جريمة شارك بها جميع أعداء هذه الأرض الخيّرة
سهيل العيد
عند الحديث عن سوريا… يتراءى لبعض السوريين خريطة سوريا «سايكس ـ بيكو». والبعض يرونها خريطة بعمق سوريا الأمة والحضارة العظيمة، الممتدة من الخليج إلى سيناء مروراً بالعزيزة فلسطين والأردن وبلاد الرافدين، وصولاً إلى قبرص وكيليكيا ولواء اسكندرون الحبيب السليب. نعم إنها سوريا الواقعية والحقيقية التي أصبحت جغرافياً نوعاً من الخيال. لكنها ما زالت موحّدة بشراً ومجتمعاً وتراثاً وإرثاً حضارياً وتاريخاً . سوريا التي امتازت بمؤشّرها الحضاري المتواتر صعوداً عبر آلاف السنين. حضارات تضاف إلى حضارات. آراميون كنعانيون فينيقيون غساسنة تدمريون سريان آشوريون وكلدان وبابيليون، لم يتنكر أحدهم بالانتماء والولاء للأمة السورية، فمنذ ما قبل الإله السوري بعل، كلّهم سوريون. وعند الحديث عن الحزب السوري القومي الاجتماهي، الذي آمن إيماناً عميقاً بكلّ ما ورد آنفاً عن وحدة مقوّمات سوريا الأمة، واعتبرها مبدأ وطموحاً وغاية وهدفاً نبيلاً، كان ينتابنا الفضول المصحوب بالريبة والحذر الشديد! نعم، هو الشعور الذي كان يتملكني أنا وكثيرين في بداية عمر الشباب، مع أن المنتمين إلى هذا الحزب كانوا نخبة من المتفوّقين علمياً والمميزين في جميع المجالات نجاحاً وأخلاقاً واستقامة! كنّا نسمع عنهم ونعرف بعضهم معرفة عامة، ولم تسنح لي فرصة الالتقاء بأيّ منهم على انفراد، ولم أسعَ إلى ذلك. مع أن بعضهم كانوا من أساتذتي المميّزين. وعام 1973، كنت في الصف الثانوي الثاني. التقيت مدير المدرسة الابتدائية حينذاك، وأبدى رغبة بزيارتي بحكم القربى والجوار. ولمّح لي أن تكون جلستنا على انفراد، فرحّبت به. كنت أعرفه معرفة عامة اجتماعية، وكانت علاقاتنا العائلية معه ومع أسرته ودّية. لكنه أراد في هذه الزيارة أن يعرّفني إليه من الناحية الفكرية والسياسية، فهو من قدامى السوريين القوميين، ومناضل مؤمن بوحدة سوريا الطبيعية أرضاً وشعباً، ويعتبرها أمة متكاملة تملك كلّ مقوّمات الأمم العظيمة، ومؤهلة لإحياء مجدها من جديد. لقد كانت مقدّمته مقنعة إلى حدّ كبير. وكان مثقفاً واسع الاطّلاع صريح الآراء واقعيَّ الطرح، وكلُ آرائه مدعّمة بالبراهين. ثمّ شرع بعدئذٍ بموضوع الزيارة المباشر قائلاً: «في الحقيقة نحن نبحث عن النخب في كلّ الأجيال. وقد سمعت من أساتذتك عن تميّزك واتّقاد ذهنك ووعيك. ولمست فيك شخصية قيادية. وقد أتيت متمنّياً أن تكون واحداً من أبناء سوريا الكبرى التي نطمح إلى إحياء مجدها». لم أعطه ردّاً فورياً على رغم قناعتي بطرحه وثقتي بشخصه وصدقه ورفعة أخلاقه . وقبل أن يستأذن بالمغادرة، أبلغني أنه لا يستطيع تزويدي بكتب ومنشورات الحزب لأنها تشكل خطراً عليّ. لكنه أعطاني مجموعة من الأوراق المنسوخة بخطّ يده، كان يخبئها في جيبه الداخلي وكأنها من الممنوعات والمحرّمات. شرعت أقرأها باهتمام وتركيز، وكلّما قرأت أكثر كنت أتشوّق لمعرفة المزيد. فكلّ ما فيها سوريّ يخاطب ضمائر السوريين كل السوريين وأحاسيسهم. خصوصاً تلك المبادئ الوطنية السامية والحِكم والأقوال التي وضعها ذلك المفكّر السوري الأصيل والزعيم الحكيم. وجدت فيها دولة المواطَنة والمساواة التامة في الحقوق والواجبات. وجدت فيها الديمقراطية والعلمانية بروح ونَفَس سوريين أصيلين. وجدت فيها التفاني في حبّ سوريا والسوريين. لمست فيها ترفّعاً نبيلاً ـ غير مصطنع ـ عن التمييز العرقي والديني والطائفي. وإن كان فيها انحياز صريح لمحبة سوريا والسوريين . التقيت المدير في المرة الثانية، ولم أك أملك أيّ عذر ايديولوجي يقنعني قبل غيري في رفض عرضه، إلا الأعذار الشخصية. فقلت له: «أعلم ما الذي حدث لأستاذي فلان الذي كان الأوّل على القطر في الثانوية العامة. وكيف حُرم من البعثة لإكمال دراساته العليا في أوروبا لأنه سوريّ قوميّ». فقال لي: «انظر الى كتب وزارة التربية ومناهجها وستعرف أنه مؤلّفها». قلت له: «أعلم أيضاً ما حدث للطبيب فلان والمهندس فلان وكيف أمضيا سنوات في المعتقلات لأنهما سوريين قوميين …». فقال: «نعم، ولهم مؤلفات عدّة وترجمات من اللغتين الانكليزية والفرنسية في مجالات الطبّ والهندسة وقدّماها متبرّعَين لوطنهم وأبناء شعبهم» . قلت له: «وأساتذة الجامعة فلان وفلان وفلان، الذين سُرّحوا تعسّفاً من عملهم لأنهم سوريين قوميين». فقال: «نعم، وما زالت كتبهم ومؤلفاتهم تدرّس في الجامعة حتى اليوم» . وأكمل: «كذلك الضباط فلان وفلان وفلان سُرّحوا من الجيش للسبب ذاته، على رغم أنهم من ألمع الضباط وأكثرهم انضباطاً وإخلاصاً وتفانياً في حب الوطن. نعم، هذه حالنا وهذا نضالنا، وقد دفعنا كلّنا أثماناً باهظة لإيماننا بسوريّتنا!». قد تبدو هذه المقدّمة للقارئ العزيز طويلة. وقد طغت عليها التجربة الشخصية أو الجانب الشخصي. لكنني تعمّدت أن أسردها كقصة واقعية وشهادة منزّهة حيادية، عن المعاناة التي لمستها شخصياً في حياة هؤلاء السوريين الوطنيين الصادقين المخلصين ونضالهم . ولا أخفي عليكم محاولاتي في البحث عن عيوب أو ارتباطات لهذا الحزب ومؤسّسه كحال الأحزاب والتنظيمات الأخرى. فوجدته حزباً محارباً إقليمياً ودولياً، وهذا ما أكد لي أن الحزب ومؤسسه وكوادره سوريون سوريون. وبنظرة إلى مجريات الأحداث والتطوّرات والمستجدات في سوريا الطبيعية خلال القرن العشرين، نجد أن مؤسّس الحزب المفكّر والزعيم أنطون سعاده، وقف وقفة وطنية لا تضاهى. واعتبر اغتصاب فلسطين بمثابة سلخ جزءٍ من الجسد السوري، وقد عبّر كوادر الحزب ومناضلوه بالعمل المقاوم البطولي ضد الكيان الصهيوني وقدّموا الشهداء والشهيدات على تراب فلسطين وجنوب لبنان. وكذلك، كان وما زال موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي من سلخ لواء اسكندرون عن الجسد السوري ثابتاً . أما عن رؤيته القومية، فهي تشمل كلّ مكوّنات سوريا من دون استثناء أو تمييز. ولا يؤمن بالوحدة على أساس القومية العربية. وهذا ما ميّزه من حيث الواقعية والمصداقية وقابلية التطبيق، عن تجربة الأحزاب العروبية الشمولية، التي اعتمدت هدف وحدة «الأمة العربية»، كردّ فعل على أطروحة الإخوان المسلمين بوحدة «الأمة الاسلامية». وفي قراءة عقلانية للهدفين ومن خلال ما أثبته الواقع العملي، نكتشف أن مصطلح «الأمة العربية» مصطلح خيالي لا يستند إلى مقوّمات نشأة الدول والكيانات. فلم تَدُم الوحدة بين بين مصر وسوريا أكثر من سنتين، وقد كان لبعض كبار المفكرين المصريين رأيهم السديد. فقد وصفوا سوريا بالحضارة الموازية للحضارة المصرية عبر التاريخ. ويمكن التعاون البنّاء بندّية معها. لكن لا يمكن إلحاق دولة مثل سوريا أو ضمّها ومحو ملامح سيادتها وخصوصيتها. وهذا ما يؤكد صحة نظرية الحزب السوري القومي الاجتماعي وسداد رؤيته . وكذلك الحال بالنسبة إلى نظرية «الأمة الاسلامية»، فهي أبعد من الخيال وتدخل في طور الوهم من حيث انتفاء مقوّماتها الديمغرافية والجغرافية واللغة والإرث والثقافة والتاريخ المشترك، بما فيها تفسير الدين وفهمه. لست في معرض إيراد المبادئ والمنطلقات النظرية للحزب السوري القومي الاجتماعي، ولا تعداد أقوال الزعيم الحكيم وحِكمه ومأثوراته، على رغم أنها بوصلة وقبلة لجميع السوريين المخلصين. إنما أنا حريص على الادلاء بشهادتي من خارجه بحيادية وإنصاف. فمنذ تحرّر سوريا من نير الاحتلال العثماني وحتى يومنا هذا، لم تشهد مشروعاً وطنياً خالصاً نقياً يضاهي الحزب السوري القومي الاجتماعي قولاً وعملاً. وقد أثبت هذا الحزب تمسّكه بمبادئه الراسخة في المحنة التي يمرّ فيها الوطن حالياً، لأنّ الوطنيين يُعرفون وقت الشدائد . الصورة الأخيرة التي تحضرني عند الحديث عن الحزب السوري القومي الاجتماعي، قد تلخّص المشهد كاملاً. فقد كان إعدام الزعيم الوطني أنطون سعاده جريمة شارك بها جميع أعداء هذه الأرض الخيّرة، وأراد هؤلاء أن يكون إعداماً لحلم السوريين النبيل. واليوم، ها نحن نعيش ذروة الهجمة الهمجية، لكن سوريا وطن عصيّ على الموت، فمع ولادة كلّ سوري أصيل، يتجدّد ياسمين سوريا وينشر عبق الحياة.