ستبقى تدمر… قلب المشرق ووجدانه

جمال رابعة

بعد أسرها ردّدت زنوبيا تقول: كانت أذناي تسمعان ضجيج أسواق تدمر ونداءات باعتها، كنت أسمع صوت ولدي يناديني، فالتفت لكني لم أر أحداً، كنت أشتمّ روائح أحجار ورمال بلادي، واليوم أنا على علم بأنّ حياتي قد سلبت وتفرّق شمل شعبي لكنه لم يمت ولن يموت – حتى قبور تدمر قد هدمها البرابرة.

زنوبيا التي توسّعت امبراطوريتها وامتدّ حكمها من نهر النيل غرباً حتى الخليج والفرات شرقاً، ومن البوسفور شمالاً حتى الصحارى العربية جنوباً، إذ دخل الامبراطور أورليان بجيوشه الجرارة تدمر وقام بتدمير كلّ شيء في المدينة، ونفذ أشنع المجازر بشعب تدمر الذي قاتل ببسالة في وجه أورليان.

وما حصل بالأمس لمدينة تدمر هو أنّ التاريخ يعيد نفسه، فالامبراطورية الأميركية حديثة العهد ضاقت ذرعاً بالحضارات والمدن التاريخية ذات البعد الإنساني الموغلة في القدم والحضارة البشرية، إضافةً إلى حملاتها في المنطقة ذات البعد الاقتصادي والسياسي، فعامل التاريخ ببعده الإنساني، يعتلي ويتقدّم على الأهداف، لعقدة النقص التاريخية والحضارية لتلك الدول المشكلة حديثاً التي لا تملك قيمة تاريخية وحضارية كالولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني وما يسمّى «داعش».

إنّ ما يجمع القائمين على تلك الدول مع المؤسّسين الأوائل لها، هو الكثير من التشابه والتقاطعات لجهة الأسلوب الدموي والوحشي، هؤلاء المؤسّسون الذين هم عبارة عن المجرمين والقتلة والمغامرين الأوائل الذين هاجروا من كلّ دول العالم إلى أميركا، وما أعقب تلك الهجرة من إبادة للسكان الأصليين من الهنود الحمر، تماماً كما فعلت عصابات الهاغانا والشتيرن بالشعب العربي الفلسطيني واغتصابهم لفلسطين بالقوة بدعم أميركي- بريطاني.

وها هي عصابة «داعش» التي أنشأتها ورعتها المخابرات الأميركية منذ احتلال العراق 2003 بمكوّنها الأساسي من المجرمين والقتلة من كلّ دول العالم، وبنهج وهابي تكفيري، قادر على الاستقطاب لجهة الطائفية الإقليمية والتعبئة الاجتماعية وضمن سياسة الفوضى الخلافة التي أطلقتها كوندوليزا رايس، يعزز وجوده وتكفيره وجرائمه ضدّ الدولة السورية والعراق وإيران.

وفي ذات السياق ما يؤكد صحة ما نقول من أفعال والتشابه في السلوك بين واشنطن و«داعش» عندما قامت القوات الأميركية بالسطو المسلح على العراق واحتلاله، حوّلت مدينة بابل الأثرية إلى قاعدة لمروحياتها، وألحقت أضراراً كبيرة بهذا الموقع الأثري الهامّ، ضاربة عرض الحائط بكلّ قيمة حضارية وإنسانية لذلك الموقع، وما فعلته «داعش» في العراق يتشابه بذات السلوك، فقد قامت بتدمير خورسبياد الأثرية في ناحية معشيقة شمال الموصل وتسويتها بالأرض بعد سرقة الآثار التي تعود إلى 2000 عام قبل الميلاد، وبذات الأسلوب كان فعلها البربري في مدينة الحضر الأثرية في جنوب المحافظة وفي منطقة النمرود التي تبعد مسافة 30 كم جنوب الموص، إضافة إلى تدمير متحف الموصل. كلّ ذلك حدث تحت أنظار ورعاية قوات التحالف بزعامة واشنطن.

أما في سورية، واستكمالاً للنهج والسلوك التدميري للحضارة الإنسانية، قامت هذه العصابات التكفيرية في أماكن سيطرتها بنهب الآثار وتفجير وإزالة الأوابد الأثرية، كما حصل في الشمال السوري في إدلب ومعرّة النعمان وغيرهما، ولا ننسى أفعالهم عند دخولهم متحف مدينة تدمر وتكسيرهم بعض المجسّمات، وتفجير مزار محمد بن غليط، ومزار العلامة التدمري في مدينة تدمر الأثرية، وهما مدرجان على لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو، إضافة إلى تفخيخ المدينة الأثرية بكاملها بهدف تفجيرها.

في الختام أستطيع أن أقول كما قالت زنوبيا ملكة بلد المقاومين كما تعنيه كلمة تدمر بالآرامية، إنّ شعبي لم يمت ولن يموت، بالرغم من الحرب القذرة التي تقودها واشنطن والتي جوهر استهدافها هذا المشرق العربي وما تشكله تدمر بوصفها قلب هذا المشرق ووجدانه.

عضو مجلس الشعب السوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى