لا يفكر واحدنا في الجانب الإيجابي لأي اكتشاف بدلاً من الجانب السلبي الإجرامي؟ هل لأنه عربي ربما. ولكن عندما اخترعت الذرة كان هناك أشخاص – وهم غير عرب بالتأكيد – لا يفكرون فيها إلا كمادة للقتل الجماعي، وقد أحسنوا استخدامها في هذا المجال؟

هل استخدم الوسيط جسداً آخر؟ عادت الفكرة تراود طارقاً. من أين جاء ذلك الجسد الآدمي الآخر الذي يمكن أن يخاطبك فلا تشك في أنه حقيقي ولكنه ليس حقيقياً. ليس حقيقياً؟ بلى، والدليل أن رجلاً آخر لبسه أو تخفّى فيه. فهو إذن قناع. مجرد قناع. أو ربما علاّقة ثياب.

لكن هل يعقل أن يكون واحدنا قابل مثل هؤلاء الأشخاص على الطريق. إنك تسكن في حي سنوات عدة ولكنك كثيراً ما تلتقي أشخاصاً يستوقفونك ويسألونك عن الوقت، وربما عن أقرب مكتب بريد أو موقف تاكسي أو أي سؤال يتعلّق بالأمكنة والاتجاهات أو بعنوان قريب. هؤلاء الأشخاص لا تعود تراهم مرة أخرى. وقد يكون لأنهم زاروا الحي مرة لغرض ما حققوه أو لم يستطيعوا فيئسوا وعادوا إلى دائرتهم إلى حيّهم إلى بلدتهم، مدينتهم أو ربما إلى وطنهم. فربما كانوا أجانب أيضاً. وقد يكونون من مثل الجسد الذي لبسه الوسيط في قصة جميل. قد يكونون كلهم أجساداً لا حياة مستقلة لها بل هم يُستعارون لمثل هذه المهمات كي لا يصاب بالذعر من يصادفهم ويبتعد عنهم فلا يرد على سؤالهم ولا يسديهم الخدمة التي يرجونها. تصوّر جسداً مثل هذا يكون أشبه ما يكون بسيارة أو أوتوبيس ذات مرأب تبيت فيه بعدما تنتهي من وظيفتها. ترى، هل تكون لهذه الأجساد مرائب تعود إليها بعدما تنتهي من مهمتها؟

أسئلة كثيرة لها بها تفكير طارق ووجهها إلى زوجته كمن يفكر بصوت عالٍ. وكانت هي مأخوذة بهذه التساؤلات، بل راحت تروي له قصة الرجل الذي صادفته ذات يوم عند زاوية الشارع وهو يسير مع كلبه، ثم تذكّرت أنها شاهدته عدة مرات بعد ذلك لكن في الثياب نفسها وفي الزاوية عينها. لا يعقل أن يكون هو مثل تلك الأجساد المستعارة، اللهم إلاّ إذا كان قد أرسل في مهمة حددها له منوّم مغناطيسي أوروبي ليسيّر الكلب في نزهته اليومية المعتادة. مثل هذه المهمات، علّقت خديجة، معتبرة هنا في الغرب. الكلب أهم من الإنسان. ثم شعرت بأنها تردد «كليشيهات» فاستخدمت ذكاءها وأعادت ترتيب الفكرة في صيغة أخرى جسد آخر؟! : هنا الإنسان يعمل في خدمة الكلب لا العكس. هنا قد تجد إنساناً جائعاً ولكن لن تجد كلباً جائعاً…

بقي طارق يلهو بالفكرة وهي تتطوّر وأحسّ بأنها تصلح مادة للكتابة خيالية: قصة، فيلم، خرافة، إلخ… لكن بقي السؤال: أين تذهب هذه الأجساد بعد إنهاء مهمتها؟

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى