فلسطين في التاريخ… الحقيقة القومية التاريخية في مواجهة التزوير اليهودي 3

في عدد اليوم سنعرض للواقع الإسرائيلي من الوجهة التاريخية، وكيف تمّت مقاربته من قبل مؤرخين مفعمين بالفكر اليهودي في مواجهة حقائق تاريخية وجغرافية تثبت موقع فلسطين كجزء لا يتجزأ من سورية الطبيعية وفي كافة المراحل التاريخية.

لذلك فقد أولى المؤلف عناية كبيرة لإلقاء الضوء على الحقائق التاريخية المتعلقة بوجود فلسطين السياسي ـ الجغرافي، إضافةً إلى محاولات أسرلتها وخصوصاً عبر دعوة نابليون بونابرت 1799-1801 يهود آسيا وأفريقيا للقتال تحت رايته، بغية إعادة بناء مملكة القدس القديمة.

والجدير ذكره ما تطرّق إليه المؤلف في موضوع الصهيونية غير اليهودية، من نابليون الأول مروراً بنابليون الثالث وصولاً إلى القرن التاسع عشر وما ظهر في بريطانيا من ميول صهيونية مسيحية كانت تدعو إلى إعادة بناء مملكة القدس.

الواقع الإسرائيلي

معادلة ذات أبعاد ثلاثة: الاستعمار ـ الصهيونية ـ القومية

اعتبرت سوريا، منذ بداية الصراع العربي الإسرائيلي، القضية الفلسطينية، بوصفها قضية العرب الأساسية والمعيار الحقيقي لمدى شرعية جميع أنظمة الحكم والأحزاب السياسية العربية، وذلك مع الأخذ باعتبارات عدة، هي:

– إن فلسطين بلد عربي كانت على مدى التاريخ جزءاً لا يتجزأ من سوريا الطبيعية ومن الأمة العربية.

– إن زرع الكيان الصهيوني في فلسطين يشكل بديلاً استيطانياً وامتداداً استعمارياً في منطقة المشرق العربي.

– إن الحركة الصهيونية هي حركة مؤسسة على الاحتلال والاستيطان والتوسع والتزوير والعنصرية والعدوان.

– إن الأيديولوجية الصهيونية تعتبر «دولة إسرائيل» لا حدود لها بمعنى الحدود المفتوحة والممددة على الرغم من أن قرار تقسيم فلسطين رقم 181 المعتمد بتاريخ 27 تشرين الأول أكتوبر العام 1947 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة قد عيّن هذه الحدود.

– إن سوريا تعتبر، من جهتها، الصراع العربي الإسرائيلي تاريخياً نظراً لتشعباته وارتباطاته بالعالم الخارجي، وهذا يعني أنه دائم ومستمر، وما يتخلله من فترات هدوء نسبي لا يبدل شيئاً في المشكلة الأساسية، وهي أن التوسع الصهيوني يشكّل انعكاساً للفكرة الصهيونية الأيديولوجية، ولن يتوقف عند حد إلا يوم تبصر العدالة النور.

لا بد من الإشارة فوراً إلى حقيقة مفادها أن الوشائج الوثيقة القائمة منذ أقدم العصور بين سوريا وقطرها الفلسطيني في الجنوب، حددت على مدى التاريخ مصائر هذين الإقليمين. فقد كان المحتلون والغزاة والفاتحون يبسطون سيادتهم دائماً على فلسطين قبل احتلال سوريا، وينسحبون من فلسطين عندما ينسحبون من سوريا.

هناك بعض المستشرقين الغربيين الذين انحرفوا عن الأمانة التاريخية، وبينهم من يتمتع بشهرة عالمية مثل الأميركي «برنار لويس» الذي ادعى أن «استخدام الرومان الرسمي لاسم فلسطين، للدلالة على مساحة المملكة اليهودية القديمة، يبدو لاحقاً على التمردات اليهودية ولقمعها…».

وفي مقطع آخر عاد «لويس» للتهجم قائلاًً: «من المرجح أن اسم يهودا قد أُلغي في الوقت نفسه الذي أُلغي فيه اسم «أورشليم» القدس ، وأن البلاد سميت مجدداً فلسطين أو سوريا فلسطين في نية لإزالة هويتها اليهودية التاريخية. ومن الناحية العملية، فإن حدود الدولة اليهودية القديمة كانت تتغير بحسب العصور والحكام والأسر الملكية. وحتى عندما تم القضاء على الاستقلال اليهودي ولم يتبق أي كيان سياسي أو حدود فإن الحاخامات وجدوا من الضروري صياغة تعريف قانوني لحدود أرض إسرائيل. ولم يكن ذلك تدريباً فكرياً فحسب، بل كان مطلوباً لأسباب دينية وضريبية في آن واحد، نظراً لأن القانون التلمودي يضع تمييزاً في هذين المجالين بين اليهود الذين يعيشون على أرض إسرائيل وبين أولئك الذين يعيشون خارجها. وينطبق هذا التعريف على المناطق التي عاود اليهود احتلالها بعد عودتهم من بابل. ولم يتم التحقق من جميع أسماء الأماكن الواردة في النصوص التلمودية المناسبة كمؤشر على حدود أرض إسرائيل، إلا أنه من الواضح أن هذا التحديد استبعد بعض المناطق البعيدة شمال وجنوب دولة إسرائيل الحالية، وكان يشمل جزءاً كبيراً من شرق الأردن…».

وترمي تلك التلميحات المنطوية على الرياء بالطبع إلى إطلاق الفكرة الباطلة والتي مؤداها أن الوجود اليهودي في فلسطين على شكل دولة، سابق للوجود العربي الفلسطيني، وبالتالي فإن النظرية الصهيونية التي تنادي بالعودة إلى البيت تصبح مدعومة إيديولوجياً بصورة آلية.

في هذا السياق، قّدم المفكر الفرنسي «روجيه غارودي» دليلاً قيّماً في كتابه المرجعي عن فلسطين. فقد بيّن مدعماً بالبراهين والإثباتات أن مفهوم اليهودية كدين لم يتخذ أبداً طابع الدولة لا في الماضي ولا لدى قسم ملحوظ من اليهود المعاصرين. ومما جاء في كتابه حول هذه النقطة ما يلي: «على مدى قرون بعد تشتيت العبرانيين الذين طردهم الرومان من فلسطين، أي في أعقاب الثورات التي نشبت العام 63 ميلادي، وخصوصاً في العام 135 ميلادي، كان يعتبر يهودياً كل شخص يمارس الديانة اليهودية. ولا يكون يهودياً من كان مشايعاً لدين ما».

بيد أنه منذ عصر النهضة في القرن السادس عشر، حدث في أوروبا انحسار لجميع الأديان. ودخلت المجتمعات الغربية في مرحلة العلمنة، حيث كانت الديانة المسيحية الأكثر تأثراً بوصفها كانت الديانة السائدة حتى ذلك الحين. لكن الديانة اليهودية عانت من التحول نفسه، وبلغ ذلك ذروته في القرن السابع عشر مع «باروخ سبينوزا» 1632-1677 الذي كان يعبّر في وطنه هولندا عن أعظم صورة للشمولية اليهودية». ومع «سبينوزا» الذي مثّل الصورة المتقدمة للتفكير الغربي، وألقت عليه طائفته الحُرم الديني، طرحت مشكلة هوية اليهودي بكل ثقلها:

من هو اليهودي، بمعزل عن المذهب الديني الذي يعرّفه حتى الآن؟

لقد دوّت دعوة «سبينوزا» للشمولية والتسامح في جميع أنحاء أوروبا، بخاصة في مطلع القرن الثامن عشر الذي كان يُعتبر عصر المعارف والأنوار، حيث قضت فيه العقلانية على المتوارث. لذا فإن إقامة دولة صهيونية في فلسطين لم تتفق مع النزعة التدينية اليهودية، وقد انسجمت تلك الملاحظة التاريخية تماماً مع مرونة مفهوم الدولة في عصر الإمبراطوريات العظمى، حيث كانت كل إمبراطورية تضم عدة شعوب وأجناس، وحيث لم تكن الحدود ثابتة. وفي المقابل فإن إحدى الحقائق التاريخية الثابتة النادرة تتناول الروابط العضوية والمتكاملة القائمة بين سوريا وفلسطين بشكل سرمدي.

«كان إقليم فلسطين الروماني ملحقاً بصورة عامة بسوريا بوصفه يشكل جزءاً منها. وخلال العصر الروماني المتأخر والعصر البيزنطي طرأت تغييرات كثيرة، توسعت خلالها فلسطين الرومانية عن طريق ضم أراضٍ مجاورة ملحقة، ثم ما لبثت أن تجزأت.

وفي ظل حكم «ديوكليتيان» أُلحق إقليم «آرابيا»، الذي أسسه الإمبراطور «تراجان» العام 105 ميلادية، بفلسطين، ولكن في العام 358 رفعت هذه المقاطعة التي كانت تضم النقب وجنوب شرقي الأردن إلى مرتبة إقليم منفصل وسميت فلسطين الآمنة. وقرابة العام أربعمئة الميلادي، قسمت فلسطين الأصلية إلى شطرين، اشتهرا على التوالي باسم فلسطين الأولى وفلسطين الثانية، بينما أعيدت تسمية فلسطين الآمنة باسم فلسطين الثالثة.

شكّلت فلسطين الأولى وعاصمتها قيسارية القسم المركزي للبلاد، وضمّت السهل الساحلي من الجنوب حتى رفح، بالإضافة إلى الأراضي التاريخية للضفة الغربية مع أدوم جنوب وادي عربة ، وامتدت شرق الأردن في المنطقة المعروفة في العصر القديم باسم البيرة . تحدها شمالاً فلسطين الثانية وجنوباً فلسطين الثالثة. أما فلسطين الثانية فقد ضمت وادي «أيزدرولون» والجليل وشمال شرقي الأردن، وكانت عاصمتها سكيتوبوليس، وهي بيت شان عند العبريين أو بيسان عند العرب. وضمت فلسطين الثالثة، «النقب» وجنوب شرقي الأردن وجزءاً من سيناء».

بعد الفتوحات العربية في القرن السابع، أبقى أسياد البلاد الجدد، جزءاً كبيراً من التقسيمات الإدارية القائمة على حالها. وبذلك، ظلت كل من فلسطين الأولى والثانية على حالهما، ولكن بأسماء وعاصمتين جديدتين، فأصبحت الأولى تسمى فلسطين ، وهي مطابقة عربية واضحة للاسم الروماني، وحكمت في البداية من اللد ثم من الرملة . أما فلسطين الثانية، فقد أطلق عليها اسم الأردن اشتقاقاً من اسم النهر، وكانت عاصمتها في طبريا.

خلال حقبة الحكم العربي، كما في عهد الرومان، لم تكن فلسطين والأردن منقسمة عامودياً، كما هو الحال في العصر الحاضر، وإنما أفقياً بين الشمال والجنوب، فقد كان الإقليمان ينبسطان الواحد فوق الآخر، من البحر المتوسط، مروراً بنهر الأردن، حتى الصحراء الشرقية.

ووفقاً لطريقة الحكم العربي في بدايات القرون الوسطى، كانت فلسطين والأردن إقليمين ثانويين، يشكلان جزءاً من الكيان الجغرافي الأوسع المعروف بسورياً، أو بلاد الشام، بحسب التداول العربي. أما الكيانات الأخرى فهي مصر والجزيرة العربية والعراق واليمن والمغرب العربي. ولم تكن تلك الكيانات بلداً أو أمة بالمعنى العصري، إلا أنه تم الاعتراف بها بصورة عامة، ككيانات اجتماعية وثقافية، وإلى حد ما، اقتصادية وسياسية، مع احتفاظها بكيان ثابت. وقد ضمت بلاد الشام جميع الأراضي المحدودة بجبال طوروس شمالاً ومصر جنوباً والصحراء شرقاً والبحر المتوسط غرباً. ويشكل إقليما فلسطين والأردن الثلث الجنوبي منها.

وبعد الفتح الإسلامي الثاني، وفي ظل حكم خلفاء «صلاح الدين الأيوبي»، ثم في عهد المماليك الذين حكموا من منتصف القرن الثالث عشر حتى مطلع القرن الرابع عشر، أعيد توزيع فلسطين إلى أقاليم جديدة، عرفت بأسماء المدن الصغيرة التي كانت تشكّل المراكز الإدارية لها.

وخلال المرحلة الأكبر من القرون الوسطى، جرى تقسيم ضفتي نهر الأردن إلى ستة أقاليم، عواصمها في غزة واللد وكاكون والقدس والخليل ونابلس، لكنها تشكّل جزءاً من بلاد الشام وعاصمتها القدس. وخلال مراحل أخرى كانت غزة واللد وقلقيلية أقاليم منفصلة.

في نهاية العهد الملوكي، يبدو أن المناطق الشمالية والجنوبية من فلسطين والتي تشكل القسم الأكبر منها، توزّعت بين ولايتي غزة وصفد. وضمّت ولاية صفد الأراضي التي أصبحت حالياً لبنان الجنوبي، بالإضافة إلى مقاطعتي صور وتبنين، ووضعت جميعها تحت حكم نائب ملك دمشق.

بعد الفتح العثماني، 1517-1516 حصل توزيع، قسّمت بموجبه البلاد بين الألوية الإدارية العثمانية سنجق في غزة والقدس ونابلس وصفد غرب الأردن وعجلون شرق الأردن. ثم أضيف إليها في ما بعد لواء عجلون على الضفة الغربية. وقد وضعت جميع تلك الألوية تحت سلطة حاكم دمشق العام «بايلر بك»، وبقيت تُجزّأ ويعاد تنظيمها خلال القرون الأربعة من الحكم العثماني. وقبل الاحتلال البريطاني كان مركز البلاد وشمالها تابعين لولاية بيروت، بينما كان كامل شرق الأردن مدموجاً بولاية دمشق التي أطلق عليها اسم ولاية سوريا في عهد السلطان «عبد الحميد» . أما بقية فلسطين فكانت تشكل لواء القدس المستقل، ويعني ذلك ارتباطه مباشرة بالعاصمة، من دون خضوعه لسلطة باشوات الأقاليم المجاورة.

تُعرّف الموسوعة البريطانية فلسطين في طبعتها الصادرة العام 1910 كما يلي: «فلسطين اسم جغرافي ذو تطبيق مشوب بالغموض. فالدقة الاشتقاقية تميل إلى أن القصد من الاسم الشريط الساحلي الضيق الذي سكنه الفلسطينيون لفترة، ومنهم اكتسب اسمه. ولكن ثمة اتفاق يؤكد بأن هذا التعبير استخدم للدلالة على الأراضي التي كانت تجري المطالبة، كما ورد في العهد القديم، كميراث للعبرانيين قبل نفيهم. لذلك يمكن القول بصورة عامة إنه يشير إلى الإقليم الجنوبي من سوريا. وعدا عن الغرب، حيث ساحل البحر الأبيض المتوسط، فإن حدود تلك الأراضي لا يمكن الإشارة إليها على الخارطة كخط واضح تماماً.

أما التقسيمات العصرية، في ظل حكم الإمبراطورية العثمانية، فلا تتطابق في شيء مع التقسيمات القديمة، ولا تقدم بذلك حدوداً يمكن بها فصل فلسطين بدقة عن بقية سوريا الشمالية أو عن صحاري سيناء والجزيرة العربية في الجنوب والشرق. كما أن مستندات الحدود القديمة ليست من الدقة والتفصيل بحيث تجعل التحديد الكامل للبلاد ممكناً».

كان الانتداب على فلسطين، وفقاً لما تحدد في البداية، يشمل ضفتي نهر الأردن، ولم يتم فصل الضفة الشرقية قبل العام 1922-1921، وذلك بموجب قرار بريطاني أيّدته عصبة الأمم المتحدة، حيث أطلق عليها اسم شرق الأردن، ثم الأردن فقط في ما بعد، بينما اقتصر اسم فلسطين على الضفة الغربية وحدها.

وبعد انهيار الإمبراطورية العثمانية العام 1918، تعرضت منطقة الهلال الخصيب في البلاد الناطقة بالعربية للتفكك على مراحل متعددة، بعد أن شهدت نوعاً من الوحدة القسرية الاندماجية خلال القرون الأربعة أو أقل من السيطرة العثمانية.

جرى في عهد الانتداب، فصل القرنين الشرقي والغربي من الهلال الخصيب، فوضع الجزء الشرقي الذي يضم وديان نهري الدجلة والفرات تحت الانتداب البريطاني، وأطلق عليه اسم العراق. أما الجزء الغربي الذي سمي سوريا، فقد وضع تحت الانتدابين الفرنسي والبريطاني. وقامت السلطات الفرنسية بدورها بتقسيم البلاد التابعة لها في سوريا إلى ما لا يقل عن خمسة كيانات انفصالية، تقلصت في ما بعد إلى كيانين، أطلق عل أحدهما اسم لبنان، بينما احتفظ الثاني باسمه الأصلي وهو سوريا. أما المنطقة الموضوعة تحت الانتداب البريطاني، فجرى تقسيمها بين شرق وغرب نهر الأردن. وسميت المنطقة الشرقية بشرق الأردن بينما احتفظت المنطقة الغربية باسم فلسطين التي كانت تشمل في الأصل المنطقتين معاً.

في البداية إذن، كان معروفاً أن فلسطين تشكّل من بلاد سوريا. وفي العهد العثماني، أي مباشرة قبل مجيء البريطانيين، كانت فلسطين تشكّل فعلياً جزءاً من كل سوريا، ولا تتميز عنها بشيء، سواء من حيث اللغة والثقافة والتعليم والإدارة والخضوع السياسي. ولا عجب حينها إذا اعتبر سكان المنطقة الخطوط التي تفصل فلسطين الموضوعة تحت الانتداب البريطاني، عن سوريا ولبنان الموضوعتين تحت الانتداب الفرنسي، دون التطرق إلى التقسيمات الداخلية الإضافية، مصطنعة وغير مقبولة.

كان أول من لمس الفائدة الكامنة وراء إنشاء دولة يهودية في فلسطين، من أجل إيجاد حل لـ«قضية الشرق»، لصالح دولة استعمارية، هو نابليون بونابرت. وخلال حملته العسكرية إلى مصر وسوريا 1799-1801 أصدر «نابليون» بياناً موجهاً إلى يهود أفريقيا وآسيا يحثهم فيه على القتال تحت رايته من أجل إعادة بناء مملكة القدس القديمة.

كان البيان الشهير الذي وزع في فلسطين في ربيع العام 1799 موجهاً إلى اليهود بصفتهم «الورثة الشرعيين لفلسطين»، برأيه، الأمر الذي دفع بالمؤرخ اليهودي «سالو بارون» لاعتباره رمزاً لاعتراف أوروبا بحقوق اليهود في فلسطين، بينما وصف «ناحوم وايزمان» نابليون بأنه أول الصهيونيين العصريين غير اليهود.

بُعثت الصهيونية غير اليهودية في ما بعد في عصر الإمبراطور «نابليون الثالث» 1853-1870 حيث لعب سكرتيره الخاص «أرنست لاهران» دوراً أولياً في انتشار الفكرة الاستعمارية في فرنسا. فقد صدر بإيعاز منه في العام 1860 كرّاس بعنوان «قضية الشرق الجديدة» يدعو فيها اليهود إلى بعث وطنهم تحت الدرع المقدس لفرنسا المحررة.

ظهرت اهتمامات مشابهة في انكلترا، حيث نادى كاتب دبلوماسي هو «لورنس أوليفان» بتوطين اليهود في شرق الأردن، في كتابـــه الصادر العام 1880 تحت عنوان: The End Of Gilead With Excursions In The Lebanon.

وفي الوقت نفسه أعد «ليون بينسكر»، المؤتمر الأول لأبناء صهيون في محاولة لتنسيق النشاطات، وإعطاء الأولوية للهدف الاستعماري في فلسطين. وانعقد المؤتمر في كاتوفيتز العام 1884 وهي مدينة في سيليزيا لتجنب رقابة السلطات الروسية، بمشاركة ستة وثلاثين مندوباً قدموا في معظمهم من أوروبا الشرقية، وتقرر فيه إنشاء مكتب مركزي للمنظمة في «أوديسا» برئاسة «بينسكر» للمساعدة على توحيد القارات، فلجأ إلى الممول «موريس هيرش» من أجل تأسيس الـ«شوفيفنيزيون» وهي جمعية مساعدة المزارعين اليهود والحرفيين في فلسطين وسوريا.

كان «تيودور هيرتزل»، مؤسس الحركة الصهيونية، يتلاعب من جهته كداهية في الدبلوماسية، بمطامع الدول العظمى في ذلك العصر. ومنذ شهر تموز يوليو العام 1887 وعشية انعقاد مؤتمر «بال» الصهيوني هاجم «هيرتزل» في جريدته «دي فلت» مقالاً لمجلة «كوارتلي ريفيو» ينصح بتقسيم تركيا، وبموجب هذا التقسيم، تؤول مصر وسوريا بما فيها فلسطين إلى بريطانيا التي كانت بحاجة ماسة للطريق المختصرة نحو بلاد الهند. وورد في المقال ما يلي: «إن البحث عن طريق إلى بلاد الهند أدى للعديد من الاكتشافات السعيدة لخدمة الإنسانية، فقد سُبرت سواحل أفريقيا وتم اكتشاف أميركا وجرى شق برزخ السويس. ومن المحتمل أن يكون حل المشكلة اليهودية موجوداً في موازاة أقصر طريق نحو بلاد الهند».

وفي رهان لديه على جميع الاحتمالات تجاه أوروبا الطامعة لاقتسام غنائم الرجل العثماني المريض، قدم «هيرتزل» إلى ألمانيا العروض نفسها المقدمة إلى بريطانيا، وهي: شراكة ذات ميثاق تحت الحماية الألمانية… ولوح أمام القيصر الألماني بفوائد وأهمية الدور الذي يمكن أن تؤديه الصهيونية لتخليصه من الاشتراكية. إلا أن خشية القيصر الوحيدة كانت تكمن في أنه «إذا شعر اليهود بوجودهم تحت حمايته، فلن يرغبوا في مغادرة ألمانيا إطلاقاً».

سعى «هيرتزل»، جاهداً، ليثبت له أن الصهيونية تخدم المصالح الألماني، ليس ضد بريطانيا فحسب «كما سبق وبيّن ذلك إلى أولنبورغ» وإنما ضد فرنسا وروسيا: «لقد أصبحت فرنسا ضعيفة ومكانة روسيا في هبوط» مضيفاً: «إن فرنسا ليست في وضع يتيح لها تشكيل عقبة أمام مشروعنا».

وبالرغم من تحفظات المصرفي البريطاني اليهودي روث تشيلد المعروف باسم «روتشيلد» الذي كان في البداية معارضاً للصهيونية، لم تكن الدولة اليهودية التي نادى بها سوى تظهير لرسالة إلى «روتشيلد». وقد حصل على موافقة المؤتمر الصهيوني الثاني الذي انعقد في «بال» في آب أغسطس العام 1898 من أجل إنشاء المصرف الذي كان يحلم به «تروست كولونيال جويف». وتوصل بفضل المصرف إلى الحصول في شهر شباط فبراير العام 1902 على ثلاثة كتب اعتماد: الأول من مصرف «ليون» في باريس، والثاني من مصرف «ريردندر» في برلين، والثالث من مصرف «لويدز» في لندن، على أن تودع الأموال في المصارف التركية.

وهكذا كان باستطاعة «هيرتزل» التحدث إلى السلطان العثماني عبدالحميد الذي كان على حافة الإفلاس، من موقع القوة. ووجّه كلاماً واضحاً للسلطان: «يعني فلسطين وأنا أصحح أحوالك المالية وأسدد ديونك!». كانت تلك الخطة مغلقة بالكثير من الدبلوماسية، ولكن السلطان رفض بيع فلسطين، وأبلغ «هيرتزل» قائلاًً له: «لا أريد بيع ولو أصبعاً واحداً من هذه الأرض لأنها ليست ملكاً لي وإنما ملك شعبي الذي اكتسب هذه الإمبراطورية وروّاها بدمه… وفي استطاعة اليهود أن يحتفظوا بملايينهم. وعندما تنهار إمبراطوريتي قد يحصلون على فلسطين مقابل لا شيء، ولكن يمكنهم تمزيق جثتي فقط، فأنا لا أستطيع أن أقبل بتشريح الأحياء».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى