البعد الثقافي في العقيدة والحزب
د. نسيب أبو ضرغم
المطّلع على نشوء الحزب السوري القومي الاجتماعي، يدرك مدى اتّساع الثقافة وعمقها في كينونة العقيدة، وفي بناء الحزب. فليس غريباً أن يكون في السلطة التنفيذية للحزب مجلس العُمد عمدة للثقافة. وهذا أمر يعتبر خرقاً لمفاهيم ذاك الزمان، وإرساء لقاعدة جديدة في الحياة الحزبية والسياسية في سورية. وليس مستغرباً ذلك إذا ما وقفنا على حقيقة النهضة السورية القومية الاجتماعية، من حيث هي نهضة أمة بكلّ ما للكلمة من معنى. ومن الوجهة التفصيلية، نقف مثلاً عند المبدأ الأساسي السابع من مبادئ الحزب السوري القومي الاجتماعي، والذي يقول «تستمدّ النهضة السورية القومية الاجتماعية روحها من مواهب الأمة السورية وتاريخها الثقافي السياسي القومي».
يشكّل هذا المبدأ الروح الثقافية المتماهية بكافة تفاصيل العقيدة القومية الاجتماعية وعناصرها. فالنهضة القومية الاجتماعية التي أطلقها سعاده، روحها مستمدة من ثقافة الأمة وتاريخها. وبهذا المعنى، فإن الثقافة القومية هي روح النهضة ومضمونها. لقد تأسّس على هذه القاعدة عمل فكري وثقافي فاعل في الحياة الفكرية، سواء على المستوى الشعري أو النثري. ولقد كان كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» يرتكز على هذه القاعدة التي أسّست للحداثة في ما بعد. الحداثة التي احتضنتها مجلة «شعر»، التي أحدثت ثورة ثقافية على مستوى الإبداع الشعري في سورية والعالم العربي.
النهضة التي هي حركة فكرية وسياسية وعَقَدية واجتماعية، هي عينها تستمد روحها من تراث الأمة الثقافي ـ السياسي ـ القومي. هذا الربط الثقافي الذي كرّسه سعاده في المبدأ الأساسي السابع هو العاصم للأمة اليوم، ولكل أمة تتعرض لتوحّش العولمة، من دون أن يفرض عليها حصاراً وجدراناً وفواصل.
سعاده المبادر إلى تأسيس الندوة الثقافية في الحزب، وقد أنشأها بمرسوم صادر عن الزعيم، كونه يمثّل السلطة التشريعية. هذه الندوة التي احتضنت حوارات ومناقشات ودراسات كثيرة، والتي توقفت في صيف 1938 بسبب سفر سعاده إلى أميركا الجنوبية. وأعاد إحياءها في بداية عام 1948، فكان بنتيجتها صدور كتاب «المحاضرات العشر». هذه الندوة، إن عبّرت عن شيء، فإنها تعبّر عن البعد الثقافي العميق في الفكر القومي الاجتماعي، وفي مؤسسة الحزب السوري القومي الاجتماعي وفي إيلاء سعاده الشأن الثقافي مرتبة تأسيسية.
بالعودة إلى مجلة «شعر»، لا بدّ من القول إنه ليس صدفةً أن تصدر مجلة كهذه، ومعظم شعرائها من القوميين الاجتماعيين، كما أنه ليس صدفة أيضاً أن تحمل هذه المجلة في بداية الخمسينات من القرن الماضي هذه الحداثة التي كانت حينه، وبالنسبة إلى الظروف والمفاهيم السائدة، ثورة حقيقية فرضت نفسها على حركة الشعر في العالم العربي. إن مجلة «شعر» لا تجد جذورها إلا في كتاب «الصراع الفكري في الأدب السوري» وفي المعطى الثقافي للحركة القومية الاجتماعية.
تتميز الثقافة القومية الاجتماعية بأنها ثقافة الوصل والاتصال مع الموروث القومي الثقافي بغية بناء المستقبل القومي بثقافة عصرية هي ثقافة الدمج في وحدة ثقافية متكاملة بين الجذور والأغصان، الآخذة في الارتقاء بلا حدود في سماء إنسانية. جوهر الثقافة القومية الاجتماعية في النسغ الموحّد بين العمق التاريخي الثقافي والحاضر الآخذ في النمو والارتفاع.
البعد الثقافي في العقيدة والحزب صفته الأصالة. ولقد شدّد سعاده على أصالته، من حيث أنه لا يمكن أن يكون إلا كذلك. وكيف لا، والثقافة إنْ هي إلا محصلة صيرورة الأمة في صراعها المكتنز بقيَم الحق والخير والجمال. قيَم تزخر بها النفس السورية، النفس المنطوية على كل عِلمٍ وكل فلسفةٍ وكل فنٍّ في العالم. هذا هو العمق التاريخي التاريخي الثقافي السياسي القومي الذي يضخّ النسغ القومي الحيوي في الأمة ويمدّها بإكسيرها الخاص بها.
عظمة سعاده أنه جعل من الثقافة فعلاً يمارسه الأعضاء في الحزب والمقبلون عليه، من حيث أنه قدّمها كثقافة فاعلة مؤثرة. فعندما يقول العضو في الحزب إننا سوريون، يقول ذلك مستنداً إلى معطى ثقافي عميق تعرّف إليه ودرسه في حلقاتٍ إذاعية. هو عندما يدرس المبادئ، إنما يرتبط فكرياً بالمعطى الثقافي التاريخي للأمة. فيصبح التاريخ الثقافي ـ القومي مادة تفكيره وطاقته وحركته.
البعد الثقافي في القومية الاجتماعية، حينما أبرزه سعاده، أبرز مادة منتوجة من تاريخ الجماعة القومية الثقافي ـ السياسي. فقد جعله يُقَدِّم في الوقت ذاته للمجتمع القومي قواعد في السياسة والاجتماع وغيرها من نواحي العمل القومي العام. وبالتالي فقد أخذت هذه الثقافة تجد مكانها في قناعات مفكرين وكتّاب وشعراء ومبدعين، ليسوا بالضرورة قوميين اجتماعيين بالمعنى المذهبي ـ الحزبي، لأن القواعد الثقافية العامة التي تكتنز روح التجربة الثقافية للأمة السورية غبر تاريخها الطويل هي قواعد تطال حركة الأمة بأسرها.
لماذا لم ينتصروا على سعاده بقتله جسداً؟ الجواب بسيط. لأن سعاده تجاوز الجسد وأصبح الفكر والقضية، أصبح التعبير عن هذه الأمة، خصوصاً في بعدها الثقافي ـ القومي المنطوي في التاريخ، والذي كشف عنه سعاده وربطه بحركة قومية اجتماعية، فأحياه بالواقع الحركي القومي المتمثل بالحزب. وأحيا الحزب بالمعطى الثقافي القومي المنطوي في تاريخ الأمة الحضاري.
لذلك لن يموت سعاده ولن يموت الحزب السوري القومي الاجتماعي لأن كلاهما تعبير عن أمة حيّة لا تموت.