الطائف
حسين ماجد
الطائفية في لبنان، مرض مزمن، سوف يقضي على الدولة، وعلى المجتمع، بمساعدة، قوى، وعوامل خارجية، ولم تتمكن القوى، والتيارات، والأحزاب، ابتداءً من عاميتي «انطلياس، ولحفد» في عام 1820 حتى انتصارات المقاومة الوطنية، المستمرة ليومنا هذا، مروراً بنضالات الأحزاب العلمانية، السوري القومي الاجتماعي، والشيوعي والبعث العربي الاشتراكي، من التأثير، والتغيير، بالرغم من انكشاف طبيعة النظام وارتكابه الجريمة الكبرى باغتيال أنطون سعاده، باعث النهضة القومية الاجتماعية، بإعدامه رمياً بالرصاص صبيحة فجر 8 تموز 1949، بعدما سلّمه حسني الزعيم، من سورية الى السلطات اللبنانية.
نظام طائفي، تخلى بموجبه المسلمون عن عروبتهم، فتلبننوا، وتخلى المسيحيون عن فرنسيتهم، فتعربوا، وتمسك
الطرفان، كلّ، بطائفته، وأقرّ مندوباهما «ميثاق العيش المشترك» المجهول، المحجّب، حتى لا يعرفه أحد، ونطقت في حينه، عقدة ذنبهم، لتبرير جريمتهم، بقولهم: «إنّ إلغاء الطائفية، لاحقاً، سيكون ساعة مباركة في تاريخ لبنان. ولم تحن حتى تاريخه الساعة المباركة، وعمّرت ساعتهم النحس المخزية، وتناتش الجميع الجسم المريض، وتفشى المرض، في عقولهم، ونفوسهم، وسلوكهم، وبيئتهم وبنيتهم، وتوحدوا في وجه كلّ عضو، جديد، سليم، فتآلفوا، وتعايشوا، وتآنسوا، مع المرض، ومع هذا النظام الطائفي، الذي تحوّل بعلاقاته الاقتصادية، والثقافية، إلى نظام «طاغية» حتى أنّ معظم حكامنا، يجاهرون، بوقاحة، ويقضون على تمنيات من أسّس هذا النظام، بقولهم: «إنّ النظام السليم لا يستمرّ إلا بالطائفية، والطائفية هي من بنية هذا النظام القائم، وهي فعلاً، بحدّ ذاتها، لخدمة جميع المواطنين.
تشعّب، وتفرق الشعب اللبناني، ويعيش حالة تشتت، وفقدت الدولة أبسط شروط، وجودها، وتقوقعنا، أسراً، وعشائر، وقبائل، ومذاهب، متناحرة، متنافرة، داخلياً، الكلّ ضدّ الكلّ، والصراع شامل، ومستمرّ بين الجميع، مسيحي ومسلم، شيعي وسني، غني وفقير، قوي وضعيف، طبيب ومريض، مالك ومستأجر، مقاوم ومتقاعس، عامل ورب عمل…» هذا إضافة الى ما تركه، هذا المسار، خلال 72 عاماً، من حروب، ومنازعات، وتقاتل، وخيانات، ومواثيق وطنية، ومؤتمرات، وانقسامات، ومعاهدات، وفساد، وسرقات، وتمديد، وحوارات، ومساومات، واغتيالات، واحتلالات، التي كانت نتائجها، وبالاً، على من يسمّونهم اليوم، أطيافاً، وشوارع، ومكونات، الذين أصيبوا بالإحباط، وعدم الثقة بالغير، والاتكالية، والخنوع، والخضوع، واللامبالاة، وتحييد انفسهم، والانسحاب، من قضايا المجتمع، ولن ننسى ما هدموه من بناء وبيئة واقتصاد، ولم يعتبروا، ولم يتغيّروا، أويغيّروا، سلوكهم، أو ما بأنفسهم.
انطلق «ماراتون» بعض اللبنانيين، إلى دمشق، منذ العام 1976، وأوّل الواصلين، صرح مرتاحاً: «لقد اتفقنا مع سورية، على خطط ترضينا، إنني أثق ثقة كاملة بالرئيس حافظ الأسد، وسورية الدولة الوحيدة، التي تستطيع فرض السلام في لبنان». ثم تنكروا لسورية وحاربوها، وما زالوا، واستعانوا بـ«إسرائيل» التي عجزت عن مساندتهم فتخلت عنهم وأهملتهم.
في أواخر العام 1989، فرضت سورية، ومعها في حينه، الأميركيون والسعوديون، السلام في لبنان، بموجباتفاق الطائف أو وثيقة الوفاق الوطني اللبناني.
يعتبر بعض اللبنانيين أنه، في الشكل والصورة، وضع اللبنانيون «الغالبون» وثيقة الوفاق الوطني بغياب «المغلوبين» في الحرب الأهلية اللبنانية، وبرأيهم، أنّ من وضع هذه الوثيقة، هم الانتهازيون، المحرّضون، المتفرّجون، المتغابون، المستفيدون، من هذه الحرب، ومن نتائجها، خاصة الاقتصادية، وأنّ الخاسرين، «المغلوبين» هم الشعب اللبناني، بأكمله، ومن دون استثناء، إنه الشعب البسيط، ضحية هذا النظام الطائفي، الذي أفقده انسانيته، وسلبه حريته، ووطنيته، وجعله حكامه أداة، واستخدموه، في القتل، والتخريب، والتدمير، وعندما استراح افترسوه. واستمرّ هذا البعض من اللبنانيين بالمطالبة بإلغاء أو تعديل هذه الوثيقة، مع العلم، أنها حُجبت عن اللبنانيين، ومحاضر اجتماعاتها حظّرت عليهم، وأقرّت، سريعاً، ثم ضمن معظم بنودها، بالدستور «الفرنسي، اللبناني» الذي لم يمسّ خلال خمسين عاماً، باستثناء بعض التعديلات الثانوية، التي أجريت عليه بين عامي 1943 و 1947.
الطائف، لغة، هو الحارس، الخادم، الذي يحمي، ويخدم، برفق، وعناية، وضمير، وواجبه، حماية لبنان. ولكن من وجهة نظر معظم اللبنانيين، انّ هذا الطائف، لم يقم بواجبه، بل، استغلّ، لخدمة أسياده، وحراسة وحماية أبناء جنسه «الطوائف، والطائفية، والطائفيين». ولم يفطن إلى وجود وطن ومواطنين، وتركهم تحت رحمة اللصوص والمجرمين.
والوثيقة، هي العهد، والتعهّد، والثقة، ويعتقد البعض أيضاً، أنها، ومن دون عملية جراحية، قد تحوّلت سريعاً، الى «وثاق» للعقل، والعمل، والحركة، تعيق التقدم، والتجدّد، والتطور، والعلم، والتحديث، والبناء، وألغت مؤسسة رئاسة الجمهورية. و«الوفاق الوطني»، تسامح، وتعاون، ووفاء، فإذا به ينقلب، نفاقا، وخداعا وبغضاء، ورياء.
الآراء متنوعة، والمواقف، متعدّدة، متناقضة، حول هذه الوثيقة، من حيث، التطبيق، والصلاحية، والصلاح، والتفسير، والعدالة، وتكرّرت المطالبة، بالتعديل، وأحياناً بالتغيير والتبديل.
من الطبيعي، في مجتمع الخلل، والتباعد، والتناحر، أن تحدّد، المنافع الشخصية والفئوية والطائفية، الموقف، تأييداً،
كان أو رفضاً لمضمون هذه الوثيقة، ولآليات وأساليب تنفيذ بنودها، لأننا عندما نصنع من الخشب طاولة، فهذا يعتبر من وجهة نظر الخشب، تفكيك، ومن وجهة نظر الطاولة، بناء.
وثيقة الوفاق الوطني، «الطائف»، كانت محطة أساسية، لاستراحة ضرورية، في مسيرة لبنان الشائكة، وهي العملية
الممكنة، والمتوفرة، في حينه لاسترداد قوته، واستعادة عافيته، وتعزيز قدراته، وتوكيد وحدته، وفعاليته، ومناعته، بالرغم من غياب، فئة كبيرة من اللبنانيين، ومواقفهم السلبية منها، وقد تضمّنت أربعة بنود رئيسية هي:
أولاً: المبادئ العامة، والإصلاحات.
ثانياً: سيادة الدولة على كافة الأراضي اللبنانية.
ثالثاً: تحرير لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي».
رابعاً: العلاقات اللبنانية ـ السورية.
وكان من أهمّ أهداف هذه الوثيقة:
إنهاء الحرب اللبنانية – وضع أسس بناء الجمهورية – تأكيد هوية لبنان العربية – تجاوز أزمة الغبن في المشاركة – تحقيق العدالة والمساواة والمحافظة على الحريات – تحرير الوطن من الاحتلال الإسرائيلي – وحدة الأرض والشعب وإعادة المهجرين – القيام بالإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية ووضع وتنفيذ خطة إنمائية شاملة . هذا بالإضافة الى قضايا أخرى، إلغاء الطائفية السياسية، إنشاء مجلس شيوخ، وخريطة للتقسيمات الإدارية…
وبعد مضي أكثر من 25 عاماً على وضعها، لم تتحقق أهدافها، لعدم التطبيق، أو لسوئه، وإما للتحيّز في التفسير، وعدم الفهم، باستثناء تحرير لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي» الذي حققته المعادلة الذهبية «الجيش والشعب والمقاومة».
إنّ الظروف ذاتها تقريباً، التي فرضت «الطائف» تضغط اليوم، لتحصينه، تقييماً، وتقويماً، وتطبيقاً، بمشاركة العقول
والذهنيات المؤهّلة، الوطنية، الفاعلة، التي تمثل كافة الشعب اللبناني. ومن المستحسن المباشرة بالخطوات التالية:
1 ـ شرح الوثيقة، وتحليل محتواها، وخلفياتها، وغايتها، من خلال ندوات، وحلقات دراسية، ومؤتمرات، في الجامعات، والأندية، والنقابات، والأحزاب…
2 ـ نشر الوثيقة، مع محاضر الاجتماعات، التي أنتجتها، وتعميمها، من خلال وسائل الإعلام والاتصالات.
3 ـ دعوة الجميع للمساهمة، والمشاركة، في اقتراح الطرق والأساليب، لتنظيم المجتمع، ومؤسساته من خلال نصوص الوثيقة.
4 ـ إلقاء الضوء على الإصلاحات السياسية، وعلى الجوانب الإنمائية الحياتية، وإمكانية المشاركة الشعبية الديمقراطية، الحرة، في وضعها، وتحقيقها.
5 ـ شرح ونشر مضمون «ميثاق العيش المشترك».
6 ـ وضع دستور وطني، مستمدّ من نتائج هذه اللقاءات، يقرّه استفتاء شعبي، وإلغاء كلّ المواثيق، والاتفاقات الأخرى، وكلّ ما يتنافى مع مواده.
وسنحاول، لاحقاً، إلقاء الضوء على بنودها الأربعة، تحقيقاً لما تضمّنته هذه المقدّمة.