«داعش» خارج السيطرة… أم هو ضوء أخضر للمحرقة؟

حاتم الشلغمي تونس

يبدو أنّ عبارة «الإرهاب لا يهدّد منطقة بعينها بل يهدّد كلّ العالم» أصبحت بمثابة القناعة السياسية حيث صرّح بها أغلب ساسة المنطقة وأوروبا، برغم أنهم كانوا يعتبرونها بمثابة التهديد حين ردّدها مراراً وتكراراً الرئيس بشّار الأسد وقائد المقاومة السيّد حسن نصر الله قبل سنوات. حيث أكّدا أنّ المنطقة باتت في مواجهة مشروع يستهدفها تاريخاً وجغرافيا، شعوباً وخيارات، وأن لا علاقة للأمر بثورات ولا بديمقراطية ولا حرّيات، وأن لا خيار سوى محاربة هذا الفكر، خصوصاً بعد اعتلاء تنظيم «داعش» مسرح عمليات المنطقة. ولكن عملاً بمقولة الأديب المسرحي صامويل بيكيت «لا تهتمّ كثيراً بما يجري فوق خشبة المسرح ما دمت تدرك ما يدور خلف الكواليس» تكون المقاربة على شكلها الآتي.

ينسى الكثيرون أنّ «داعش» ذروة ما وصل إليه العقل الوهابي بعد «القاعدة» و«الإخوان المسلمين» أو ما بات يُعرف بـ«تنظيم الدولة» وما ماثلها من تنظيمات إرهابية أخرى يشكّلون أداة حقيقية بيد «النظام العولمي» الذي ظلّ يحكم العالم بالحديد والنار والأفكار طيلة عقود، ايّ منذ أن تشكّلت فكرة «الخروج إلى ما وراء المحيط» في العقل السياسي الأميركي المبني أساساً على التوسّع والهيمنة والمركزية الإثنوسياسية.

يحاول هذا «النظام» الآن، بعد فشل كلّ منظومته، وانكشاف همجيتها ووحشيتها منذ أن أعلن عن «نهاية التاريخ»، ابتزاز النظام السياسي العالمي، عبر تعميق دائرة تحطيم وتدمير المكان السياسي خصوصاً في المنطقة التي باتت تشكّل منظومة «اختلاف» حقيقي، وذلك لإخضاع النظام السياسي، بل التاريخ العالمي، لأفكار وتوجّهات ورغبات هذا «النظام العولمي» عبر العنف المسلّح وغيره من أدوات العدوان، الإعلامية، المعلوماتية والاقتصادية، وذلك من خلال تحالف الأيديولوجيا الإمبريالية ذات الأصول الأوروبية البربرية بنسختها المستحدثة، أيّ الأميركية، مع الايديولوجيات التاريخانية، المتمثّلة خصوصاً في الايديولوجيا الإسلامية بعد أن افتكت هويتها الوهّابية، ليشَكُّل هذا التحالف: الايديولوجيا البربرية العالمية أو كما اتفق على تسميته إرهاب .

لقد شكّلت عمليات «تشارلي ايبدو» وليون بفرنسا، باردو وسوسة في تونس والكويت والسعودية ومصر، وقبل ذلك ما شهدته ولا تزال الساحة السورية واللبنانية والعراقية على امتداد سنوات، الدليل القاطع على كون ما يحدث ليس مجرّد عمليات معزولة أو اختراقات أمنية، بل ربما تكون الذريعة كذلك، وإنما بات أمراً واقعاً لا ريب فيه أنّ هنالك غرفة عمليات دولية تدير هذا الإرهاب وتستثمر فيه خدمة للأجندة المذكورة أعلاه.

لقد استدعى ما حصل في تونس إعلان حالة الطوارئ في البلاد، كما قبول وجود محققين بريطانيين للكشف عن ملابسات الحادثة الإرهابية، تزامناً مع حالة الحرب الحقيقية التي تعيشها المؤسسة العسكرية المصرية في مواجهة الإرهاب في سيناء، ليصرّح كلّ من السبسي والسيسي بأنّ كلا من تونس ومصر في حالة حرب ضدّ الإرهاب الذي لا يشكّل تهديداً لتونس ومصر فقط، بل كلّ العالم، وتحديداً أوروبا والولايات المتحدة. وبرغم المؤاخذات التي أخذت على خطابي السبسي والسيسي من حيث عدم الدقة في اختيار بعض المصطلحات، وتعويل قائد السبسي على «أصدقاء تونس» المسؤولين عن تنمية الإرهاب في الواقع كما نظرة الرئيس السيسي إلى القوات المسلّحة المصرية على كونها قادرة لوحدها على تحمّل كلّ الأعباء والمسؤوليات وعلى رفع كلّ التحدّيات، يتبيّن أنّ الأمور قد تتطوّر أكثر سياسياً وميدانياً في ظلّ ما هو محضّر للمنطقة ولمصر خصوصاً، رغم أنه ليس من الضروري تحقّقه بفضل سواعد الأوطان ودماء المقاومين.

يبدو أنّ الواقع العربي واحد، حيث الدم والمأساة والترنّح الاقتصادي، لكن المنطقي والمقبول هو حين تواجه الدول العربية الخطر ذاته، علينا أن نصل الى قناعة وحيدة أنّ ما يقع في الخرائط العربية ليس إلا استفراداً بجيوش المنطقة كلّ على حدة، وهذا مخطّط «إسرائيلي» تمّ إقراره منذ حرب 1973 وبدأ اعتماده منذ أن تمّ إخراج مصر من خندقها المقاوم للمشروع الصهيوني.

المنطق يفضي أيضاً إلى نتيجة واحدة لصدّ هذا المشروع، وهو الوحدة والتنسيق الاستخباري والأمني والعسكري بين الدول العربية المستهدفة عبر الإرهاب، وبه، من العراق إلى سورية إلى لبنان ومصر وتونس والجزائر التي يُراد لها أن تشهد تطوّرات خطيرة في هذه المرحلة وضمن ما هو مخطّط للمنطقة.

إذن لا أحد يتصوّر أنه قادر على صدّ الهجمة الشاملة لوحده، فبالتالي عندما يكون المشروع الاستفراد بجيوش المنطقة، وعندما يكون الهدف إنهاء هذه الجيوش، لا يبقى لهذه الدول المستهدفة سوى خيار الوحدة في الصراع المشترك الذي قد يأخذ تأويلين في تحليله.

من جهة أولى، ثمة من يقول إنّ «داعش» خرج عن سيطرة من أنشأه ونفخ فيه. وهذا طرح قد يكون صائباً خصوصاً بعد تطورات الأحداث وما تشهده الساحة السورية من تحوّلات استراتيجية هامة للجيش العربي السوري والمقاومة بدءاً بساحة القلمون وصولاً الى الزبداني المحيطة بدمشق ودرعا والسويداء جنوباً وحلب والحسكة شمالاً وحمص شرقاً. وعلى الساحة العراقية التي تشهد نجاحات هامة لوحدات الجيش العراقي والحشد الشعبي لكي نصل إلى نتيجة واحدة وهي حصر «داعش» في دائرة جغرافية واحدة وقطع أوصالها مع تركيا، وربما بهذا نفهم سبب التخبّط التركي على الحدود مع سورية، وذلك للعواقب الوخيمة التي قد تحملها النجاحات السورية والعراقية على الداخل التركي، حتى وانْ كانت الذريعة «الكيان الكردي» خلافاً إلى سقوط الحلم التركي في كلّ المنطقة العربية من سورية إلى تونس مروراً بمصر وهذا ما يفسّر الاضطرابات الأمنية التي تقع في هذه البلدان التي تؤكّد أنّ مصدر الإرهاب الأول هي الساحة الليبية.

من جهة ثانية، ما يشكّله الاتفاق النووي لإيران من انعكاسات مباشرة أو غير مباشرة على عديد الساحات سواء تلك التي تقف إيران إلى جانبها، أو تلك التي تجد نفسها متضرّرة من حصول هذا الاتفاق الذي سيعزّز من وجودية إيران كقوة صاعدة وفاعلة في المجالين الإقليمي والدولي. خصوصاً بعد إقرار أوباما أن «لا بديل عن الاتفاق مع إيران سوى الاتفاق» لا نجد غرابة في ما وصلت اليه المنطقة خصوصاً أنّ تحالف «المتضرّرين» تحالف المتنافسين القدامي المتمثّل أساساً في السعودية، تركيا و«إسرائيل» لا يزال يتمتّع بالضوء الأخضر الأميركي من الاستثمار في الإقلاق الاستراتيجي في الخرائط العربية، لذلك يقوم هذا التحالف بمحاولات بعثرة الخرائط في المنطقة، أو ربّما جرّها إلى محرقة المصالح الصهيونية لتشكيل «أولويات» جديدة على حساب توقيع الاتفاق، أو كمحاولات للضغط على دول معينة من الانخراط في هذا التوقيع كفرنسا وبريطانيا على سبيل الذكر لا الحصر، وبذلك تكون هذه الكيانات «المتضرّرة» من الاتفاق قد حقّقت معظم أهدافها الاستراتيجية في المنطقة، تحطيم الجيوش المحيطة بها، ضمان القرار السياسي للدول تحت سيطرته بقوة المال أوتحت راية التهديد الإرهابي.

إذن ما يحدث الآن، ليس إلا تحالفاً بين الثغرات التاريخية السياسية والدينية التي تتماهى مع فكرة «سقوط الحضارة ونهاية التاريخ» خدمة لمصالح ورغبات «النظام العولمي» الذي يترنّح في المستنقع السوري، العراقي، الليبي، الأوكراني، التونسي، والمصري، وفي كلّ منطقة طالتها يد هذا «النظام» الذي يحاول تمزيق ما أمكن من خرائط وتفتيت ما أمكن من أنسجة مجتمعية في العالم واستخدامها في عمليات الابتزاز السياسي، العسكري والاقتصادي لمكونات النظام السياسي العالمي، خصوصاً تلك التي تحيط بـ«إسرائيل» الثكنة العسكرية الاستخبارية الأوسع والأكبر لهذا النظام . أما هذا العنف المركّب، لا يمثّل إلا استثماراً لآخر الأوراق والخيارات في ربع الساعة الآخير من نهاية امبراطورية «شرطي العالم» الدموية والوحشية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى