هل نحن نحن… أم نحن «الآخر»؟ دعوة الى التعرّي النفسي!

د. رأفات أحمد

لعلّ مصطلح التعرّي يثير في النفس كثيراً من الأحاسيس الغريبة التي تعتمل في الفكر بمجرد نطقنا له. إنه يرتبط بكشف الجسد والذي، كمجتمعات شرقية، لا يمكننا إلا أن نربط عريه بكثير من قوانين العيب والحرام، وبكثير من خيالات الشهوة والغريزة. هذا الجسد الذي هو عقدة العقد، ومكمن الضعف، وعنوان الذلّ، وسبب الدخول في جنة النعيم أو نار السعير.

ربما امتدت الرقاب واستشاطت الأفكار وتسارع نهم القارئ لتناول المقال بكثير من الشوق واللهفة لمتابعة ما كُتب عن تعرّي هذا الجسد، لكن ما أودّ تناوله في هذه العجالة، التعرّي النفسي الذي تخشاه مجتمعاتنا الشرقية خشيتها من التعرّي الجسدي، وإن كان هذا الاخير مرتبطاً بالدين والأخلاق والأعراف، فإن التعرّي النفسي مرتبط بثقافة مجتمع، وبوعي الانسان، وبنيته المعرفية.

رجالاً كنّا أم نساءً، ترعبنا بشدّة فكرة التعرّي النفسي، رعبنا من العري الجسديّ، لا بل هو أشد وطأةً لأنه مرتبط بالكشف عن نقاط ضعفنا وهواننا وحقيقتنا الهشّة في كثير من المواضع. نتحاشاه ونمارس التقنّع بمهارة فائقة سواء عن سبق إصرار وترصد، أو انطلاقاً من حالة طبيعية بحتة ننزع بالفطرة لارتداء الاقنعة وبالفطرة نتقن التمثيل ونصيّر الباطل حقاً والحق باطلاً. فنٌ هو لدينا تعدّد الوجوه واصطناع الاخلاق والسلوكيات ورسم الأحداث. فها هو السارق فكر غيره ونتاجه، سياسيّ لامع متصدّر الاجتماعات والشاشات، وها هو زير النساء واللاهث وراء شهواته رجل دين صالح ننتظر وعظه بكثير من التسليم والايمان المطلق. وها هو المتملّق المتدلّس سيّد في الصالونات الأدبية والاجتماعية.

نعم، إن القدرة على ارتداء الاقنعة والتلطّي وراء وجوه وسلوكيات، أبعد ما تكون عن واقعنا الحقيقي كأشخاص. هي «خَصلة» وميزة نتفرد بهما عن غيرنا من الشعوب، ونمارسهما ضمن بيئة اجتماعية وسياسية متسلّطة ضاغطة، بيئة تمنع وتعيب على الانسان أن يكون ذاته على حقيقتها. تشجّع وتحبّذ وتبارك أن نكون «الآخر» غير الموجود أصلاً في ذواتنا.

يقدّم الواقع الذي نحياه في مجتمعاتنا العربية بيئة خصبة لنمو اتجاهات لا سوية كهذه، ويمنع علينا ممارسة العري النفسي بكثير من الرضى في أي موقف اجتماعي كان. فنحن «الآخر» في الحب و«الآخر» في العمل و«الآخر» مع الجارة، و«الآخر» مع أطفالنا. نحن لسنا نحن، كما نحن مع الاخرين. بل نحن «الآخر» الذي ليس فينا ولا يمكن ان يكون يوماً فينا.

يسترسل البعض في شرح واقع سياسي مثقل بالحروب والهزائم أضفى على الشخصية العربية ذاك البعد اللاسويّ من التمثيل وارتداء الاقنعة، ويلقي البعض الآخر باللائمة على الواقع الاجتماعي المتخلف الذي يولد ذهنية متحجرة تتصف بالجمود والبعد عن المنطق في التفكير لتضطر في النهاية ألا تكون نفسها، وإنما الاخر. و بينما ينزع البعض لإلقاء اللوم على النظام الاقتصادي السائد في المنطقة، تنزع البقية الباقية لإلقاء اللوم على الدين الذي فقد جوهره اللاهوتي وتسيّس بيد أصحاب أولي الأمر، وأضحى أفيوناً للشعوب مخدّراً وعيها قبل سلوكها.

هنا، لا بدّ لنا من التفريق بين ظاهرة ارتداء الاقنعة المنطلقة أساساً من الكذب والمراءاة، وظاهرة تعدّد الادوار المستندة إلى الذكاء الاجتماعي المرتبط بحتمية الوجود في نطاق اجتماعي متعدّد وواسع. فالمدير الحازم في عمله مطلوب منه أن يكون أباً رؤوماً في منزله، وصديقاً متواضعاً مع أصدقائه. والسيدة ذات المنصب السياسي المرموق، نجدها أمّاً حنوناً في منزلها بين أطفالها، وقائدة استثنائية في عملها، وأختاً طيبة لصديقاتها. إذاً هو تعدّد في الادوار منطلق من حال اجتماعية سوية مطلوبة لضمان التكيف والتواصل الفعال مع المحيط.

ومهما تعدّدت محاولات التفسير والتحليل لظاهرة الخوف من التعري النفسي أمام الاخر، واللجوء إلى ارتداء الاقنعة، تبقى هذه الظاهرة حقيقة مرة، لا يمكننا نكرانها أو تجاهلها بعدما تفاقمت وأصبحت سمةً للإنسان العربي يفاخر بها. وإن أدركنا حقاً كنهها، لأدركنا فعلاً أي ثمن يكلفنا خوفنا من هذا التعرّي النفسي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى