أنطون سعاده الرؤيوي

بلال شرارة

لا بدّ من التأكيد بدايةً أنّ أنطون سعاده الزعيم فكرياً، كان استباقياً ورؤيوياً، وأنّه لمس أن «إسرائيل» المشروع والفكرة قبل الدولة ويهوديتها، تشكّل قنبلة أو قنابل عنقودية، ستنفجر بالتتابع في جسد الأمّة. وأن الأمر لن ينتهي بـ«نكبة الشعب الفلسطيني» ثمّ بـ«نكسة 1967» التي وقعت بعد استشهاده. وهو رأى أنّ الأمور ستتجه بالواقع إلى نتائج مريعة في ظلّ أنماط السلطات العربية المتفرّقة ، والتي تغرق، إضافة إلى الفساد في مشكلاتها السياسية والاقتصادية الاجتماعية وبالأساس الثقافية، إذ لا تسمح بصوغ تعريفات موحّدة للوطن والمواطَنة، ولا إقرار لاتفاق قُطري أو عربي على شرعة وطنية أو عربية لحقوق الإنسان، تحمي حقوق المواطن الشخصية وتتيح للمجتمعات العربية والدول العربية بالمفرّق أو الجملة التفرّغ لمواجهة الخطر الصهيوني.

الخطر الصهيوني ـ الهمّ ـ كان شغل سعاده الشاغل، وهو في صوغ مشروعه السياسي، كان يريد أن يحفظ سوريه للسوريين الذين هم أمّة قائمة موحّدة في التاريخ والبيئة الطبيعية والجغرافيا والمجتمع، وهو إنما كان يعني الرفض المطلق لإنشاء كيان صهيونيّ، المرتكز على مخطط «أرض بلا شعب لشعب بلا وطن». وكان يرى ويلمس أنّ المشروع الصهيوني إنما يهدف أوّلاً إلى تفريغ فلسطين من شعبها، واستيطانها، وثانياً إلى إرباك النظام العربي العام في المنطقة من خلال مشروع «أرضكِ يا إسرائيل من الفرات إلى النيل . وهو سعاده ، وضع أساساً لمواجهة هذا المشروع عبر نهضة سورية قومية اجتماعية، لأنه كان يدرك أنّ المغرب العربي أو شمال أفريقيا ليس معنياً باستثناء مصر لأسباب جغرافية ومصلحية بالمسألة الشرقية، وأنّ الخليج يعيش هاجس النفط وأمن طرق الإمداد فيه، وأن الجوار الإقليمي المسلم يعيش هواجس الامبراطورية وسيفها الطويل، وأنّ الغرب سيبقى يخطّط للسيطرة على مواردنا البشرية والطبيعية.

انتبه سعاده ودفع حياته ثمناً لذلك، لأنّ سوريه مهدّدة في حاضرها ومستقبلها بمشاريع خطيرة وافدة تريد تغيير وجه الشرق الأوسط بعد تقسيمه، أولاً عبر «سايكس ـ بيكو». وثانياً، وقد أثبت الحاضر أننا نواجه مشروع تقسيم المقسّم وتوزيع بلداننا مغانم على مائدة الأعراف والجهات والفئات والطوائف والمذاهب في إطار مشروع ما يسمّى «الشرق الأوسط الجديد أو الموسّع».

أراد سعاده عبر مشروعه الفكري والتنظيمي أن يستنهض السوريين معتبراً أنّ فيهم قوة لو فعلت لغيّرت مجرى التاريخ. وهو حاول أن يعمّم معرفة على مستوى النطاق الجغرافي لمشروعه يحفظ من خلاله الجغرافيا السياسية لمنطقة فكرته سوريه الطبيعية . معتبراً أنّ نشر وعيٍ حول أنّ «المجتمع معرفة والمعرفة قوّة»، هو الأساس في مواجهة التهديد القائم للأمّة السورية عبر «سايكس ـ بيكو» ومشروع «إسرائيل اليهودية ـ الكبرى».

وحاول سعاده حيّاً وشهيداً استنهاض مكامن القوة البشرية في التفكير دائماً، وفي الشروع بامتلاك القوة. ففي حياته عمل حثيثاً على بناء مشروعه الايديولوجي والسياسي والتنظيمي، وعندما نجح الغرب والصهاينة في جعله هدفاً شخصياً، واستعمال النظام اللبناني للاقتصاص من أفكاره باعتباره زعيماً محليّاً لبنانياً انقلابياً، رفض سعاده محاولات «تهريبه» من السجن، و«تخليصه» عن الإعدام، واعتبر أنّ استشهاده شرط أساسيّ لنجاح عقيدته.

في حياته، قامت طلائع القوميين الاجتماعيين بمقاومة مشروع «إسرائيل»، ودأب حزب سعاده على هذا النهج إلى هذا اليوم. كما دأب على مقاومة مشروع تقسيم المقسّم، ومحاولة النيل من وحدة سورية الراهنة ثمّ تهديد لبنان اعتباراً من أنّ مصلحة سورية فوق كل مصلحة، وأنه سوف لا يبقى استقرار في النظام العام للبنان والمنطقة إذا ما انهار المركز.

كان سعاده لا يريد، واليوم يجب ألّا نريد، طمس حقيقة سورية، ويجب أن نجابه الحرب العالمية ـ الإقليمية وحرب بعض النظام العربي لإسقاط سورية وتوزيعها مغانم في الجغرافيا والسياسة، ولا نقول في الدين لأن هناك استغلالاً واستغفالاً للإسلام السياسي في حرب تدميرية.

لم يفرّق سعاده في حياته بين الحروب الآشورية والكلدانية الداخلية للسيطرة على جميع سورية، ويجب أن نستنفر اليوم إزاء مشروع الهيمنة على سورية بِاسم «داعش» ومشروع الولاية في لبنان أو فلسطين أو الأردن أو سيناء، وإن كان الآشوريون والكلدانيون غير مرتبطين بمشروع أجنبي خارجي للسيطرة على مواردنا.

أنطون سعاده الزعيم، يجب أن يُقرَأ، وهو حاول في حياته واستشهاده نشر وعي حول ما نواجهه اليوم، ليس فقط في واقع التقسيم، إنما في واقع الدولة المطلقة. وما يراه سعاده أننا يجب أن نحرّر أنفسنا أوّلاً من غبار ثقافات وافدة، وما هو ليس بحقائق تاريخية، وأن ننتبه إلى أننا نريد تحرير فلسطين لأنها جزء منّا. كما يقول إننا عندما نهتمّ بمصير فلسطين، لا نهتم بنقطة واحدة. وهو كان يرى ـ على خلفية انكشاف مشروع الدولة اليهودية ـ أن الصراع بيننا وبين اليهود لا يمكن أن يكون فقط في فلسطين بل في كل مكان فيه يهود وقد باعوا هذا الوطن وهذه الأمة، وذلك لأن خطر اليهود لا ينحصر في فلسطين، بل هو يتناول لبنان والعراق أيضاً.

طبعاً، لا تكفي كلمات محدّدة لمقال صحافيّ للكتابة عن فكر سعاده، أو عن سعاده مفكّراً. وما يتضمنه هذا المقال، مجرّد مساهمة محدودة في اعتبارات الوقت أيضاً.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى