8 تموز… اغتالوا سعاده لأنه قاد الثورة القومية من أجل فلسطين والأمة

معن حمية

من يقرأ مقدّمات ثورة تموز ومسارها ونتائجها، يكتشف في العمق أنّها ثورة قومية ردّاً على نكبة فلسطين، ومن أجل وحدة الأمة وقوتها وسيادتها وحريتها.

ولأنّ الأحداث الهامة تستحقّ وقفة أكثر تأنّياً وأشمل تدقيقاً، لا بدّ من الاستنارة بمذكرات من عاصروا تلك المرحلة ولعبوا أدواراً فيها. ومن بين أولئك الوسيط الذي جمع الزعيم أنطون سعاده بحسني الزعيم، واسمه الدكتور صبري قباني، وقد نُشرت مذكراته في مجلة «الدنيا» الدمشقية عام 1950.

يقول الدكتور قباني في مذكراته إنّ لقاءات أنطون سعاده بحسني الزعيم حصلت في ربيع 1949، وإنّ البحث كان حول كيفية الردّ على نكبة فلسطين التي وقعت في 1948، وذلك بمبادرة من الحزب السوري القومي الاجتماعي لقيام حكم قومي في بيروت متحالف مع دمشق، ليشكل انطلاقة الردّ على المشروع الصهيوني.

لقد كان هاجس سعاده الأساس الردّ على نكبة فلسطين التي وقعت في 1948، والتي حذّر من حدوثها قبل ذلك بثلاثة عقود، لا الردّ على هجوم الكتائب المفتعل في الجميزة. وهذه إضاءة هامة جداً، تستند إلى الشاهد الرئيسي، الذي كان الوسيط بين سعاده وحسني الزعيم ودوّنت في مذكراته عام 1950.

ويتطابق ما جاء في تدوين هذه المذكرات مع توجهات سعاده المعبّر عنها بوضوح في تلك المرحلة، من خلال خطبه ومقالاته، ويعدّ ردّه على خطاب بن غوريون في أول حزيران 1949 من أبرز هذه المستندات.

يقول سعاده: نحن مستمرّون اليوم في خطتنا. إنّ الدولة اليهودية تخرّج اليوم ضباطاً عسكريين! وإنّ الدولة السورية القومية الاجتماعية التي أُعلنت عام 1935، تخرّج هي أيضاً ضباطاً وعسكريين، ومتى ابتدأت جيوش الدولة الجديدة الغريبة تتحرّك بغية تحقيق مطامعها الآثمة والاستيلاء على بقية أرض الآباء والأجداد، ابتدأت جيوشنا تتحرك بتطهير أرض الآباء والأجداد وميراث الأبناء والأحفاد من نجاسة تلك الدولة الغريبة. هذا ليس آخر جواب نعطيه، لأنّ الجواب الأخير سيكون في ساحة الحرب متى قرّرت القيادة القومية إعلان الحرب!

ما ورد في الردّ على بن غوريون يؤكد أنّ تركيز سعاده هو على مشروع دولة قومية، تنتقل من الإعلان الحقوقي في خطاب حزيران 1935 إلى التنفيذ الفعلي في سنة 1949 بتحمّل أعباء معركة التحرير وتخريج ضباط عسكريين في مواجهة المشروع الصهيوني. ولقد كان يعدّ فعلاً لقيام هذه الدولة.

لقد أشار عدد من معاصري تلك الفترة في مذكراتهم إلى أنّ إعدادات الثورة القومية كانت قائمة قبل حادثة الجميزة، فالقوميون يعدّون العدّة، منذ نكبة فلسطين وإعلان سعاده الاستنفار لها «جرائد جرائد» والبدء بدورة صف الضباط لقيادة هذه الجرائد في الثورة الذي أخذ يعدّ لها.

أقرب أصدقاء رياض الصلح سعيد فريحة يقول: «إنّ مجلس أمن الدولة برئاسة رئيس الحكومة قد برّر بصورة سرية جداً مداهمة القوميين واعتقال زعيمهم، وحدّد لتنفيذ خطة المداهمة والاعتقال ليلة الأحد في الخامس من حزيران».

وبالتأكيد فإنّ الحكومة اللبنانية كانت عارفة بمشروع الحزب إعداد الثورة وأرادت بقطع الطريق على إعداد الثورة المرتقبة أن تقطع الطريق عليها بحادث الجميزة المفتعل، والذي اتخذته مبرّراً مناقضاً للمنطق في أن تقبض على الزعيم ورفقائه، فتقبض على المعتدى عليهم بدل القبض على المعتدين.

حادث الجميزة لم يكن صدفة، وفات البعض الإشارة إلى أنّ رئيس الحكومة رياض الصلح مهّد لذلك بمصالحة «الكتائب» و»النجادة»، فجمعهما قبل الحادث ليسدّ كلّ الثغرات الشعبية في توجيه الضربة. وهذا دليل يسقط كلياً ما ورد في كتابات البعض ومنهم الكتائبي جوزيف أبو خليل بأنّ الحادث كان وليد ساعته.

يشير متابعون استناداً الى أنه في الفترة بين 9 و 12 حزيران بعد حادثة الجميزة وقبل 8 تموز جاء إلى بيروت موفدان غربيان، الأول هو البريطاني وليم سترانغ قائد عام المتوسط، والثاني هو الأميركي سام كوبر مساعد مدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية الأميركية، والاستنتاج أنّ الزيارة المتزامنة ليست مصادفة، كما أنها «لم تكن حلقة في سلسلة الصراع الانكلو ـ أميركي، مع العلم بأنّ الصراع كان قائماً».

قد تكون زيارة الموفدين غير ذي أهمية أمام ما ذكره أحد رجال المخابرات الأميركية مايلز كوبلاند في كتابه «لعبة الأمم» الصادر عام 1974، وقد روى أساس المسألة بوقائعها السوداء من دون لبس ولا إبهام، وكشف عن علاقة المخابرات الأميركية بحسني الزعيم، وأنّ حسني الزعيم جيء به لتوقيع اتفاقيتين خطيرتين: التابلاين والهدنة مع اليهود. وكوبلاند يُعتبر من أهمّ المصادر الأجنبية حول تلك الحقبة، وسبق أن كان أحد أهمّ مصادر تقييم الجانب التآمري على ثورة تموز.

يشهد الوسيط الدكتور صبري قباني، أنّ حسني الزعيم كان مطاوعاً لآراء سعاده منجذباً إلى شخصه، موافقاً على خططه، وأنه أهدى سعاده مسدّسه دليل العهد الذي نكثه لاحقاً وخان الأمانة.

لقد ظهر حسني الزعيم بمظهر المخالف لحقيقته وحقيقة ارتباطاته وبمظهر الانقلابي المصلح ضدّ الإقطاع، وضدّ ترهل الحكم وفساد الإدارة، وفساد الأسلحة، بعد نكبة 1948، وحين اعتمد عليه سعاده كان ينهج النهج الرصين والسليم في التخطيط، آخذاً بالاعتبار البعد الاستراتيجي لدمشق ظهيراً للثورة، لما لدمشق من موقع ثقل ووزن في خريطة الأمة، خصوصاً من تأثير كبير على الوضع في لبنان، في كلّ الأوقات والعهود.

لذلك فإنّ قيام حسني الزعيم بتسليم سعاده إلى الدولة اللبنانية، كان طعناً بالظهر، وخيانة متعمّدة، وذلك تنفيذاً لقرار دولي أميركي ـ بريطاني ـ صهيوني، ضدّ كلّ من يعترض على اتفاقي البترول والهدنة، فكيف سيكون الأمر بالنسبة إلى سعاده الذي أعلن حرباً لا هوادة فيها على الصلح مع اليهود، وعلى توقيع اتفاقية التابلاين، باعتبار الولايات المتحدة منحازة إلى الصهاينة.

إنّ ساعة اغتيال سعاده عند المعسكر الدولي الصهيوني المعادي، دقت حين طالب في زمن مبكر جداً باستعمال البترول كسلاح استراتيجي، ضدّ المآرب الصهيونية والاستعمارية، وحين رفض الهدنة، حتى مجرد الهدنة مع اليهود!

المسألة كانت أكبر من اللاعبين الصغار، حسني الزعيم وبشارة الخوري ورياض الصلح، المسألة كانت مواجهة مع القوى الدولية ذات المصالح الكبرى، الولايات المتحدة وبريطانيا المتنافستين على النفط، والمتفقتين على تصفية من يدعو إلى تحرير النفط أو تحريكه ضدّ الاستعمار، والصهيونية التي أقامت كيانها بدعم الغرب غير المحدود لها.

إنّ سعاده كان يمثل القوة الجديدة الصاعدة لمنازلة هذا التنين، كما أعلن ذلك في خطاب دير الغزال: «ما أخبث التنين الذي ننحدر لمنازلته وسحقه، إنه تنين متعدّد الرؤوس، كثير البراثن والمخالب حادّ الأنياب… إنها أنابيب النفط التي يبيعها الفساد للأجنبي بيعاً، أنابيب ما أشبه انسيابها في أرضنا بتلك الأفاعي التي تنساب نافثة سمومها! إنها الرشى تعطى لأبناء الذلّ، لورثة الظلم في الأمة، ليعلنوا ما لا يريد الشعب إعلانه، لا ليعلنوا إرادة الشعب، بل إرادة الأجنبي المفروضة على الشعب لذله».

«إنها اليهودية الجديدة المتصهينة الزاحفة تحت سلاح أنترنسيوني عظيم واسع، إنها الاحتكارات الخصوصية في شعبنا».

بهذا الخطاب وغيره من الخطب رسم سعاده مشهد المواجهة، مشهد التصدي لكلّ القوى المعادية في منعطف خطير من المؤامرة على بلادنا، وهو نهج أكبر بكثير من السعي إلى إقامة نظام علماني ضدّ النظام الطائفي في لبنان، فهذا جزء من الاستهداف لا كلّ الاستهداف، بل الهدف هو تجميع قوة الأمة في مواجهة المخطط المعادي.

بتخصيص أشدّ وأدقّ، يكتب سعاده في مقاله الشهير «البترول سلاح أنترنسيوني لم يستعمل بعد» ضدّ تصديق اتفاقية التابلاين فيرسم استراتيجية مقاومة شاملة للمصالح الأجنبية المتحالفة مع العدو الصهيوني. وهو ما لم يقترب منه أكثر القادة جذرية في طوال نصف قرن من الصراع العربي ـ الصهيوني. إنها استراتيجية جذرية لم يكن بإمكان الحلف الدولي الصهيوني احتمالها.

ربط النفط باستراتيجية المواجهة خط أحمر في السبعينات كان بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فكيف وأنّ الدعوة الأشمل كانت في سنة 1949.

يقول سعاده: «معروف أنّ اتفاقية التابلاين تهمّ الحكومة الأميركية، فيتضح من مجرد تصديق اتفاقية التابلاين الأميركية أننا لم نستعمل هذا السلاح البترولي للحدّ من تأييد الولايات المتحدة لليهود في لوزان وفلسطين والأمم المتحدة، وتركنا الولايات المتحدة تستمرّ في تأييدها لليهود، وجازيناها بتصديق اتفاقية حساسة هامة، تهمّها جداً لمستقبل العمليات الحربية المقبلة.

موقف سعاده من اتفاقية التابلاين واضح جداً بالرفض، ومن اتفاقية الهدنة مع اليهود، حيث يقول: «لو كانت الدولة السورية أصغت إلى دعوتي من زمان، لما رأينا أبناء أمتنا سوريّي فلسطين يخرجون من ديارهم ويشرّدون». الجيل الجديد 21 نيسان 1949

في الثمانينات خاض الوطنيون والقوميون في لبنان حرباً قاسية ضدّ العدو الصهيوني والحلف الأطلسي كله وانتصروا. وكان عمقهم الاستراتيجي دمشق، إلا أنّ قيادة الرئيس الراحل حفاظ الأسد، ومن ثمّ الرئيس بشار الأسد، تحفظ الذمم وتصون العهد وتشرّف الالتزام القومي. أما في العام 1949، فإنّ حاكم دمشق غدر بسعاده وطعن الثورة القومية، بوقف المدد عنها، وحال دون تدفق القوميين عبر الحدود، فأجهض اندفاعها.

بعد أن تجمّعت الأدلة على عرقلة حسني الزعيم لتدفق الرجال والعتاد، وظهور نياته السلبية ضدّ الحزب يشير عدد ممّن عاصروا الثورة إلى أنّ رفقاء سعاده طلبوا إليه مغادرة دمشق، ويشير صبري قباني إلى حديث جرى بين الزعيم والرفيق صبحي فرحات الذي كان يقود سيارة الزعيم به إلى درعا، حول ضرورة مواصلة الطريق إلى الأردن، لكن سعاده في تلك اللحظات الفاصلة، تصرّف بمسؤولية القائد القدوة الذي لا يدّخر وسعاً، حتى حياته، لإنقاذ الثورة والحزب. فطلب سعاده في منتصف الطريق من صبحي فرحات أن يعود إلى دمشق وتوسّله فرحات حرصاً على سلامة الزعيم، بل إنّ الرحلة أساساً كانت بطلب رفقاء سعاده للحفاظ على الزعيم إدراكاً لقيمة حياته وعطائه على رأس الحركة. لكن سعاده هو الذي أمر بالرجوع، لأنه أراد كما قال لصبحي فرحات ألّا يدّخر ولو أقلّ الفرص، وأكثر الفرضيات ضآلة من دون محاولة ثني حسني الزعيم عمّا هو مقدم عليه.

لم يعتقل سعاده وهو فارّ، لم يعتقل سعاده وهو مختبئ، ذهب سعاده إلى المخاطر الأشدّ، بإدارته المصمّمة لعله ينقذ الثورة والحزب. هنا تبرز فرادة الثامن من تموز، هنا تبرز الشهامة في وجه الغدر، والفروسية في وجه المؤامرة، ويبرز تجرّد الإنسان من ذاته في سبيل القضية.

حين تكلم حسني الزعيم داعياً سعاده الى تصفية حسابه مع طالبيه من رجال الأمن اللبنانيين، كان الصغير الذي يزداد صغره، وسعاده العملاق يلتفت إليه باحتقار: أين العهد والمسدّس عربون العهد والشرف العسكري؟

حسني الزعيم وحاشيته، ومحسن برازي الذي كان ينقل إلى رياض الصلح عن لقاءات سعاده بحسني الزعيم، ورياض الصلح وبشاره الخوري وكلّ هؤلاء هم لاعبون صغار. المؤامرة كانت أكبر من منفذيها المحليين، كانت مؤامرة دولية صهيونية على سعاده الرافض والمقاوم للصلح مع العدو وللاتفاقات والمصالح مع حلفائه.

وسعاده كان يقود حزباً قومياً له شأنه، وسعاده كان يعدّ لثورة يردّ فيها على نكبة فلسطين بتبديل معادلات في الهلال الخصيب.

وسعاده اعتمد على العمق الاستراتيجي، لكن حاكم دمشق يومها خانه لأنه كان شريكاً في المؤامرة.

وسعاده بعد ان اقترب من حدود السلامة لحياته وشخصه فضل هو بِإرادة مصمّمة ان لا يدّخر وسعاً ولو أقلّ الفرص لإنقاذ الثورة.

في هذا الإطار تفهم أحداث ثورة تموز واستشهاد سعاده، وهذا ما وثقته مراجع العدو والصديق في ضوء أين كان موقع سعاده وحزبه في خضم الأحداث الكبيرة.

من حق ثورة تموز ان تدرس بتدقيق… ونعتقد جازمين أنّ ثورة تموز التي قادها سعاده واستشهد في سبيلها، من أجل إصلاح النظام السياسي في لبنان الذي ما زال قائماً بكلّ ترسّباته، هي في الأساس ثورة قومية في سبيل بناء الدولة السورية القومية الاجتماعية التي تشكل دمشق عمقها الاستراتيجي كما هي الحال اليوم.

بالتحليل الموضوعي المستند الى الحقائق والوثائق، وبالقراءة المتأنية على امتداد نصف قرن ونيّف نجد إجماعاً من كلّ الباحثين والدارسين والكتاب على أنّ برنامج الثورة في شقه اللبناني ما زال لبنان واللبنانيون بحاجة إليه، لأنه يشكل ضمانة صمود لبنان وانتمائه القومي في الردّ على المؤامرة الصهيونية. وبذلك يتأكد أنّ مضمون الثورة رداً على نكبة فلسطين والمؤامرة الدولية الصهيونية.

بعد 66 سنة على اغتيال باعث النهضة السورية القومية الاجتماعية ألا يجدر أن يُحاكَم النظام الطائفي الذي حاكم الزعيم صورياً من دون أدنى وجه حق.

بعد 66 سنة على استشهاد سعاده، ما من خيار أمامنا إلا الاقتداء بثورة تموز في مواجهة الإرهاب والتطرف وفي مواجهة المؤامرة الصهيونية الدولية على أمتنا وحقها وحقيقتها.

مدير الدائرة الإعلامية في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى